الثلاثاء ٢٢ آب (أغسطس) ٢٠٠٦
"ملكة جمال المتوسط" لمصطفى الحسني:
بقلم جميل حمداوي

بين الحب الرومانسي والبناء الكلاسيكي

تمتاز رواية "ملكة جمال المتوسط" بطابعها الرومانسي المثالي، إذ تسرد لنا قصة حب عذرية بين عشيقين مخلصين ووفيين للحب. وهذان العشيقان هما "الروبيو" و"لويزة" اللذان عاشا في بيئة قروية تتسم بجمال الطبيعة، وصفاء الجو، وهدوء المكان، وروعة البحر. وكانت القرية مقصد السياح يزورونها للاستمتاع بنقاء المكان، وسحر شاطئها، وشمسها الذهبية الساطعة. في هذه الطبيعة الرومانسية نشأ " الروبيو" و"لويزة" على الحب والوفاء والإخلاص منذ الصغر. وازداد حبهما أثناء التقائهما في المدرسة والغابة، والمشاركة في مسابقات الحيوانات،وكانت بينهما قرابة وألفة. وأنقذها مرة من الغرق. ومن المعلوم أن "الروبيو" سباح ماهر وفتى شجاع.

وما كان يعكر علاقتهما هو الفقر على الرغم من الحب المتين الذي يربطهما برباط وثيق. وقد كان العشيقان معا من طبقة فقيرة؛ لا تعرف إلا شظف العيش، والقساوة في الحياة، والآلام المتكررة، واستحالة التكيف مع الطبيعة، والتأقلم معها بسبب الفقر وشدة الحاجة، وانتقلت لويزة إلى المدينة عند خالتها لمتابعة دراستها الثانوية، وبقي "الروبيو" في القرية يلح على والده أن يسمح له ياستكمال دراسته، بيد أن أباه رفض رغبة ابنه في التعلم ونصحه بأن يبحث عن شغل ليساعد والديه في حياتهما الشقية. لكن "الروبيو" صمم على مواصلة الدراسة، بينما ظروف الفقر حالت دون تحقيق ماكان يطمح إليه. وهكذا وجد نفسه مرة مساعدا في متجر أحد الأثرياء، ومرة أخرى نادلا في إحدى مقاهي المدينة، وكان أبوه هو الذي يأخذ أمواله. وبعد ذلك طلق زوجته " أم الروبيو" وتركها طريحة في حظيرة المعز حتى ماتت من شدة الغيظ والحنق. وتزوج من المرأة في القرية التي كان يختلي بها ويخون زوجته الأولى. وكان "الروبيو" على علم بذلك ولكنه لا يستطيع أن يخبر أمه بذلك مخافة من قساوة أبيه وفظاظته.

وفي المدينة اشتد الحب بين "الروبيو" و"لويزة" بعد أن استعارت شعلته على شاطئ البحر وقرب المنار العتيق، وكثرت اللقاءات العاطفية بينهما في الحديقة العمومية، وفي المقهى حيث يشتغل فيه نادلا، وقرب السينما وهما يشاهدان عناوين الأفلام الرومانسية مثل " العروس والشيطان". لكن هذا الحب سرعان ما سينقلب إلى جحيم عندما تقرر لويزة المشاركة في مسابقة ملكة الجمال في بلدتها؛ مما أشعل نار الغيرة في نفسية حبيبها"الروبيو" الذي كان يحبها حبا جنونيا. وبالفعل، فقد فازت لويزة بالمسابقة لحاجتها الماسة إلى المال، وبدأت الفجوة تتسع بينهما ولاسيما عندما اقتربت لويزة من الأثرياء، وبدأت تنفر من "الروبيو" الفقير. وهكذا، قرر الفتى العشيق أن يبتعد عنها وأن يطردها من حياته بعد أن خدعته واستبدلته بالأغنياء.

لذلك عزم "الروبيو" على ترك البلد ومغادرته نحو الضفاف الأخرى بحثا عن العمل وأمل مستقبله والزواج بشقراء جميلة للانتقام من لويزة الخائنة حسب اعتقاده.

أما لويزة فقد فازت في المسابقة الوطنية لملكة الجمال، وبدأ صيتها يزداد يوما بعد يوم. وتغيرت أحوالها الاجتماعية والمادية نسبيا. وقررت المشاركة في مسابقة "ملكة جمال المتوسط" ولكن مشاركتها باءت بالفشل، إذ انتصرت عليها شقراء من ضفة أخرى. ومن ثم، تحطمت آمالها، وبدأ بريق الثراء يخبو، فوجدت جمالها سرابا خادعا ليس إلا. وتراجع عنها المحبون، وتضاءلت فرص إقبال الزواج عليها. ولم تعد لها تلك المكانة التي حظيت بها أثناء فوزها في المسابقة المحلية والوطنية. وبدأ شبح الفقر يهددها، وجمالها يذوي يوما عن آخر بسبب شدة الفاقة، والصراع النفسي، وحبها الشديد "للروبيو" الذي هاجرها. وأصبحت لويزة تعيش حياة تعيسة، تعاتب نفسها بشدة، وتصارع وساوسها، وتستسلم لوعي اليأس والتشاؤم والضياع، حتى إنها فقدت معنى الحياة وسر بقائها فيها.

وبينما لويزة ينخرها الحزن وسواد الحياة وتعاتب نفسها بسبب تفريطها في حبيبها المخلص الذي تركها وحيدة وعاقبها بالهجران، في نفس الوقت الذي نجد فيه "الروبيو" في بلاد المهجر يعاني من الاغتراب الذاتي والمكاني وفقدان حبيبته "لويزة"، ويقرر في أعماقه الثأر منها: انتقاما وتشفيا على الرغم من حبه الجنوني لها. وعرف "الروبيو" في بلاد الغربة الذل والمهانة والاحتقار؛ لأنه كان ينظر إليه من قبل الأجانب أنه الغير المتخلف الذي يجب تغريبه وإقصاؤه وتهميشه. وبعد سنوات من الاغتراب والمعاناة، يعود "الروبيو" إلى قريته حيث وجد كل شيء قد تغير، كما قد تغيرت المدينة اجتماعيا وعمرانيا، وأصبح يتيما بعد موت والده وجدته. وعاد "الروبيو" كهلا يبحث عن عشيقته ليتشفى منها، ولكنه لم يجدها في البداية معتقدا أنها تزوجت وأنجبت أولادا. واشتد اليأس ب"الروبيو"، وقرر أن يعيش حياة العزلة والوحدة على شاطئ البحر، وأن يضع حدا لحياته عند المنار العتيق تخلصا من كينونة بقائه التي لا معنى لها ولا جدوى. ولكن المصادقة ستجمع "الروبيو" بعشيقته عندما قررت لويزة أن تلقي بنفسها من فوق المنار، ولما ألقت بنفسها أنقذها "الروبيو"، ولاسيما أنه مازال سباحا ماهرا. وتعرفت لويزة عشيقها الأول كما تعرفها "الروبيو". وبعد تبادل التهم بين العشيقين اعترفت لويزة بأنها لم تكن تحب المال من أجل المال؛ بل لأنها كانت تعاني من داء عضوي هو الذي سيجعلها امرأة وأنثى كاملة، وكانت في حاجة ماسة إلى النقود لإجراء عملية جراحية، ولم يكن أمامها سوى مسابقة ملكة جمال المتوسط. ولكن هذه المسابقة آلت إلى الفشل، وأصبحت لويزة على حالها حتى أنقذها "الروبيو"، وفرجت عقدتها. وبعد اللوم والعقاب ومحاسبة الماضي، قررا الزواج معا بحضور صديقه الهولندي وزوجته "كونتيشا" البلهاء وجماعة من المعوقين الذين كانت تشرف لويزة على رعايتهم بعد تعيينها مديرة لدار خيرية. وأصبح الزوجان المثاليان غنيين بعد أن اكتشفا كنزا تحت الصخرة الكبيرة قرب دارهما الجديدة في قرية الآباء والأجداد.

ويلاحظ على الرواية أنها ذات طابع رومانسي من حيث المضمون وذات بناء كلاسيكي من حيث الشكل. وتتبنى المنظور السردي الموضوعي القائم على الرؤية من الخلف لوجود ضمير الغياب والسارد المختفي العليم بكل شيء، ولاسيما تفاصيل الداخل النفسي والخارج الفزيولوجي والأخلاقي والاجتماعي. كما أنها رواية ذاتية وسيكولوجية قائمة على التذويت والمنولوج والإكثار من المناجاة تعبيرا عن الصراع الداخلي والتمزق النفسي. وتذكرنا الرواية بنصوص تيار الوعي لوجود الذاكرة في هذا النص عبر نبش الماضي واستحضار الحاضر واستشراف المستقبل، وتداخل الوعي واللاوعي، والشعور والأحلام وتوظيف تقنية "الفلاش باك" أو استرجاع الماضي، ومن ثم، يمكن القول : إنها رواية منولوجية.

هذا، وتنتهي الرواية بالزواج على غرار الروايات الرومانسية، وتبدأ بالحب والوفاء والإخلاص بين العشيقين لتحول بينهما حوائل وموانع ستعيق هذا الحب مثل الفقر، والداء، والاغتراب مشكلة عقدة الرواية. ويبدو أن هذه الحبكة الرومانسية بسيطة جدا ومستهلكة كثيرا. ولا تسمو إلى الروايات الرومانسية الموحية والعميقة في أبعادها، لضعف دراميتها، وسطحية دلالاتها، وفقدانها لشحنة التوتر المتأزم. وكنا نتمنى أن يكتب لنا هذا الروائي – مادام يفضل كتابة الرواية الرومانسية – مثلما كتبه فلوبير (مدام بوفاري)، و مارسيل بروست (بحثا عن الزمن الضائع)أو على الأقل مثلما أبدعه أحمد حسين هيكل (زينب مثلا)، وتوفيق الحكيم (عصفور من الشرق)، وعبد الحليم عبد الله، ويوسف السباعي.

ويعود ضعف هذه الرواية إلى عدم اطلاع صاحبها على ما يكتب في الساحة الإبداعية من الروايات والنصوص المتميزة في الشرق والغرب. إذ يكتب لنا رواية إنشائية تعيد لنا قصة الحب المثالي كقصة روميو وجولييت ولكن بطريقة بسيطة، وحتى أحداث الرواية غير مقنعة بشكل منطقي، فكيف يعقل أن يبقى شاب طول حياته دون أن يتزوج إلى أن يشيخ وهو يعلم جيدا أن عشيقته قد خانته وتزوجت من غيره وربما أنجبت أولادا وبنات؟! وكيف يمكن قبول شفاء لويزة بسبب إلقاء نفسها في البحر وإنقاذها من قبل "الروبيو"؟! وعلى العموم هناك أحداث مصطنعة غير معللة ولا يرضى بها العقل، كما حدثت مفاجآت دون أن يمهد لها الكاتب بطريقة سردية وخطية مقبولة تراعي أفق انتظار القارئ.

وقد توفق الكاتب في توظيفه لتقنية التضمين، حيث ضمن الكاتب روايته قصصا فرعية مثل قصة الحمار وقصة التيس.. كما وظف الألغاز لإثارة القارئ وتشويقه. و الرواية تقليدية بحشوها الزائد واستطرادها الممل وتكرارها المجاني، وكان على المبدع أن يختزلها قدر الإمكان إلى ربعها مادامت ذات حبكة إنشائية بسـيطة لا تحتاج إلى هذا الإطـناب والتفصيل المسهب والإخبار المفرط. ويعني أن الرواية يطبعها التكرار الدلالي ، ويرتبط التكرار في النقد السردي الحديث والمعاصر (رولان بارت، فيليب هامون، سوزان سليمان) بنوع أدبي معين وهو الرواية الكلاسيكية سواء أكانت واقعية أم رومانسية [1].

ويتميز النص الكلاسيكي عن النص الحديث لدى رولان بارط (R. Barthes)، بالدلالة Signification المحددة بشكل مفرط، وحضور التكرار، والثرثرة الدلالية كما يتميز بكونه يقع تحت تأثير هاجس الخوف من عدم تبليغ المعنى وإيصاله. وتذهب سوزان سليمان نفس المذهب لتبين بأن التكرار يساعد على تحقيق التواصل بين المرسل والقارئ ويزيل الضوضاء الذي يعيق عملية التواصل، ولاسيما نسيان القارئ عندما يواجه نصا طويلا، ولذلك فإنه " كلما استطال النص، كان في حاجة إلى التكرار" وهذا التكرار ليس سمة سلبية عندها، بل يوجد حتى في النصوص الحديثة بمثابة مظهر للاتساق والانسجام الخطابي. ومن ثم، فإن النص الكلاسيكي يستعمل التكرار لتحقيق التواصل و الحفاظ عليه والإفراط في الإخبار وصيانة المعنى وخلق عضوية النص اللسانية وإثارة القارئ وتشويقه [2].

ويلاحظ كذلك أن الأسئلة والأجوبة في الخطاب المعروض أو الحوارات طويلة جدا ومملة حتى تصبح خطابات وسرودا مستقلة. وإذا كان ذلك مقبولا في المسرود الذاتي، فإنه ليس مقبولا في الحوار. فلا يعقل للسامع أن يسمع ويستوعب حوارات تتعدى الصفحة الكاملة. لذلك كان من الأفضل أن يوجز في الأسئلة والأجوبة، وأن يوسع – إن شاء- في الحوارات الداخلية مادامت ترتكز على الاسترسال والهذيان اللاشعوري والبوح والاعتراف الذاتي والتذكر والإيحاء والاسترجاع.

وأعتقد أن الكاتب قد اطلع على نصوص روائية غربية مثل مدام بوفاري، والزمن الضائع، وقد ذكرهما الكاتب في روايته، ولكن مع الأسف الشديد لم يستفد منهما استفادة جيدة، ولم يستثمر كذلك تقنياتهما السردية في روايته. لذلك كانت رواية مصطفى الحسني ضعيفة دون مستوى النصوص الرومانسية الجيدة. ونحن نحاسبه أيضا بأن الزمن الذي نعيش فيه لا يقبل هذه الروايات المثالية التي لم تعد تقنع حتى المراهقين أنفسهم وصبيان الحب.

وهكذا نخلص من هذه القراءة النقدية أن رواية "ملكة جمال المتوسط" رواية رومانسية إخبارية تقليدية البناء لوجود التعاقب الزمني، والتسلسل المنطقي، والرؤية من الخلف، والتكرار التشويقي المنفر. كما تمتاز ببساطة المعالجة الحدثية، وضعف الحبكة السردية، ونقص في الاطلاع على الموروث السردي لدى الكاتب، لذا أفتح هنا قوسين لأهمس في أذن الكاتب، وأقول له بكل صراحة: اقرأ الكثير من القصص والروايات الأجنبية والعربية المتميزة ماضيا وحديثا لتكتب نصا روائيا جميلا. واهتم بالكيف قبل الكم، لأن العبرة ليس بحجم الرواية، بل بشكلها وأسلوبها وخطابها ومضمونها وتقنياتها الفنية. والرواية قبل كل شيء تشكيل جميل لقضايا جادة.

وشبابنا اليوم أمام قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية حادة وخطيرة، فكيف نقدم لهم نصا رومانسيا مخدرا يذكرنا بقصص المنفلوطي، وإنشاءات المدارس، ومراهقات الصبيان؟!!


[1د. موسى أغربي: مقالات نقدية في الرواية العربية، دار النشر الجسور، وجدة، ط1، 1997، ص: 212

[2د. موسى أغربي: مقالات نقدية في الرواية العربية، ص: 212


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى