الثلاثاء ١٢ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٦
بقلم محمد صلاح العزب

ورحل نجيب محفوظ .. الطفل الذي صار مطيعًا

"في مرحلة حاسمة من العمر
عندما تسنم بي الحب ذروة الحيرة والشوق
همس في أذني صوت الفجر:
هنيئا لك فقد حم الوداع.
وأغمضت عيني من التأثر، فرأيت جنازتي تسير
وأنا في مقدمها أسير حاملا كأسا كبيرة مترعة برحيق الحياة".

نجيب محفوظ ـ أصداء السيرة الذاتية

نجيب محفوظ 2006، ممدد على سريره في مستشفى الشرطة بالعجوزة، يلقي أمنيته الأخيرة: "نفسي أروح الحسين".
فلاش باك: 11 ديسمبر 1911، ساحة المشهد الحسيني، نلمح رجالا بجلابيب يروحون ويجيئون، في أركان الساحة يتوزع المجاذيب، الشحاذون، وباعة الحلوى..
هنا يولد طفل، له شامة على خده الأيسر، يمنحونه اسم الطبيب الذي قام بعملية إخراجه للحياة: "نجيب محفوظ".

منذ هذه اللحظة يرتبط نجيب محفوظ باثنين أشد الارتباط: بالحسين، وأمه التي ورث منها الإحساس المرهف، والعمر المديد، وعشق الحسين.
لم يكن غريبًا أن يكون اسم الأم "فاطمة"، أُمُّ الاثنين: نجيب محفوظ، والحسين، فكانت العلاقة بينهما أشبه بعلاقة أخوَّة من طرف واحد "طرف نجيب محفوظ"، فلم يكن ممكنا أن يرحل دون أن يطلب رؤيته للمرة الأخيرة، وحينما لم يتمكن من زيارته في ضريحه رأى أن يذهب إليه مباشرة.

تبدأ الحكاية بالحسين وتنتهي بالحسين، منذ ميلاده والحي يسكن وجدانه، عندما يسير فيه يشعر بنشوة غريبة، أشبه بنشوة العشاق، كان يشعر بالحنين إليه لدرجة الألم، والحقيقة أن ألم الحنين لم يهدأ إلا بالكتابة عن هذا الحي. وبعد أن انتقل محفوظ مع أسرته إلى العباسية كانت المتعة الروحية الكبرى هي أن يذهب إلى الحسين.

"في فترة الإجازة الصيفية أيام المدرسة والتلمذة كنت أقضي السهرة مع أصحابي في الحسين، ونقلت عدوى الحب لهذا الحي إلى أصدقائي، فتحت أي ظروف لابد أن تكون السهرة في الحسين، وحتى لو ذهبنا لسماع أم كلثوم وتأخرنا إلى منتصف الليل، لا نعود إلى منزلنا إلا بعد جلسة طويلة في "الفيشاوي" نشرب الشاي والشيشة ونقضي وقتا في السمر والحديث.

كانت الأم مفتاح السر، منها تعلم محفوظ العشق، كانت تعشق الحسين وتذهب لزيارته باستمرار، وكانت تطلب من طفلها أن يرافقها في زياراتها اليومية، يدخلان إلى الضريح فتطلب منه قراءة الفاتحة وتقبيل الضريح، كانت هذه الأشياء تبعث في نفس الطفل الرهبة والخشوع.

"في الفترة التي عشناها في "الجمالية" كانت تصحبني معها في زياراتها اليومية، وعندما انتقلنا إلى العباسية كانت تذهب بمفردها، فلقد كبرت أنا ولم أعد ذلك الطفل المطيع، ولم يعد من السهل أن تجرني وراءها".

هنا في الحي العريق تشكل الوجدان، على باب المقهى يقف الطفل لينصت إلى الشاعر الشعبي الذي يغني على الربابة في مقهى خان جعفر، منزويا وسط الأطفال، وقد اصطف الجمهور على الكراسي، إذا حكى الشاعر قصة "أبي زيد الهلالي" ينقسمون إلى فريقين: الأول يؤيد "أبا زيد" والثاني يؤيد "ديابًا" إلى حد قيام المشاجرات بين الفريقين، هل كان محفوظ وقتها ينزوي في ركن آخر مراقبا تلك المشاجرة القائمة على أساس فني؟!
في حي الحسين يتعرف الطفل على ملامح هذا العالم الكبير، يقف في نافذة بيتهم المواجهة لقسم الجمالية، يرقب المظاهرات، وعساكر الإنجليز وهم ينظمون طوابيرهم، وزفة الفتوة، والمجاذيب، ينزل في ليل رمضان ليدور مع الأطفال يلهون بالفوانيس ذات الشمعة.

"كان والدي يعاملني بحنان ولطف، ولم يضربني في حياته إلا مرة واحدة، ولهذه "العلقة" قصة، كانت عساكر الإنجليز تحتل ميدان "بيت القاضي" حيث نسكن، وكانت تعليمات أبي تمنع فتح النوافذ المطلة على الميدان مطلقا، لأن الإنجليز كانوا يعتبرون النوافذ المفتوحة بمثابة تهديد لهم، فقد يكون هناك من يحاول إطلاق الرصاص عليهم من النافذة المفتوحة، وذات يوم انتهزت فرصة انشغال أمي في المطبخ وفتحت النافذة، وجلست أشاهد العساكر الإنجليز وأقلد حركاتهم وأصواتهم عند تغير الطابور العسكري، وفجأة وجدت أبي واقفا فوق رأسي وهو ينظر لي بغضب شديد، ثم أحضر عصاه وهوى بها علي وجاءت أمي تساعده، وطرحاني أرضا، وأمسكت أمي بساقي ورفعتهما إلى أعلى، ليتمكن أبي من ضربي بالعصا على بطن قدمي، وتركاني وأنا أعرج، وكانت المرة الأولى والأخيرة التي يضربني فيها والدي رحمة الله".

كما كان محفوظ الطفل ماهرا في لعب الكرة إلى حد أن كل من حوله كانوا يتوقعون أن يصبح لاعب كرة مشهورا، لكنه الأدب.
يذكر مدحت عاصم في مذكراته أن محفوظ كان ماهرا في لعب الكرة وأنه كان يلعب حافيا.. ثم ينبري صاحب نوبل في شعور نادر للدفاع عن نفسه ويقول:

"ليس من المعقول أن ألعب الكرة حافيا دون حذاء، فالأرض في الوايلي بوسط القاهرة رملية، ولن تخلو من مخلفات زجاج مكسور أو بقايا مسامير أو حصى أو ما شابه ذلك، مما يمكن أن تحتويه الأرض عن غير قصد وعن غير نظافة، فتكون النتيجة الطبيعية إصابات وجروح ولذلك كان لعبي للكرة حافيا غير ممكن".

يلتحق الطفل الصغير بالكتاب، يذهب إليه سيرا على الأقدام، يقع الكتاب في بيت أثري، فيعشق الآثار الإسلامية، تتوغل في كيانه البواكي والمقرنصات والقباب والمحاريب، يجلس الطفل مفترشا الأرض، ولدًا ضمن الأولاد، يحفظ جزءًا من القران، ويتعلم مبادئ القراءة والكتابة، يمتد معه عشق القران حتى نهاية حياته، فيما بعد سيصير الولد الصغير الذي يمسك باللوح وقد لوث ملابسه بالحبر الأزرق شيخا للكُتَّاب "هذه المرة جمع كاتب".

"لم أقرأ في حياتي كتابا واحدا أكثر من مرة باستثناء كتاب واحد هو "القرآن الكريم"، قرأت القرآن منذ الصغر، وتعلقت به، ومازلت أقرأ فيه بشكل يومي ولو أجزاء قليلة، قرأت كذلك كتب التفاسير، خاصة القرطبي، وسيد قطب، وإن كان أكثرها راحة وسهولة بالنسبة لي هو "منتخب التفاسير" الصادر عن مجمع البحوث الإسلامية".

تتفجر الأزمات تلو الأزمات والطفل الذي صار كبيرًا لم يحب الوقوف موقف الدفاع عن ذنب لم يرتكبه، تعلق بالإيمان، فجاءته التهمة في إيمانه، دافع محفوظ عن "أولاد حارتنا"، وعن إيمانه، كانت الفكرة محلية فألبسها ثوب الكونية، ثم فصل بين الرمز والمرموز، وتعامل مع أبطاله حسب طبيعة البيئة والمكان والقضية التي يطرحها، كان يملك مستويات متعددة من الوعي، وفي النهاية رفض أن تنشر الرواية في مصر إلا بعد موافقة الأزهر!!! ولم يكن رأيه في حرية الإبداع مطلقا غير مقيد، كانت الحرية لديه مقننة بالإبداع، وحينما تطغى الرؤية الأيديولوجية على الإبداع، في شطحات غير مسئولة كان يقف ليعلن أن هذا ليس إبداعا..

"ما كتبه سلمان رشدي ـ في آيات شيطانية ـ يدخل تحت بند السب والقذف وعليه أن يتوب، والإسلام يقبل التوبة إذا كانت صادقة مخلصة، وهذا ليس معناه مصادرة حرية الفكر، فما كتبه في روايته كان من منطلق حرية الفكر، وتراجعه سيكون من نفس المنطلق.
ومن الصعب أن أوجه نصيحة لكاتب من المفروض أنه من قادة الفكر، فالأمر يرجع في الأساس إلى ضميره، فإذا كان متمسكا بآرائه التي احتوتها الرواية، فليس عندي نصيحة، ولا أستطيع على تغييرها، أما إذا شعر بخطئه وندمه، ففي هذه الحالة أوجه له هذه النصائح:
أولا : أن يعلن توبته كما يطلب منه.
ثانيا : أن يمنع ما استطاع ترويج الرواية.
ثالثا : أن يتبرع بأرباحه منها لإحدى الجهات الإسلامية".

في المدرسة الابتدائية تتفجر الموهبة، يقرأ الولد الذي شب لكبار الكتاب "آنذاك" ويحاول تقليد أساليبهم، حاول تقليد المنفلوطي في النظرات والعبرات، وحين قرأ الأيام لطه حسين عكف على الأوراق طويلا محاولة كتابة قصة حياته على طريقة طه حسين، وأسماها "الأعوام"، ثم بدأ يكتب الشعر ثم غادره، إلى أن أخذته قدماه إلى ساحة الرواية، وجد نفسه فيها فلم يغادرها، ولن يغادرها.
وتبقى الأم "فاطمة" هي أساس الحكاية، الأم في الحكاية هي الركن، منها تبدأ وعليها تتكئ، تغيب لتظهر في كل أعماله، رمزا لشيء كبير بالغ الود والحنو، قادر على الاحتواء..

"رغم أن أمي عاصرت ظهور التليفزيون فإنه لم يدخل إلى بيتها، بل لم تدخل السينما إلا مرة واحدة، لمشاهدة فيلم "ظهور الإسلام" بعد أن وصل إلى مسامعها أن من يشاهد هذا الفيلم يكون بمثابة من ذهب لأداء فريضة الحج، وبما أنها لم تتمكن من الحج، ذهبت لمشاهدة الفيلم".

يكبر الولد وتمر به الأيام، تسلب منه كل شيء، ويمنحها هو كل شيء، تمضي الأيام، ويتعلم الحياة درسا بعد درس، ويبقى الحسين "الحي/الإنسان" ماثلا أبدًا في خلفية المشهد.

لم يكن عبثًا أن يسمي محفوظ ابنته فاطمة، هنا يتدخل الأديب لكي تستمر السلسلة "فاطمة/الحسين".
في أول الحكاية "تذهب الأم بمفردها إلى الحسين، لأن الولد قد كبر ولم يعد ذلك الطفل المطيع".

وفي نهاية الحكاية "نفسي أروح الحسين"، وكأنما كانت كل هذه العقود الطويلة ضرورية حتى يدرك الطفل أنه كان من البداية ينبغي أن يكون مطيعا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى