الاثنين ٤ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٦
قصة قصيرة
بقلم سهير فضل عيد

الشــــــــــتات

هل تواجد المال هو الذي يؤدي إلى استقرار النفس ، مهما تغربت و سافرت تلك النفس، فاقدة استقرار المكان؟ أم استقرار المكان هو الذي يؤدي لاستقرار النفس مهما كانت الظروف المادية؟

باسم شاب بلغ العشرين من عمره رومانسي الملامح ، رومانسي القلب تعود السفر منذ نعومة أظفاره مع أمه و أبيه ، لكن هذه المرة يسافر وحيداً ضمن حافلة لنقل لركاب ، توقفت الحافلة عند الحدود ، فقال السائق للركاب : لينزل كل واحد منكم ، لوضع ختم الدخول ، أسرعوا لا نريد أن نتأخر.
نزل الجميع مسرعين إلا باسما ً بدا متثاقلاً في مشيته ، حزيناً ، عيناه لها بريق شديد اللمعان ، إنه لمعان دمعة الحزن قبل أن تنسكب ، ألهذا الحد هو حزين؟ ، على عكس حاله قبل عشرة أو اثنتى عشرة سنة حيث كان يجري ويركض وكأنما الحدود هي متنفسه للعب ، لقد حفظ كل شبر من كل أرض مر بها وكل شبر من أرض الحدود ، فلم يكن بحاجة لأن يلتفت يميناً أو يساراً ليعرف مكان الجوازات .
داخل مكتب الجوازات ، ينتظر باسم جواز سفره ، ما هي إلا دقائق حتى نادى عليه موظف الجوازات .
الموظف : من أين أنت ؟
باسم : أنا فلسطيني .
الموظف : من أين أتيت ؟
باسم : من سوريا .
الموظف : وإلى أين تذهب ؟
باسم : إلى السعودية .
الموظف مداعبا ً : وأين تحب أن تعيش ؟
وكأن الموظف لمس شيئا ً مكنوناً داخل باسم ، فنظر باسم إليه بنظرات حائرة ، وابتسامة ذابلة ، ثم قال : لم أسأل نفسي أبداً هذا السؤال من قبل خشية أن أتوه فلا أعرف الجواب .
يتناول الموظف الختم ويهوي به على جواز سفر باسم قائلاً : رافقتك السلامة وأهلاً وسهلاً بك في بلادك .

يخرج باسم بنفس الخطا التي دخل بها ، وبينما يذهب باقي الركاب إلى مطعم الحدود ، يذهب هو إلى الشجرة الوحيدة القائمة في ذلك المكان ، شجرة حفظها وطالما لعب ودار حولها هو وأخته ، أما اليوم يجلس تحتها مفترش الأرض رافعاً ناظريه للسماء ، ومستنداً بظهره إلى الشجرة وكأنه يتأمل الكون في لحظات وداخل رأسه الصغير ذي الشعر الأسود الناعم ، يدور سؤال موظف الجوازات أين تحب أن تعيش ؟ وبدأ يحاور نفسه هل نجح الإسرائيليون في أن يشردونا شكلاً أم مضموناً ؟ وما هو الاستقرار أهو استقرار النفس أم استقرار المكان ؟ أنا فلسطيني ، ويبدو أنه لا أمل بالعودة كما أنه لا أمل بالسلام ، ولدت في سوريا التي أعشق كل جزء فيها ، أحب جوها وفصولها الأربعة ، أعشق اللون الأخضر في أشجارها في الربيع ، وكم أحب نفسي حينما أستلقي على خضرة أراضيها ناظراً للسماء ،أتنقل بين الغيمات ، لأنني حينها أشعر بالهدوء والراحة و الاطمئنان ، أما السعودية فلها في قلبي مكان ، حتى الحدود ، وما بين الحدود ، لدرجة أنني أخشى لو أنني استقررت في مكان ما ، أن يعذبني الشوق حتى لحدودها ، يا إلهي أين أحب أن أعيش ؟

وفجأة أصحو على صوت السائق منادياً على الركاب ليصعدوا الحافلة .
كان الوقت اللازم حتى يصل باسم لأهله ، يستغرق اثنتي عشرة ساعة قضاها مفكراً ، عابثاً بين طيات أفكاره ، باحثاً عن حل لسؤال أيقظ في نفسه أحاسيس عديدة ، كان يئدها حية حتى لا تؤرق حياته ، وسأل نفسه كثيراً هل يفكر المسافرون بنفس ما يفكر فيه ، هل يشعرون بالشتات ، شغل باسم نفسه أكثر من اللازم ، حتى قضى نومه داخل الحافلة وهو يحلم ، بمعنى الشتات والاستقرار ، حتى طعامه لم يشعر بمذاقه ، حتى كاد ينسى إن أكل أولا ، لأنه مشغول البال لكنه كان يصحو من غفلته أحياناً ، حينما يتلقى ضربة من الوراء بغير قصد من طفل لاه أو رجل نائم ، أوبسبب بكاء رضيع ، وأحياناً يغرق في بحر من السعال بسبب تحسسه من التدخين، وعندما طلب باسم وبأسلوبه الرقيق المهذب ، من المدخن أن يتوقف عن التدخين، كان المدخن يرد عليه بهمجية ، و عدم اكتراث، وبصوت غليظ تنفر الأذن منه : عندما تكون الحافلة ملكا ً خاصا ً لك ، امنعنا عن التدخين ، ثم إنها حريتنا ، هل تريد منعنا من ممارسة حريتنا الشخصية ، وأنا رجل لا أستطيع الجلوس دون إشعال سيجارة كل عشر دقائق ، فهل لديك مانع ؟
باسم : عفواً ، لكنني أجريت عملية منذ حوالي أسبوع ، فأصبحت أتحسس من الدخان والروائح النفاذة .
المدخن ، وبضحكة ساخرة سافرة : دلوع أمك أنت ، أتحب أن أرضعك أم أشتري لك لهاية تتسلى فيها ؟.

فيلتزم باسم الصمت ، ويعود لشتاته العظيم .

-2-

بعد رحلة سفر طويلة استقبل منذر ابنه باسم بسلام يد عادي جداً خال ٍ من الحرارة ، خال ٍ من الدفء و الحنان و كأنه يراه كل يوم ، فشعر باسم بالكآبة على الرغم من تعوده على ذلك السلام ، و على مايبدو أن كثرة الترحال جعلت منذر يعتاد السفر ويصاب بالبرود ، فما الجديد في مجيء باسم ، فهو كل عدة أشهر يأتي ويذهب ، وهم كل عام يذهبون إليه فأصبح السفر و البعاد شيء عادي لا يستحق عناء الوداع ولا حرارة اللقاء .

بعد يومين من الوصول :
باسم لأبيه : أبي أريد مناقشتك في موضوع ضروري .
منذر بشيء من عدم الاهتمام : تفضل ماذا عندك ؟
باسم : أريد أن أستقر .
فقطب منذر جبينه وقال : ماذا ؟ تريد الزواج ؟
فضحك باسم : كلا يا أبي أريد أن أستقر في مكان واحد ، لقد تعبت من كثرة السفر ومن الغربة .
منذر : لازال الوقت مبكراً لمناقشة هذا الموضوع ، فلا زلت في الجامعة وأمامك سنتان لتتخرج .
باسم : لقد اتخذت قراري وأريد أن أستقر في سوريا .
منذر : ما بك تكرر كلمة استقرار كالببغاء ماذا دهاك ؟
باسم : يا أبي أشعر بالشتات ، أشعر وكأنني أنتمي لكل الوطن العربي دون أن أحمل أية جنسية ، إلا جنسية وطن مسلوب منذ أكثر من خمسين عاما ً .
منذر : يا بني إنك صغير على هذا الكلام ، وغداً تتخرج وتحتاج لعمل ، فمستقبلك هنا .
باسم : أريد أن أبدأ حياتي هناك ، ولو بإمكانيات محدودة .
منذر : فكر جيداً .
باسم : فكرت وقررت .
منذر : حسناً لكن لا تحاسبني أو تعاتبني إن ندمت .

-3-

عمل باسم محاسباً في شركة خاصة ، وتزوج من زميلته إيناس بانياً قراره على الحب دون العقل ، تحمل والده نفقات الزواج ، واشترى له شقة في حي متوسط ، وأعطاه مبلغاً من المال ليبدأ به حياته مع زوجته إيناس ، التي ظهرت أمامه بعد الزواج انسانة أخرى غير التي عرفها ، مادية ليس لها علاقة بالرومانسية ، محبة للمظاهر الكاذبة ، تحب اللبس والمجوهرات الفريدة ، فأجهزت على المبلغ الذي أعطاهم إياه منذر ، والد باسم .

وانتظر باسم اشهر الحمل على أحر من الجمر ، كان كلما وفر مبلغاً من راتبه ، اشترى به شيئاً للطفل القادم ، لكنّ زوجته بدلاً من أن تشكره ، وتشعره بالسعادة ، كانت تسخر من الأشياء التي يشتريها ومن ثمنها الرخيص ، ومن شاعريته الزائدة ، وجاءت هبه للحياة ، فاستقبلها باسم بشوق ، وضمها لصدره وكأنه يريد أن يعطيها الحنان والدفء ، اللذين سلبتهما منه الغربة ، لدرجة أنه كان يهئ لها زجاجة الحليب ، ويحملها طوال الليل حتى تنام ، اعتقد باسم أن مجيء هبه ، سيخفف من التوتر الذي بينه وبين إيناس ، لكنها على العكس باتت تعيّره برومانسيته الزائدة عن الحد ، وبدخله الذي لا يكاد يكفيهم لنهاية الشهر ، وأنه لولا أبيه لماتا جوعاً ، إيناس تريد العلاقات الاجتماعية المتميزة ، وتريد تربية ابنتها وفق نظام تربوي متميز، تريد لها المستوى الرفيع ، و العيش الهانئ ، والتعليم العالي ، في مدارس لغات أو مدارس عالمية أو حبذا أمريكية ، صارت ترفع صوتها عليه ، اذهب ، سافر، هاجر لكندا مثلاً ، فكل من أعرفهم يتحدثون عن الهجرة لكندا ، أو اذهب لأبيك واطلب منه أن يساعدنا ، زادت المسافة بين باسم وإيناس، ولولا هبة لافترقا .

-4-

التقى باسم بصديقه عماد فقد كان عماد الملجأ الوحيد لأحزان باسم ودائماً يصبره على حياته مع إيناس إلا هذه المرة :
قال عماد : زوجتك على حق ، لابد أن تفكر في الهجرة ، والآن الأمور أقل تعقيداً عما كانت عليه والشروط بسيطة ، ولقد أخذت رقم محام ٍ فأنا مللت من الحياة الروتينية التي أحياها ، ومن الخوف من المستقبل ، لذلك أنا مصمم على الهجرة لكندا .
باسم : أأنت جاد فيما تقول ؟
عماد : طبعا أنا جاد ، فهناك الضمان الاجتماعي والصحي ، أي لا داعي للتفكير بشي سوى العمل ، لا حاجة لأن أقلق وأخاف من المستقبل ، أو أخشى على مستقبل أولادي ، وبمقدوري الحصول على أي عمل ، حتى لولم يناسب شهادتي ، أستطيع أن أعمل أي شيء دون خجل ، بينما الناس هنا لا تحترم سوى ذوي الشهادات العليا أو أصحابالأموال .
باسم : لكن لغتك ليست جيدة !
عماد : الدولة هناك تؤمن مدرسين لكل مهاجر مجاناً .
باسم : و الدين ولغتنا العربية .!!
عماد : لا تخف ففي كل مدرسة يوجد مدرسين للدين واللغة العربية والأهم من كل ذلك هو أنك ستصبح كنديا ً فحين تحمل أي جنسية غير عربية ستكون محترماً ولا أحد يستطيع الإساءة إليك أو احتقارك أو استغلالك فالغرب له هيبة في قلوبنا جميعاً .
فكر في زوجتك يا باسم وابنتك ، أم ستظل معتمداً على أبيك طوال عمرك ، إن المرأة التي تشعر أن زوجها لا يستطيع إعالتها أو أن هناك من يساعده تفقد احترامها له .

على كل حال تعال معي للمحامي فلن يجبرك أحد على شيء .
التقى المحامي بعماد وباسم ، لم يدع أي سؤال أو استفسار يتجول داخل عقولهم إلا وأجاب عنه ، لدرجة أن باسما ً في أعماقه كان يتمنى أن يجد ثغرة ينفذ منها حتى لا يفكر بالهجرة لكن كندا كما صورها المحامي باتت أرض أحلام لابد من زيارتها .
عاد باسم لبيته علّه يجد عند زوجته الحل الذي يريده ، وكأنه يريد أحدا ً يقنعه بعدم التفكير في السفر ، لكن زوجته تحولت لشيطان رجيم ، تعيّره برومانسيته التي لم يعد لها لزوم وباعتماده على أبيه كأنه رضيع ، سودت أيامه وأظلمت لياليه وحولت البيت لجحيم وخيرته بين الانفصال أو السفر ولأن باسما ً إنسان عاطفي جداً رفض أن تتربى ابنته بين أم وأب منفصلين وتحت الضغط تقدم بطلب الهجرة .

-5-

خمسة عشر عاما ً مرت على باسم وهو في كندا ، لم يصبح كندياً فقط ، بل تحول لملياردير، وابنته ذات الملامح الشرقية والطباع الغربية باتت تتحدث العربية بصعوبة و أصبحت غريبة عن أقاربها فلا تعرف أحدا ً منهم ، أما زوجته إيناس فهي لا تمل من زيارة محلات المجوهرات الثمينة فلا بد أن تكون مميزة بين صديقاتها وصاحباتها فلا بد من أن تلبس خاتما ً لا مثيل له أو عقدا ً لم تتزين به امرأة قبلها ، تبحث عن النادر والجميل .
بعد تلك الأعوام قرر باسم العودة ، قال لزوجته لديك ما تحتاجينه أنت وابنتك ، لديك قصر هناك وابنتنا تستطيع إكمال دراستها مثلما تريدين فدعينا نعود ، جعلتني أعتقد أن الاستقرار في المال وهأنذا امتلك الملايين ولازلت أشعر بالشتات .

-6-

شعر باسم بالحنين للحدود والشجرة التي جلس تحتها منذ أكثر من خمسة عشر عاماً وبالفعل تصرف بجنون وذهب للحدود وهناك وجد كل شيء على حاله ، الشجرة لازالت مكانها وموظف الجوازات الذي سأله أين تحب أن تعيش لازال موجودا ً لكنه بدا هرماً تغلب عليه العمر والسنون .

جلس باسم تحت الشجرة ذاتها وعاد يفكر في أي مكان يحب أن يعيش ، شرد وتأمل كثيراً وقال لنفسه إن الاستقرار هو الوثوق بالله والتسليم الكامل للقضاء والقدر وليس بالمكان وبالمال فلو عرفت ذلك منذ زمن لما ضعت وشعرت بالشتات .

بالأمس كنت محتاراً في أي بقعة من الوطن العربي أريد أن أعيش إلى أن أمسى بي الحال لأن أكون كنديا ً وإن عجزت عن الاختيار في الماضي فلابد أن أكون قادراً على الاختيار الآن وإن نجح العالم في سلب هويتي الفلسطينية فلن ينجح في سلب انتمائي العربي وإن كان الأمر اختيارا ً فأنا حر ولابد أن أختار ، أنا عربي وهاجرت من الوطن العربي وسأعود إليه ، سأدفن تحت ترابه ، أنا من الوطن العربي .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى