الأحد ٣ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٦
بقلم أسماء صالح الزهراني

النص الشرعي ومشروعية سؤال الوجود

مهما حاول المتاجرون بالنص الشرعي ، في مشاريع سلطوية فردية وجمعية ، مخططة وعشوائية ، احتكار سؤال المعنى ؛ يظل المعنى ملكا مشاعا للإنسان المطلق ، الإنسان الذي لم يحدد الخطاب الديني له جنسا ولا لونا ولا حتى لغة . الإنسان الذي لم يعرّفه الخطاب الديني سوى بعقله ، وضميره ، وبهذين وحدهما أعطي حق السؤال ، ولم يكلف بقطع الإجابات المفصلة ، على أضيق المقاسات ، تفصيلا عنصريا ، عرقيا ، أو مذهبيا ، أو أيا من الصور التي تحركها شهوة إلغاء الآخر ، وتكريس المركزية ، أيا كان اسمها .

الحرية ، والمسؤولية ، هما مجالا وجود العقل والضمير ، ومبررا وجودهما ، وبالتالي وجود الإنسانية . وما أكثر ما نخوض في مفاهيم الحرية ، ومعنى المسؤولية ، ونظل معوزين للمزيد من الخوض فيهما ، بقدر ما يعوزنا الوجود ذاته . وسيجد المتأملون في النص الشرعي الإسلامي مختلف تطبيقات الحرية الإنسانية بالشرح والتفصيل والتمثيل أيضا ، وعلى رأسها الحرية الفكرية ، كما لو كانت الحرية والمسؤولية / العقل والضمير ، دستورا للوجود البشري كما يعرضه النص الشرعي الإسلامي ، كتابا وسنة . كما سيجد المتأمل أن ذلك الدستور يضمن له حرية الاستفادة من مختلف الثقافات ، فالنموذج الإسلامي للحرية شمولي لا يتعارض مع مفاهيم الحرية التي تتفق عليها العقول السليمة ، فهو صالح للتطبيق في أي مكان وزمان بعكس ما يظهر من تصرفات المتحدثين باسمه أو عنه ، تحاملا عليه أو معه ..
يضع القران الكريم قواعد للحرية الفكرية ، بعد أن مهد لها بمهاد تفسيري مقنع قائم على أبسط بديهيات المنطق العقلي ، فقد أشار النص القراني إلى أن المجتمعات الانسانية قائمة على التنوع والاختلاف في قوله تعالى " وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا " . ثم شرع في تقنين حضور هذا الاختلاف في المجتمع الاسلامي ، فوضع القاعدة العظيمة للحرية الفكرية ابتداء من أهم مظاهرها وهي حرية اختيار الدين : "لا إكراه في الدين" ، ثم أكد على احترام المسؤولية العقلية للفرد بوصفها سببا مهما لاحترام حريته الفكرية " قد تبين الرشد من الغي" .

ولما كان الحوار أهم الفضاءات التي تتنفس فيها الحرية الفكرية وتنتج فقد أخذ مساحة واسعة من النقاش في مدونات الثقافة الإسلامية عبر مصدريها : القران والسنة . والنص القراني حافل بمشاهد حوارية راقية ، لعل أبرزها ذلك الحوار الذي قام حول قرار خلق ادم عليه السلام ، حيث يستمع الرحمن سبحانه إلى آراء الملائكة الكرام ويحاورهم ، تعترض الملائكة على خلق ادم وتقدم أسباب الاعتراض : كيف تخلق من يسفك الدماء ؟ ثم يجيب الله تعالى عنه بتذكير الملائكة بمحدودية علمهم ، "إني أعلم ما تعلمون" ، فيكون جواب الملائكة الكرام : "سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا، " . ومن ثم يطالعنا حوار ابليس مع الرحمن سبحانه حول أمر السجود لادم ، يتساءل ابليس : كيف أسجد لبشر خلقته من طين ؟ . انبنى سؤال الملائكة على الرغبة البريئة في المعرفة ، في حوار يعرف فيه كل طرف حدوده ، فينتهي بالاقتناع . وجاء سؤال إبليس سؤال استكبار ، مبني على الغرور والنظرة المضخمة للذات ، فانتهى إلى طريق مسدود ، تمرد على الواقع ناتج عن الصدود عن الفهم ، والتعامي عن الحقائق .

كما عرض القرآن الكريم تساؤل ابراهيم عليه السلام عن البعث ، وطلبه لليقين ، في صورة مشروعة للفهم ، وليس في صورة إساءة للأدب مع الخالق ، ونقلت لنا كتب السنة كيف كان الصحابة رضي الله عنهم يعرضون ما يثقل على أرواحهم من أسئلة الوجود ، فيحتويها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يؤنبهم على فطرة السؤال التي خلقوا عليها ، بل يطمئنهم ويزكيهم قائلا : ذلك صريح الايمان .. نعم ، صريح الايمان القائم على السؤال والفهم ثم اليقين الحي لا الميت ، اليقين الذي حثنا الخالق على ممارسة مستمرة لإحيائه و
إنعاشه بنثر الاستفهامات ، وإشراع أسئلة المعنى ، ذلك هو معنى التفكر والتدبر ، اللذان يفسران قيمة العقل البشري عند خالقه عز وجل .

تلك صور متعددة للحوار ، تحتشد مع الكثير غيرها في نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة ، تم عرضها بحياد كامل ، ودون أن يتم التعليق بأي شكل على حق المحاور في السؤال والفهم ، على أعلى مستويات القداسة ، وفي أعقد مسائل العقيدة .
أين هذا من حظر التفكير ، وتضييق نطاق الصلة بين العقل والواقع ، الذي يمارسه بعض المتحدثين عن الله جل وعلا ، على غير هدى .. حين يلغي بعضهم حق الإنسان في سؤال الوجود ، شعرا ونثرا ، وتشكيلا وفلسفة ، بعد أن يلغون مشروعية الاختلاف ، ويقتلون حيويتها ، التي منها تنبع حيوية الوجود البشري ، وعليها تقوم مبررات بقائه و آليات استمراره . أين هذا من حشد الأصوات وتجييش النفوس، ضد كل من يجرؤ على اقتحام حمى مذهب من المذاهب ، واضعه بشر يخطيء ويصيب ؟

في الجانب المقابل ، يلقي كثير من المتحدثين باسم الحرية ، باللائمة على النص الشرعي ، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء مناوشته الأسئلة ، وقرع أبوابه المشرعة للسؤال ، بدلا من الخوض خبط عشواء ، في كل الجهات ، إلا جهة السماء ، وكأنه نوع من العداء المتجذر ضد كل ما هو أصل ، وقابل للتأصل ، ضد كل ما هو ثابت أو مشرع الطرق باتجاه الثبات واليقين . ويمارسون في الوقت ذاته شكلا من الاستعلاء على الآخر لا يختلف عن الذي يمارسه الفريق السابق ، وكلاهما يحفران باجتهاد قبرا شاسعا لسؤال الوجود ، للوجود بلغة أخرى .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى