الأحد ١٧ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٦
في قانا مذبحة
بقلم أديب قبلان

رحلة الذهاب

1

لم أع ما كان يتكلم عنه في حينها، كانت الدنيا مليئة بالضجة، امرأة تركض هناك ورجل متمدد على الأرض يلفظ أنفاسه الأخيرة، وأطفال يصرخون، ونساء يبكون أبناءهم وأزواجهم.

لم نعرف ماذا يحصل تقريباً، لكن نفسي كانت تضج بأفكار شتى متنوعة، تتقاذفها الصور والذكريات، ناداني أبي بصوت خافت من جانب الحائط المستند على الهواء:

"محمد من هنا"...

ولكن لم يكمل عبارته، فقد قطعتها رصاصة أوقفته عن الكلام، فقد أزحم فمه الغائر في وجهه بالدماء الوردية، اتجهت دموعي تغسل وجنتاي حزناً عليه لكنني لم أكن سوى أحد الصبية الذين فقدوا أهاليهم في هذه المذبحة.

مر بجانبي أبو أحمد وأمسك يدي وانطلق بها إلى الجهة الشرقية من المدينة عبر الأزقة التي ازدحمت بالجثث فكانت كالطريق المغلف بالجثث، سألته باكياً :

"إلى أين يا عمي؟"

فأجابني وهو يلقط ما يستطيع من أنفاس:

"إلى بر الأمان بإذن الله"

لم أستطع أن أجمع أفكاري التي بدت مشتتة الأركان، لم أستطع أن أبني شيئاً على ما يحصل، فقد كان كل ما يشغل عقلي مكان وجود أمي وأخواتي، فهاهي يد أبي أحمد يبدو على أعصابها التلف والإرهاق فهو كبير طاعن في السن، لكنه يغير وضعيتي فمرة على كتفه ومرة على ظهره ومرة في حضنه، أدركت أنه قد تعب فطلبت منه إنزالي لكنه لم يرض قائلاً:

"أين ستذهب في هذه الضجة"

فأطرقت صامتاً إلا دموعي فقد كانت تحكي حزناً على أبي الذي استشهد أمامي.

كان هناك أحد الضباط الإسرائيليين يتكلم في بوق كبير ذي صوت مرتفع وينادي بأن نخلي القرية، وقد كان في الرتل الذي كنت فيه مع أبي أحمد ستة شباب يافعين وقد اطمأنوا جميعاً أنهم سيبقون على قيد الحياة لأنهم تعدو منطقة الخطر ووصلوا إلى حدود "تبنين" وخففوا من سرعتهم وأنزلني أبو أحمد من على كتفه الذي انهار، وأوعك نفسه قليلاً مظهراً أسنانه الصفراء الطاعنة في السن ثم اعتدل فأكملنا طريقنا إلى أن وصلنا الشارع العام وأوقفنا إحدى السيارات المارة لنستقلها ونصل إلى حدود مدينة "تبنين".

2

أنزلنا السائق على مشارفها معتقداً بوجود اليهود فيها لكن أبا أحمد و من كان معه من الشباب متيقنون بعدم وجودهم فيها، لكن.... بعد أن قطعنا الشارع باتجاه الأراضي الزراعية وجدنا علماً معلقاً على بيت يبدو خشبياً... إنه علم الأوغاد علم اليهود، انتابت أبا أحمد والشباب حيرة فلم يصلوا إلى هنا، كيف وجد العلم إذاً، بدأت أنظر إليهم راجياً أن يكون ما يفكرون به هو العودة من حيث أتينا!

بدأ العرق بالتصبب على خدود أبي أحمد والشباب، نظروا في وجوه بعضهم متناقلين الحيرة! ثم قال أحدهم :

"أنا.. أنا من كان صاحب الرأي في المجيء إلى هنا... فإذاً أنا أتحمل مسؤولية ما حدث وأذهب إلى هذا المبنى البسيط لأتأكد من عدم وجود يهود فيه"!

"ارتبك أبو أحمد بعض الشيء لكنه لم يبد أي اعتراض على الفكرة، فانطلق هذا الشاب بأمر رباني وبشكل حذر و بطيء باتجاه هذا البناء الصغير، يتحرك... يتحرك... يتحرك، فإذا به يسقط، ويصرخ أبو أحمد:

"هذا ما توقعته من هؤلاء الأوغاد، هذا ما توقعته!" فقد كان هذا البناء هو مرتكز لـ "قانص" آلي يقنص من يأتيه من هذه الجهة.

ثم تبدو عبرات محتدمة بالسقوط على الأرض التي طالما شربت دماءً ولكن هذه المرة شربت دموعاً مالحة.

رأى الشباب أن يكون الابتعاد أفضل لكن أبا أحمد أصر على المضي في الطريق ولكن من مكان آخر، وانطلقوا من الطريق العام بسيارة أجرة كانت قد مرت من هناك مصادفة، فحملتهم رأفة بهم وقال لهم السائق أنه متجه إلى "تبنين" فأخبرناه بما حدث، فحول طريقة إلى بيروت، ونصحنا بالمضي معه.... وقد كان له بيت هناك.

3

في بيروت استضافنا سائق الأجرة في منزله لأنه كان أعزباً، وقد كنت تقريباً ناسياً أن لي أهل بقوا في قانا، واستمرت الحياة مع هذا السائق الخلوق البسيط عدة أيام، وأخبار قانا تصل إلينا عبر زوار هذا السائق، منها ما كان يصدق ومنها ما كان لا يصدق :

"يقولون أن عدد أسكان قانا الذين بقوا على قيد الحياة هم مئة فقط! "

"يقولون أن أولمرت وبوش عقدوا مؤتمرهم في قانا لقهر الشعوب العربية!"

لا أدري مدى مصداقية هذه الأخبار، لا أدري عن مدى حالة اليهود في قانا.

كان جميع سكان المنزل مهذبون ويحترمون صغر سني ويداعبونني على أنني أصغرهم سناً وأنني أفقرهم حالاً، ولكن ما لبث أحدهم أن سألني عن سبب وجودي في هذا المكان قائلاً :

"صحيح، أليس لك أهل؟ أتعيش وحدك؟"

هنا أحسست أن شيئاً في جوفي بدأ يتحرك ولكنني أخفيته لكن للأسف لم أستطع أن أطيل إخفاءه، فأظهرته متمثلاً بقيام إلى الغرفة ودخول إليها وقفل للباب خلفي.

استغربت عدم مجيء أحد لمعرفة حالتي ولا حتى أبا أحمد، لم يأت لمواساتي، وهنا بدأت أتذكر عائلتي وبدأت أتهم نفسي بالغباء لمجيئي مع أبي أحمد وقررت أن أبداً رحلة العودة لأجد أمي وأخواتي وجثة أبي...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى