الثلاثاء ٢٩ آب (أغسطس) ٢٠٠٦
بقلم هدية حسين

(بدل الضائع) لراجي بطحيش ...

الإنسـان فـي مواجهـة نفسـه

محطات سريعة تلك التي نمر بها من خلال قصص الفلسطيني راجي بطحيش، ولكن تلك المحطات تترك لنا رائحة أبطالها وأسئلتها لوقت طويل بعد القراءة.. إنها قصص الانسان في مواجهة نفسه ومواجهة الآخر، ما يحدث له، ما يسقط من سنوات عمره، ما يضيع، ما سيأتي، ما نجهله، ما ندركه ولا نتداركه.. قصص تحكي عن اللحظات الحرجة في حياتنا، عن الكآبة التي تفترسنا لاسباب واضحة واخرى مبهمة.
هذه القصص الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر حملت عنوان «بدل الضائع» صدرت في العام الماضي عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وقدم لها سهيل كيوان، ومما جاء في التقديم: «قصص راجي تحمل على اجنحتها الرقيقة ثقل الاسئلة الوجودية العميقة، تقرؤها فتمسك دهشة مراوغة، تحاول الامساك بخيوطها، يترك الباب مفتوحا لاسئلة ملتهبة فاغرة كجراح لا شفاء لها، اسئلة تأتي من ظلمة العقل الباطن ووضوحه في آن، وعادة هي اسئلة غير بريئة».

في قصة «نهاية الاسبوع» يعود الاصدقاء الاربعة -ثلاثة رجال وامرأة- من رحلة قاموا بها.. يعودون بصمت وقد امتلأت ابدانهم بمادة الكافيين.. صمت يوحي بعدم الرضا عما جرى في تلك الرحلة.. اصاب كل واحد منهم الارق حين عاد الى فراشه في اول ليلة بعد الرحلة.. اولهم «ليث» الذي هاتف «مجد» واخبره بانه شعر بالوحدة في هذه الرحلة وان الجميع كانوا سعداء بينما هو منبوذ كالكلب.
اما الثاني «عدي» فقد هاتف مجد في وقت متأخر من تلك الليلة وقال انه احس بالكآبة وعدم الانتماء، وان الآخرين عاملوه كالاجرب.. وافضت «شجن» لمجد في ليلة الارق تلك بان الرحلة كانت فاشلة وان انوثتها لم تحترم، وقد احست بانها وسط مؤامرة ذكورية.. في حين قام مجد بمهاتفة صديقه اسامة في نيويورك التي كان قد هرب اليها قبل عام ونصف.. والقاص يتركنا عند هذا الحد ولم يخبرنا ماذا قال مجد لاسامة ولماذا كان قد هرب الى نيويورك قبل عام ونصف.
في القصص جميعها ستبدو النهايات عادية، الا انها بالتأكيد ستثير الكثير من الاسئلة وستكسر توقعاتنا وستجعلنا طرفا من الحكاية، لان القاص عمل على تحفيز مخيلتنا من خلال لغته المكثفة.

في قصة «صاحب الغياب» نتعرف على «وسيم» الذي له سجل حافل بالجرائم.. تأتيه رسالة من مركز الشرطة تأمره بالحظور خلال يومين، فينتابه القلق والارق مستذكرا جرائمه في سرقة المال، والبيوت التي هدمها، والنساء اللواتي عاشرهن وغرر بهن، وقتلاه ومجازره.. ولكنه حين يحضر يجد العشرات من اصحاب «الغياب» بالانتظار ايضا.. ثم تتبدد مخاوفه بعد ان يؤخذ فقط رقم المحرك في سيارته وبعدها يطلق سراحه ليسير في طريق حوافه مكللة بالبراءة!

لم تكن «حديقة الارجوحة البرتقالية» تغري بدخولها، فهي حديقة هرمة تفوح منها روائح البول والمخلفات الاخرى، ومع ذلك فانها تعج بالحياة.. اطفال ونساء وبركة سباحة وشيوخ صامتون وكلاب واراجيح وزحاليق وافعال عشاق على مرأى ومسمع من الآخرين.. وحده «ايمن» الذي يجلس على مقعد خشبي لا يحس بالحياة.. ليس في داخله رضا او نشوة او سعادة او حتى حزن لشيء ما.. ليس ثمة غير الشعور بالفراغ.. ولكنه فجأة يبتسم وتداهمه مشاعر ساحرة حينما يلعق احد الكلاب حواف قدميه.

حالما تنتهي من قراءة قصة «الحقيقة»، ستطرح هذا السؤال على نفسك: ترى ما قيمة الحقيقة لحظة تجدها وتكون قد فقدت اليقين؟ فالكل صامت من حول بطل القصة.. الكل يختفي رويدا رويدا، الرجل يضيق بكل شيء فيهاتف صديقه الذي يخبره باهم لحظة في حياته: لقد وجد الحقيقة ولا يريد ان يراه بعد الآن.
وهكذا حمل هذا الصديق على كتفه ما وجده «الحقيقة».. ولكن دخان الحرائق يملأ الافق.. الجثث هنا وهناك.. بيوت مسلوبة وقصور منهوبة ولافتات غريبة تملأ الشوارع وظلم وجوع يفتك بالناس.

وفي قصة «بهجة ورعب» ثمة حارس لا يشبه بقية زملائه الذين يحرسون دولاب «الرعب والبهجة».. انه مختلف عنهم ويشعر في قرارة نفسه بهذا الاختلاف، فهو يحلم ويراقب هؤلاء الناس السعداء عندما يصعدون الدولاب، الذين يختارون بهجتهم ويحققون سعادتهم بهذا الرعب الجميل.. انهم كما يرى هذا الحارس محظوظون، ولذلك فهو يريد ان يجرب تلك اللعبة ليكرس علاقته بما يحرس.
حين انفض الناس في آخر الليل، صعد الى الدولاب وحركه، فتحرك ا لعملاق ورفعه الى البهجة.. تسارعت حركاته علوا وهبوطا.. لا احد يوقفه، ولا احد يرى الحارس الذي تعلق وعلق بالدولاب.. وبعد ساعات طويلة تركنا القاص مع تلك اللحظة الحرجة التي تدحرج فيها الحارس الى الارض دون ان يخبرنا ما اذا كان قد وصل الى اقصى سعاداته، ام مات بفعل الرعب.

لم يكتب القاص قصصه بضمير المتكلم الا باثنتين، الاولى بعنوان «رسالة من امرأة الغبار»، وهذا العنوان يشي بفحواها، فهي رسالة من امرأة الى حبيبها الغائب.. ولا تندرج -من وجهة نظري- الا ضمن ادب الرسائل اكثر مما هي قصة قصيرة، وقد كتبت بحميمية، مسلطة الضوء على واقع امرأة تستدعي حبيبها من خلال استدراج ذاكرتها لكل ما مر بينهما من حب ملتهب.. اما الثانية فهي قصة قصيرة جدا ضمن عشر قصص بعنوان «عشر خلايا حب» وتحمل الرقم «7».. وهي اقرب للخاطرة منها للقصة القصيرة جدا، وبهذا المعنى هناك اكثر من خاطرة.

في قصة «نوري» يتعرض الطفل نوري الى اعتداء جنسي من قبل جاره الشاب، فيؤثر ذلك الاعتداء على حياته العلمية والعملية.. ففي المدرسة الابتدائية يخيفه معلم الدين من نار جهنم.. وفي الاعدادية يرغمه مدرس الرياضة على لعبة كرة القدم التي لا يحبها، وفي الثانوية يتلقى معلومات ملفقة عن دول وهمية فيما يمرر مدرس التاريخ احداثا تاريخة مغلوطة، ويصر مدرس الادب ان يغرق الطلاب بنصوص ثقيلة.. وفي الجامعة يجد نوري متسعا من الوقت لترديد اغاني مطربته المفضلة حتى الصباح.. اما حين يصبح موظفا فان رئيسه في العمل يعذبه معنويا لانه لا يوفر له العمل الكافي لثماني ساعات، فكان نوري يقضيها بشرب القهوة.. وعندما يحال على التقاعد يطرد من الارض التي يسكنها لان الحاكم حلم بان الاله منحه هذه الارض.. اما حين يموت فلم يجد قبرا سوى في الصحراء القاحلة فتنهش الضباع لحمه.. هكذا تنتهي حياة هذا الانسان التي بنيت منذ الاساس على ارض هشة وحياة زائفة.

مصائر الشخصيات كلها عبثية، مرتدة الى عالمها الداخلي، مركونة في اعماق سحيقة منه، والقاص لا يضع حلولا، بل يعرض على قرائه تلك الشخصيات المأزومة عارية الا من هشاشتها وهمومها، او كما يقول سهيل كيوان: «يكتب اللاوعي واللاظاهر من مسرحية الحياة، والتي هي في الواقع مركز ثقل الحياة ونواتها» وفي تلك المسرحية ايضا نقرأ قصة «البيت السابع»، فبيوت الحي «مرتبة على شكل الاشارة التي يطلقونها دلالة على النصر».. والبيوت الستة التي يتحدث عنها القاص تحدث فيها اشياء عادية جدا لا تلفت الانتباه ولا تثير الاسئلة، اما البيت السابع فهو وحده من يجعلنا نتساءل حين «يزحف الرجل الابيض الانيق الى سرير الطفلة النائمة».

القاسم المشترك للقصص هو تلك الاجواء الغريبة، اجواء حروب لم تتضح اهدافها، مدن لم تفصح عن نفسها الا بالدم والشظايا، اجواء معتمة، غبار، فراغ يفضي الى فراغ، نشوة لم تكتمل، كآبة تقود الى كآبات، نساء شبقات دون رجال، رجال متسكعون، ترقب لشيء غير محدد، زمن مهشم.. خذ مثلا على الصفحة «113»: «ليال خماسينية.. ثم مطر.. ثم ايام مغبرة وقتلى.. الكثير من القتلى.. بنات وصبيان ودمى.. اكواخ مهدمة.. دماء تسيل عبر زجاج العربات الفارة.. يموت الناس في طريقهم الى ارصفة الرتابة..». وثمة قاسم مشترك اكثر التصاقا بالقصص هو الذي يتسيد المشهد، انه الوجع الجواني الذي يسكن ارواح الشخصيات المتوترة والغارقة بكآبتها، الوجع الذي امسك به القاص واخرجه من اقصى المناطق المظلمة في النفوس، اخرجه وعراه لعل تلك النفوس تتخفف من اثقالها.

«بدل الضائع» العنوان الذي اختاره راجي بطحيش لمجموعته، هو بالضرورة بدل كل ما فقدناه في الحياة من ارض وامنيات واحلام لم تتحقق، والقاص الذي جاءنا من فلسطين والذي ما يزال مقيما في الناصرة، سيوحي لنا بالمعنى المطلوب، وفي الوقت نفسه فالعنوان هو البديل الموضوعي لفقدان الهوية والارض.

الإنسـان فـي مواجهـة نفسـه

عن الملحق الثقافي في صحيفة الرأي الأردنية


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى