الثلاثاء ٢٢ آب (أغسطس) ٢٠٠٦
بقلم أسماء الطناني

وبقيت عذراء

أعلن الديك بصوته الجميل نبأ سطوع الشمس في زينتها الأولي ممتزجة بالبحر؛ كان يراها الديك كل يوم ويتنسم بنسيم الأمواج الهادئة في الصباح الباكر في قطعة مازالت حية من أطراف أرض الوطن، استيقظت نور قبل خالتها علي صياح الديك، كانت نور تحيا في بيت قديم في أطراف المدينة سكانه من العناكب أكثر من سكانه البشريين، كانت كل صباح تخرج تطعم الديك ودجاجاته وتجمع البيض لطعام الإفطار ولا تنسي إطعام بقرتها الهادئة، وحين الانتهاء تجد خالتها قد أيقظتها ساعات عقلها المبرمجة علي السابعة صباحاً بالدقيقة والثانية.

كانت السيدة فاطمة سيدة وقور حكيمة في العقد الخامس من عمرها، كل من يجلس معها يجب أن ينال من حكمتها الكثير، دائماً هي متحسرة علي ما يحدث بين أروقة بلادها، تعلم من التاريخ الكثير، مرت بالكثير من الأحداث، كانت تحكيها بكل التفاصيل وكأنها تكتب بلسانها وذكرياتها تاريخاً مفصلاً قد يكون التاريخ نفسه قد نسي منه الكثير.

هي مربية نور؛ الفتاة التي تتخذها القرية الصغيرة نموذجاً للفتاة ذات الخلق الجميل والتربية الصالحة، لقد مات أبويها غدراً وظلماً كما الآلاف من الموتي بلا ذنب سوي أنهم يعيشون فوق أرض الوطن.

لم تكن قصة حياة نور بمنأى عن الآلام والأحزان فقد فقدت بصرها حزناً علي موت أبويها، أصبحت لا تري، فقط تسمع، تشعر، تشم، تتذوق، هذا ما تبقي لها من حواس، وبرغم كل ذلك كانت تقاوم هذا وتعيش كما المبصرة ببصيرتها وأحاسيسها الجياشة.

كانت تحب الشعر كثيرا، تدشنه في أوراقها بقلمها الملازم لها دائما، تتحسس السطور الخفية، تحفظ الشعر في عقلها فقط، تسترجعه مع البحر في الصباح ومع الخالة في المساء، وأحيانا تجتمع الصبايا العاشقات للشعر عندهن في أمسيات مليئة بالقوافي والأوزان الشعرية الجميلة.

لم تتعلم نور الشعر في المدارس ولا في الجامعة بل أخذته بالفطرة موهبة عن والدها الذي كان شاعراً فكيف للشعر ألا يتفجر في بلاد وقف المستحيل عندها صامتاً مستسلماً!

بلادي لا تستسلمي ولا تخضعي، فمهما حاول العدو كسر مضجعي، سوف أقاوم وأحارب وسوف تسمعي، كلمات شعري وزلزال قصيدتي.

كانت هذه بعض من كلمات قصائدها التي كانت مروية بالعطر الملائكي ومنسوجة من خيوط الذهب واللؤلؤ الآتية من الأعالي.

كانت تشعر بأن نوراً ما في عينها، بأن هناك مرشداً يأخذ بيدها عندما تضل الطريق، كثيراً ما تعثرت، لكنها كانت تقاوم وتقف من وقعتها ثانية، كانت تحكي للطيور والعصافير من حولها كل ما يجول بخاطرها، لبقرتها الجميلة، لأمواج البحر، لسحب السماء، لآشعة الشمس التي تطل علي جسدها كل صباح، للورود الفواحة الرائحة، كانت تحكي لهم عن قصة وطن يحملهم وسط أرضه، يتمسك بهم، يريدهم معه.

  "نور أين أنتي؟"، قالتها الخالة فاطمة عندما لم تجد نور بالبيت! خرجت تبحث عنها، وجدتها هناك بعيداً عند البحر؛ يداعب بهوائه شعرها الناعم ورموش عينها الكحيلة ووجهها الأنثوي الجميل.

شعرت نور بخطوات تقترب منها! اضطربت، قالت في قلق:

  من؟

  خالتك يا عزيزتي.

وضعت رأسها في حضن خالتها، وجلستا علي الرمال الناعمة.

  كيف حالك اليوم يا نور؟

  أنا بخير، لكني أشعر أن هناك شيء ليس بخير!

  ماهو؟

  وطني! أشعر أن الأرض تتزلزل من حولي؛ تريد أن تتكلم، تريد أن تفجر المحتل، تريد أن تبكي، هل الأرض تبكي يا خالتي؟.

 نعم يا بنيتي.

 وكيف تعبر الأرض عن حزنها يا خالتي؟.

 تذبل ورودها، يبكي ترابها، تنبت أحجارا، تتشقق، تختفي رائحة طميها، تسحب جذور نباتاتها إلي أسفل، يذوب اللون الأخضر من فوقها، تنحسر مياة الأنهار والبحار، تختفي الطيور من فوقها، تهاجر، أو تموت هي الأخري!

 وهل تحزن السماء يا خالتي؟

  أجل؛ تمتنع عن المطر، تمتنع عن إرسال الرياح، لا تشرق نجومها ليلا، ويذهب قمرها بعيداً.

وسط تلك الكلمات المحزونة سمعا طلقات نار بجوار البيت، نظرت فاطمة فإذا بها تجد خمسة جنود من العدو.

  "ما الذي أتي بهم إلي هنا؟، إننا في الأطراف! ماذا يحدث؟!" سألت الخالة نفسها في دهشة، لكنها لم تكن تعلم أن المحتل لا يترك مكاناً إلا ودمره.

كانت معهم بلدوزرات كبيرة؛ إنهم يريدون هدم البيت، جرت فاطمة وفي يدها نور وهي تصيح:

  لا، لا، إنه بيتي.

وقفت أمام الجنود في تحدي ومن خلفها نور تتحسس الباب تريد إغلاقه في وجههم، قالت الخالة: "إنه بيتي ولن يأخذه أحد مني".

قال أحد الجنود وهو يضربها بعنف: "ابتعدي أيتها البلهاء".

في قوة أشد من قوته قالت فاطمة: "لا، لن أبتعد، لن أترك بيتي".

وسط إصرارها وتصميمها تبادلوا الحوارات باللغة العبرية، وقرروا عدم هدم المنزل في مقابل شيء آخر.

اقترب أحدهم من الخالة، خرجت صرخاتها ونور لا تدري ماذا يُفعل بها، كان كل ما تقوله، "ابتعدوا عني"، وتصرخ.

شعرت نور بشيء غريب يحدث لخالتها، وبعد انتهاء الجندي من عمله في الخالة اتجه ناحية نور، شعرت به يقترب منها، صرخت الخالة ثانية، "لا،اتركها، اتركها، حسبي الله ونعم الوكيل".

زلزلت كلمة الحق كيان الجندي،وقف دقيقة في مكانه، لكنه سرعان ما استمر في طريقه ناحية العذراء، أمسك بجسدها، حاول أن يجردها من ثيابه في قوة وهي لا تري شيئاً، تشعر فقد بما يحدث، تذكرت، الشرف دون الموت، شرفها علي أعتاب السرقة، لا أحد يستطيع إنقاذها، الوحش يحيطها من كل جانب يقضي علي روحها قبل أن ينتزع شرفها، لا حياة بلا شرف، لا حياة بلا عزة وكرامة، غرست أظافرها في جسده، في عينه، في أنفه، في فم، بقوة إيمانها، وبعقل يتذكر كلمات رسولها الكريم، " من مات دون عرضه فهو شهيد".

عندما لم يجد الجندي بداً من سلبها عذريتها، عندما اعترف بفشله أمام من حوله، عندما علم أنها انتصرت عليه، وأنها صاحبة الحق في الدفاع عن شرفها، تركها، ذهب بعيداً،وضع يده علي زناد رشاشه، وانطلقت طلقات الغدر، عشرون طلقة اخترقت جسد نور الطاهر، الذي أشع بالنور وتفجرت منه درر حمراء دافئة شريفة نقية، وذهبت نور، الجميلة، الشاعرة، العذراء التي أبت إلا أن تكون عذراء وتموت عذراء بشرفها، كما أرض وطنها الصامدة التي تأبي أن تموت إلا بشرفها؛ فمن لا يحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى