السبت ٢٦ آب (أغسطس) ٢٠٠٦
بقلم أديب قبلان

صفير الموت

احتلت قطرات ماء لا يعرف عددها ظلام ليل دامس وشقت الشمس ستار الليل مستقرة على إحدى روابي القرية، تمتد يد سمراء على صوت فيروز الناعم لتنادي عبدو مبشرةً بوصول الصبح بعد ليلة طغى عليها المطر الذي غادر مع بزوغ الفجر.

" عبدو انهض صار الصبح "

ينهض عبدو متجهاً إلى البحرة التي طوقها عقد من النباتات الجميلة ليغسل وجهه الممتلئ بالبهجة والسرور لخروج الفرنسيين الغاصبين من قريتهم بالأمس.

وبعد أن انتهى اتجه إلى طاولة عليها مائدة قوامها لبن وبندورة وقليل من الزيتون

" أوه.. ما أحلى العز "

" صباح الخير يا أمي "

" صباح النور يا بني "

" متى سترسلين لي زوادة الغداء يا أماه؟ "

"الساعة الواحدة مع الصبي محمود يا ولدي "

ثم يتناول لقيمات معدودة ويتجه إلى باب البيت قاصداً الخروج، ويتجه إلى حقله ماراً ببيت أبو محمود وأبو العز و دكانة أبو أسعد السمان المتجادل دائماً مع الزباين وأصواته تطرق أذنه لتدغدغه دغدغة أشعرته بالراحة ونقلته إلى جو من الفكاهة بسبب صوته الخشن الممتزج بشخير ناقص:

" مرحباً أبو أسعد "

" أهلاً عبدو، يبدو اليوم ليس لديك طلبات للبيت "

" صحيح، كيف علمت؟"

" عادة يكون وجهك يطلب الطلبات قبل لسانك"

يضحك عبدو ويضحك أبو أسعد.

وما أن قطع خمس دقائق من خروجه حتى التقى به محمد شعبان

" عبدو اليوم عندنا العشاء ترى الفرحة غامرة بيتنا "

" جعلها الله دائماً غامرة قلوب المؤمنين، خيراً إن شاء الله "

"أرادت الوالدة أن تجمعني مع أصحابي بمناسبة خروج الفرنسيين، فلا تنسى "

"أكيد.. نلقاك على الصلاة "

وهو يعد خطواته شق بصره الحمام المنتظر للطعام. " ما هذا لقد نسيت ".. ثم يعود مسابقاً ظله إلى البيت ويتناول كيس كسرات الخبز اليابس المجهز وينطلق إلى الحمام وقبل الحمام بخطوات.. يطير الحمام في ذعر سببه طلقة نارية خرق صوتها طبلة أذنه وحملته مع صوتها إلى تخيلات وتوقعات فظيعة.
إنهم الفرنسيون عائدون لقريتنا لم يلبثوا أن غادروها من قبل، لقد أصبحنا عبيداً لهم، ثم جمعوا الشباب وأوقفوهم في أشعة الشمس مدة طويلة، بدأت النساء بالبكاء وبدأ الرجال بالانهيار كالبنيان القديم الهزيل.

ينادي رجل " يكفي خضوعاً لكم لقد أذللتمونا "

خرقت صدره طلقة نارية أسقطته صريعاً في بركة دماء وردية حارة.

استمر وقوف الرجال والنساء أربع ساعات متتالية مما أدى إلى تذمر بعض سكان القرية حيث كان تذمرهم آخر نقطة توضع في حياتهم المحتلة.

ثم يدخل قائدهم المتكبر الذي عرف بين أهل القرية بلقب الدبر لشدة تزحزح خداه إلى الأسفل، ويوجه كلمته إلى السكان المـنهارين: " وصلتنا عنكم أخبار غير مطمئنة ".
وبدون ذكر التفاصيل بدأ الحرس بجمع الشباب وترحيلهم إلى ذاك المدى الغير منتهي، رحلوا وعيون الناس تودعهم برموز لم تحكى

وبعد غياب الشباب تعاهد أهل القرية على الأخذ بالثأر وكان أولهم عبدو الذي جعل بيته مركزاً لتجمعهم وكانت بداية تنظيم هذه الجماعة قتال عنيف لا تكافئ فيه بين الفرنسيين والسوريين نتج عنه خسائر كسرت ظهر الحملة الفرنسية وتتابعت المواجهات وكانت آخرها عملية استشهادية لعبدو البطل وأصحابه
الذين لم يجدوا لإنهاء الحياة أفضل من الاستشهاد بعد الحكم عليه وعلى رفاقه بالموت الأكيد.

" شباب قـــــتال العدو جهاد والمقتول

في سبيل الدفاع عن وطنه شهيد "

" نحن معك يا عبدو إلى النهاية، دماؤنا على أكفنا حاملين لها بحاثين عن من يأخذها "

" ادعوا الله أن يتقبلنا فيمن عنده "

" والخطة كما يلي....."

وبعد وضع الخطة باشروا بتنفيذها و انطلق عبدو ورفاقه متحزمين بأحزمة كانت وسيلتهم الأخيرة إلى الجنة وإلى أكبر ثكنة عسكرية ليحاصروها وينطقوا بالشهادة ثم ينادوا بأعلى أصواتهم " الله أكبر " ثم تتجه أرواحهم إلى السماء راضية ممتزجة بعطر الورد المصحوب بريح المسك لتخلد في جنات عدن.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى