الأربعاء ٢٠ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٦
بقلم سهير فضل عيد

أطفال للبيع

في قرية ريفية هادئة لا يعكر صفوها الريح العاصفة ولا حتى الشمس الحارقة , قرية يفوح عبيرها من كل الجهات فيعطر هواؤها القرى المجاورة . قرية تنعم بتغريد البلابل وحمام الحب الزاجل .
في تلك القرية التي لا يعرف سكانها إلا الحب ولا يتقنون مهنة إلا الزراعة كان يعيش المزارع غسان , الرجل ذو القلب الطيب والمتمسك بعادات ومبادئ أخلاقية سامية لم يعد لها وجود الآن . ذو ملامح ريفية وبشرة ملونة بلون الأرض , يعيش مع زوجته وخمسة أطفال.

أحمد- خمس سنوات , محمود- أربع سنوات , مها- ثلاث سنوات , خالد- سنتان , حنان – سنة.
ليس في حياة هذه العائلة شيء مثير بل تكاد حياتهم أن تكون رتيبة . يبدأ يومهم بصلاة الفجر ثم تقوم الأم بحلب البقرات ومن ثم تناول الإفطار بعد ذلك يذهب الأب مع ابنه أحمد إلى الأرض وتبقى الأم مع باقي الأطفال في البيت الريفي تعتني بأطفالها وتخلط الدقيق بالماء لإعداد خبز اليوم وتحضير الطعام وما إلى ذلك من عمل السمن واللبن من الحليب الطازج وهكذا دواليك.

عند الظهيرة يرجع غسان مع ابنه أحمد لتناول طعام الغداء مع عائلته فقد كان غسان أباً حنوناً محباً للجو الأسري يفضل الاجتماع مع عائلته حول مائدة ريفية صغيرة , كان غسان يراقب أطفاله وهم يأكلون وعندما ينتهي أطفاله من الطعام يبدأ هو بتناول طعامه وذلك ليس لقلة الطعام وإنما لأنه كان يشعر بالسعادة عندما ينظر لأبنائه وهم يأكلون.

لم يخطر ببال غسان أن يعلم أبناءه ولم يشغل باله يوماً بالتعليم فهو من أسرة تعتبر أن الأرض والزراعة وتربية المواشي أشياء أهم من التعليم , هذا ما ورثه عن أبويه وهذا ما سيورثه لأبنائه.
تعود غسان أن يؤدي كل طقوسه مع عائلته فهو رغم أميته وبساطته مؤمن بأن سلامة المجتمع لا تكون إلا بأسرة مجتمعة على الخير والشر متحابة , وكل فرد منها لديه استعداد لإفناء حياته من أجل الآخر.
بعد أن يتناول غسان غداءه ويرتاح قليلاً يعود للأرض لكن هذه المرة بدون أحمد حتى يترك له فرصة ليستمتع باللعب مع أخوته .

ليتكم تشاهدون غسان حين كان يجلس في البيت وهو يلاعب أطفاله ، رغم رجولته وملامحه الريفية القاسية ورغم تعبه طوال اليوم إلا أنه كان طفلاً مع أطفاله .
لم يفكر غسان في غده , كان يقول ما دام معي رزق يومي وما دام أطفالي ينامون ومعدتهم ممتلئة فلا داعي للتفكير في الغد .
لم يكن غسان يختلط مع أهل قريته كثيراً على رغم أنهم يحبونه ليس لسبب إلا أنه يفضل السهر مع عائلته .
ومرت سنوات والبال مطمئن والرزق يزداد والأطفال يكبرون إلى أن جاء ما يكدر البال وما لم يتوقعه غسان , جاء العدو ورمى برحاله على أرض هذه القرية .
لماذا اختار العدو هذه القرية ؟ لماذا قرر العدو أن يصبح عدواً؟

إن حاولنا أن نجد أسباباً لا نجد سوى القوة وأن القوي لا بد أن يُظهر قوته على الضعيف بدلاً من إظهارها على القوي , على رغم أنني لا أؤمن بمبدأ إظهار القوة والاستعباد لا على الضعيف ولا على القوي .
لم يمتلك سكان القرية سلاحاً ليدافعوا عن أنفسهم مما أدى لتغلغل العدو بسرعة فائقة بين بيوت الفلاحين وأراضيهم , بدأ العدو بطرد القرويين والاستيلاء على ممتلكاتهم وسكن العدو بيوت الفلاحين والذين لم يصلهم خطر العدو بدؤوا بجمع ما يقدرون عليه من متاع ومال وهموا بالرحيل إلى القرى المجاورة التي كانت تربطهم بها روابط وثيقة وأواصر محبة وتعاون وألفة .
خاف الفلاحون وفضلوا الرحيل لأنهم لا يعرفون معنى الحرب , ومنهم من باع الأرض والبيت ورحل وهناك قلة قليلة فضلت الحرب بسلاح أقل ما يقال عنه حين مشاهدته أنه قطع حديدية لا نفع لها سوى إصدار أصوات .
أما غسان فكان مزعزعاً بين البقاء والرحيل إلا أنه في النهاية قرر البقاء معتقداً أن هذه محنة ستنتهي خلال أيام , ومرت شهور عديدة على الاستعمار وغسان ينتظر الفرج وفوهة الفرج تضيق ولما طال الصبر على غسان وشعر أنه سيأتي يوم يفقد فيه صلابته وينهار وينسى الصمود حاول أخذ احتياطه بأن خبأ ما لديه من مال داخل جرة فخارية ودفنها بجانب بيته تحت شجرة الزيتون وجاء اليوم الذي كان يخشاه وبدأت زوجته تلح عليه بالرحيل بالإضافة لنظرات الخوف التي تملأ عيون أطفاله ويوم يتلوه يوم وجاءت لحظة القرار ولحظة الرحيل كل ما استطاع أخذه معه خلسة من العدو هي تلك الجرة الفخارية لأنه رفض بيع أرضه وبيته ولأن العدو استولى على أملاكه .

قالت زوجته : دعنا نرحل إلى إحدى القرى المجاورة فإن أهلها سيكونون لنا عوناً فلطالما كنا إخوة ولابد أنهم سيتقبلوننا ويستضيفوننا إلى أن تنتهي هذه المحنة ولابد أن يأتي يوم ونعود لمنازلنا .
رحل غسان مع عائلته وخلفوا وراءهم حمام الزاجل المقتول برصاص العدو وأشجار الزيتون الباكية .
بعد أيام قليلة وصل غسان وعائلته إلى قرية الشاطئ وكان غسان على يقين أن أهل هذه القرية سيتقبلونه بشوق ويرفعونه على أكف الراحة فهم وإن بعدت المسافات بينهم , مرتبطون بعادات وأخلاق واحدة ولكن الذي لم يخطر على بال غسان أن هذه القرية اكتفت بمن جاءها هارباً من العدو ولم يعد سكانها يريدون استقبال المزيد , ثم إن الفقر والتشرد يغير نظرات الناس فالغني هو الذي يتمنى الناس وصاله أما المتشرد أو على الأصح الإنسان الذي كُتب عليه أن يكون بلا أرض أو وطن كغسان وغيره ودون أهل لأن العدو قتل الكثير وبعثر من تبقى وشردهم في كل اتجاه , ذلك الإنسان يحاول الناس الابتعاد عنه.

بدأ غسان يسأل الأهالي عن مكان للسكن ولكن الأهالي استقبلوه بعكس ما توقع فلم ير أمامه سوى وجوه عابسة ونظرات محتقرة وآذان بها وقر وأياد رافضة عناق يديه , لم يفهم غسان لمَِ ولماذا هذا الموقف ؟ حاول الشرح , حاول الكلام ,حاول بالإشارات , بكل الوسائل لكن دون جدوى لمحاولاته .
قذفوا به إلى أحقر مكان في القرية ولم يكن باستطاعته سوى أن يقبل بأن يسكن هو وزوجته وخمسة الأطفال في غرفة بسقف لا يقي حراً ولا برداً , لكنه لم ييأس بدأ أولاً بترميم الغرفة واشترى فرشاً متواضعاً , حول المكان المهجور إلى مكان مؤنس مقبول بعض الشيء , ثم بدأ بالبحث عن عمل قبل أن ينفذ المال , في هذه الفترة كان ابنه أحمد بلغ اثني عشر عاماً ولأن أحمد تعود أن يساعد أباه قرر هو الآخر أن يبحث عن عمل, لكن سكان القرية رفضوا أن يقبلوا بغسان وابنه , شرح لهم أنه سيعمل مزارعاً أو راعياً أو حارساً لأرض أو بيت أو مدرسة أو حتى خادماً لكن دون جدوى, والسبب أنه متشرد قد يسرق أو يقتل والبعض اعتبره دخيلاً وإن شباب قرية الشاطئ هم أولى بالعمل منه.

وتمر الأيام والمال يتناقص على رغم الحرص الشديد ,ومر عام على ذلك والعدو هناك ، وهنا مازال القرويون متعالين ظالمين حاقدين ... ... لماذا ؟
لا نعرف سبباً مقنعاً غير أنهم يعتقدون أن غسان وأمثاله جاءوا ليقاسموهم خيرات قريتهم .
فكر غسان بالرحيل إلى مكان آخر , لكن إلى أين ؟ فربما يلقى نفس المصير .
ذات يوم نظر غسان داخل جرته الفخارية فوجدها فارغة ونظر تلقاء أهله فوجدهم يبكون جوعاً.
ذهب غسان يقبل الأيادي والأقدام علّ قلوب القرويين ترأف بحاله فلم يسمع له سوى سيد يدعى بالسيد ماجد .

يبلغ السيد ماجد الخامسة والأربعين من العمر وهو قاسي القلب وصلب جداً يسيطر عليه التعالي والغرور ومتزوج من سيدة تدعى حنان تمتلك قلباً صافياً يملؤه الحنان, لم يرزقهم الله أطفالاً ولكن أنعم عليهم بالكثير من المال .
بعد ما عرف السيد ماجد قصة غسان وافق على تعيينه سائساً للخيل بدخل لا يؤمن سوى وجبتين متواضعتين لعائلته , وافق غسان على ذلك وتحمل كل أصناف الإهانة والذل والاستعباد من قِبل السيد ماجد الذي أعلن الحقد عليه .
تحمل غسان الذل من أجل عائلته والأمل لديه بالعودة لأرض الزيتون لم يمت.
كان أحمد لا يفارق أباه تقريباً وكانت سيدة المنزل ترى أحمد وهو يأتي لزيارة أبيه من حين لآخر , فرقّ قلبها لملابسه الرثة ولبنيته الضعيفة ووجهه الشاحب وحيث إنها لم تكن راضية عن معاملة زوجها لغسان فقد كانت تعطي غسان ما تستطيع توفيره دون علم زوجها.
وذات مرة عندما كان السيد ماجد خارج البيت كعادته وقت الظهيرة يتفقد أملاكه وأراضيه جاء أحمد كالمعتاد فنادته السيدة حنان ودار بينها وبين أحمد حديثاً مطولاً عرفت من خلاله كل شيء عن غسان المسكين وعائلته .

ولأن السيدة حنان لم ترزق بأطفال عاملت أحمد بعطف ورحمة وطلبت منه أن يحضر إخوته ليلعبوا في حديقة المنزل خلال الصباح وزوجها ماجد وافقها على ذلك بعد إصرار كبير منها .
كانت السيدة حنان تعطي أولئك الأطفال الطعام واللباس الجديد من وقت لآخر دون علم زوجها .
في تلك الآونة كانت أعمار الأطفال : أحمد ثلاث عشرة سنة , محمود اثنتا عشرة سنة , مها إحدى عشرة سنة, خالد عشر سنوات ، حنان تسع سنوات .
ومرت الأيام وبدأ ماجد يلاحظ أفعال زوجته واختلفا كثيراً وعلا صوتهما غضباً مرات عديدة خاصة أن ماجداً علم بأن زوجته تعطي غسان المال وهمّ بطرد غسان لولا أن توسلت إليه زوجته حنان وقدمت له الوعود بأن تمتنع عن ذلك.
قالت حنان : دعني استمتع ولو للحظات مع هؤلاء الأطفال وقدر عاطفة الأمومة لدي وأننا أنا وأنت لا ننجب أطفالأً وإن كان فؤادك قسا وما عاد يحمل الرحمة تجاه الناس والفقراء فارحمني أنا زوجتك وإن كنت لا تشعر بعاطفة الأبوة فدعني أشعر بأمومتي ولو كذباً.
وكأن حنان أصابت نقطة ضعفه فتركها ماجد تفعل ما تريد شرط عدم إعطاء غسان أي مبلغ من المال دون علمه ورفض زيادة دخل غسان قائلاً : يكفي أن يأتي الأطفال ليلعبوا معكِ ولكن إياك وإعطاءهم المال و إلا سأطردهم جميعاً من القرية كلها .
حنان : لك ما تريد .
وتمر الأيام ويتعلق قلب حنان بالطفلة مها ذات الوجه الناعم الجميل الحزين .
وماذا عن غسان وعائلته ؟ ما هي أخباره ؟

لقد عقدت الأيام صفقة مربحة مع قساة القلوب والمرض وانهالت على زوجته بالمرض ولأنهم فقراء لا يستطيعون شراء الدواء أو حتى الذهاب للطبيب فكان المرض يتزايد يوماً بعد يوم .
علمت السيدة حنان بحال زوجة غسان وطلبت من زوجها مد يد العون لكنه رفض وهذا المتوقع . فمن أين يأتي رجل خلع من قلبه الحنان بالعطف على الآخرين ؟ وهنا فكرت حنان بحل سيكون قاسياً بعض الشيء أو قاسياً جداً لكنه الحل الذي سيعطي الجميع خاصة غسان وعائلته الحياة الكريمة على حد تعبير حنان لزوجها ماجد :

 ما رأيك أن تشتري أحد أبناء غسان ؟ لنربيه ونعوض به ما فقدناه وبعد جهد كبير بذلته حنان لإقناع زوجها ماجد .
 ماجد : ليس عندي مانع لكن عندي شرط ؛ أن يترك غسان العمل ويبتعد عن القرية , ثم ابتسم ماجد وقال سنشتري خالداً إذاً .
 حنان مندهشة : وما أدراك أن لدى غسان ابناً يدعى خالداً ولماذا هو بالذات ؟
 ماجد : في النهاية أنا يا حنان كباقي الرجال أحلم أن يكون لدي ولد وإن سبب حقدي على غسان ومعاملتي الجافة له هو أن الله أعطاه خمسة أطفال وهو الفقير الحقير المتشرد الذي لا أرض له ولا وطن وأنا ذو المال الوفير والجاه العظيم لا أمتلك طفلاً واحداً .
 حنان : كل شيء قسمة ونصيب ولكن يا ماجد أنا أحببت مها .
 ماجد : أما أنا كنت أراقب الأطفال وهم يلعبون وتعلقتُ بخالد وتوسمت فيه الرجل الناجح , إذاً سنشتري مها وخالداً .
 حنان : أخشى أن لا يوافق غسان .
 ماجد : أنا متأكد أنه سيوافق فهؤلاء الفقراء بحاجة للمال أكثر من الأولاد .
في اليوم التالي طلب ماجد من غسان الحضور لغرفة الضيافة .
 ماجد : اجلس يا غسان , تفضل !
غسان تعجب من تصرف السيد وبقى واقفاً .
مشى السيد ماجد باتجاه المطبخ وأحضر كوباً من العصير بنفسه لغسان .
اندهش غسان من الموقف !
 ماجد : تفضل يا رجل , اجلس وتناول كأس العصير من يدي , ما بك تنظر إليّ هكذا ؟! لابد وأنك متعب من العمل طوال اليوم .
تناول غسان كوب العصير وبدأ يشرب وفي عينيه حيرة شديدة وأخذ يحادث نفسه , ماذا يريد؟! ماذا يريد هذا الغني من الفقير ؟! ما سر هذا التغيير ؟!
ومرت دقائق والصمت يملأ المكان , ماجد لا يعرف كيف يبدأ وغسان لا يعرف ماذا يفعل أو يقول.
ثم قرر ماجد الكلام فقال :

يا غسان لقد علمت بأن زوجتك مريضة , ما رأيك لو نأخذها للطبيب ونعرف ما الذي أصابها ؟
غسان : يا سيدي .... لكن ... أقصد أن .... تلعثم غسان ولم يعرف ماذا يقول ؟
قاطعه ماجد على الفور قائلاً بصيغة الأمر :

اذهب إلى البيت وأحضر زوجتك لآخذكما بسيارتي إلى المستشفى , هيا يا غسان ما بالك تنظر إليّ هكذا ؟ معك ساعة من الآن هيا .
ذهب غسان إلى البيت بين المندهش والسعيد وعلى رغم الحيرة إلا أنها فرصة فلماذا لا نستغلها ؟ ثم إنهم لا يملكون شيئاً يقدمونه للأغنياء , ولعل قلب السيد ماجد قد رق .
هناك في المستشفى تم إجراء الكشف الطبي وأخذ صور الأشعة وكانت النتيجة أن زوجة غسان مصابة بمرض خبيث ولأنهم وصلوا متأخرين كان المرض قد انتشر وهدم الكثير من خلايا وأحشاء الأم الريفية الحزينة الصابرة .

فرح السيد ماجد بهذا الخبر داخل نفسه فمصائب قوم عند قوم فوائد ، طلب ماجد من غسان أن يوصل زوجته للبيت ثم يوافيه إلى المزرعة .

الحوار بين ماجد وغسان

 ماجد : تفضل يا غسان بالجلوس
 جلس غسان منتظراً كلمات سيده ماجد .
 ماجد : تعلم يا غسان أنك إنسان فقير ويبدو أنه لا أمل برجوع أرضك إليك ولا حتى بعودتك لقريتك وأنت هنا فقير حتى المال الذي تأخذه لقاء عملك عندي لا يكفيك لإعالة بيتك فأنت لا تستطيع شراء شيء إلا الطعام وانظر لابنك أحمد لقد بلغ الثالثة عشرة من عمره ولا يعرف القراءة والكتابة وكذلك باقي أطفالك وزوجتك المسكينة إن مرضها يحتاج لكثير من المال وليس معنى هذا أن ما أعطيك من مال لقاء عملك عندي قليل ولكن الحياة في هذه القرية صعبة جداً ونحن لا نستطيع توفير المال إلا بصعوبة بالغة فمثلما الحياة قاسية عليك فهي قاسية علي أيضاً ولا يغرك الظاهر.
 غسان : أنا لم أعرف بعد المطلوب مني .
 ماجد : ما رأيك لو أعطيك مالاً كثيراً جداً تعالج به زوجتك وتعلم أولادك وتشتري بيتاً وأرضاً وتحصل أيضاً على عمل جيد .
 غسان : ما هو المقابل ؟
 ماجد : تعلم أن الله لم يرزقني بأطفال ..و... يقاطعه غسان وبعصبية شديدة :
هل تريد أن أبيعك أطفالي , أنت مخطئ إن كان الله قد جعلنا فقراء فليس معنى ذلك أن أتنازل عن أخلاقي ومبادئي .
 ماجد : ليس بيع بمعنى البيع ولكن نأخذ أحد أطفالك ونربيه أنا وزوجتي تربية لم تحلم بها أبداً , ولا تكن أنانياً فلو كنت أباً حقيقياً لا بد أن تضحي من أجل أبنائك ، فالأب الذي يحب أطفاله لا بد أن يحب الخير والسعادة لهم , انظر إليهم كيف يعيشون وماذا يأكلون ويلبسون ، ألا تحب أن يكون ابنك متعلماً ، ربما مهندساً أو طبيباً , لا تكن قاسياً إن زوجتك بحاجة إلى العلاج وإن رفضت عرضي ستموت ، وأولادك لن يجدوا مهنة في هذه القرية سوى مد أياديهم للتسول ، أخبرني مَن مِن أهل القرية مد يده إليك غيري , إنهم يحتقرونك ويعتبرونك دخيلاً , غداً ستموت زوجتك وقد تصاب أنت بالإرهاق ولا تستطيع متابعة مسيرك ، لمن ستترك أطفالك وهم لا يعرفون معنى التعليم وكيف سيعملون وهم لم يتعلموا أية مهنة .
وأنت تعرف سكان هذه القرية جيداً قد يذلونهم,أنا أريد أن أساعدك على إكرام أطفالك وأنت تريد إذلالهم وإهانتهم .

خمسة أطفال ماذا سيفعلون بدون أمهم ، اذهب وفكر .
 غسان : لن أفكر ، إنهم أطفالي ولن أبيع أياً منهم ، لا أريد مالك الحقير ولن أعمل عندك بعد اليوم.
رجع غسان إلى بيته يبكي لا يعرف لماذا يبكي ! هل لأن الهموم كثيرة ؟ فأي هم ٍ من هذه الهموم كان أكبر؟ واستطاع أن يبكيه أم أنها الهموم تضافرت واتحدت وانهالت عليه دفعة واحدة لتشعره بضعفه وعجزه ؟ ولأن غسان كان قد تعود أن يخبر زوجته بكل ما يجري معه لم يستطع هذه المرة أن يخفي عنها شيئاً ولكن الغريب موقف زوجته التي وافقت على عرض السيد ماجد وحاولت إقناعه قائلة :
ليس لأنني مريضة فإن عاقبة مرضي الموت وسواء كان موعدي غداً أم بعد شهر أم بعد سنة فلا فرق عندي وليس هناك من يحب أطفالي أكثر مني ولا حتى أنت ولكن انظر إليهم إنهم يكبرون وللأسف قلوبهم بدأت تحمل الضغينة تجاه الآخرين لأنهم أفضل منا.

إنك يا غسان لا تأتي البيت إلا ليلاً وهم نائمون ، لم تسمعهم وهم يطلبون ألعاباً، ملابس العيد ، لم ترَ أعينهم وهي باكية عندما يشاهدون باقي الأطفال وهم ذاهبون إلى المدرسة , ماذا أحكي وأروي لك ؟ فهناك أشياء لا تعد ولا تحصى كنت أخفيها عنك لأن همك أكبر.
إن ابنك محموداً دائماً يتشاجر مع الأطفال لغيرته منهم وأحمد الذي حاول أن يسرق أكثر من مرة وكنت أمسك به في الوقت المناسب .

اذهب ووافق على عرضه ولكن اطلب منه أن يبقى الأخوة على اتصال .
في أثناء هذا الحوار جاء خالد وقال لأبيه : أريد أن أذهب إلى السيدة حنان .
غسان : لماذا ؟
 خالد : إنها تحبني وتعطيني كل ما أتمناه واشترت لي ألعاباً كثيرة وبدأت بتعليمي الحروف ، عندما أذهب إلى هناك أكون في غاية السعادة والفرح وعندما يحين وقت الرجوع إلى البيت أشعر بالضيق والكآبة .
 غسان :ألا تحب أن تعيش معي ومع أخوتك ؟
 خالد : بلى ولكن لماذا لا نعيش هناك في المزرعة كلنا مع السيدة حنان ؟
مضى يومان وغسان يفكر وكلما حاول الهروب من فكرة بيع أحد أطفاله يحدث أمامه موقف يثير حزنه ويبكيه فتارة ً أحمد يسرق وتارةً محمود يضرب الأطفال وخالد يبكي لأنه يريد أن يتعلم أما الطفلتان مها وحنان كانتا وحيدتين تختاران زاوية في البيت الصغير لتجلسا طوال الوقت وكأنهما غارقتان في التفكير والحال يشتد بزوجته ، وهنا قرر غسان قبول عرض السيد ماجد .

ذهب غسان إلى ماجد وأبلغه بالموافقة شرط أن يبقى الأطفال على اتصال من حين إلى آخر.
وافق ماجد على هذا وتم شراء خالد ومها وترك غسان العمل لقاء مبلغ كبير من المال واشترى بيتاً محاطاً بأرض زراعية بعيداً عن القرية حتى لا يؤنبه ضميره عندما يرى أطفاله خالداً ومها أمام عينيه وحاول إدخال باقي أولاده بالمدرسة وتم له ذلك , ثم بدا يعالج زوجته ولكن للأسف فات الأوان سريعاً ففي اللحظة التي قرر فيها غسان علاج زوجته كانت هي اللحظة ذاتها التي فارقت فيها الحياة وبقي هو مع أحمد ومحمود وحنان .
لم تدع الحياة غسان يهنأ بالبيت والأرض فموت زوجته وبيع طفليه حوّل غسان لإنسان آخر. هل تذكرون بداية قصتنا كيف كان غسان ؟ وانظروا الآن كيف أمسى ؟
تقول ابنته حنان التي صار عمرها عشر سنوات :

إن أبي أمسى كارهاً للدنيا وللناس ولنا ولنفسه , يكره ذاك العدو الذي أبعدنا عن أرضنا وبعثر كرامتنا وشتت شملنا وزرع فينا الحقد وسوء الظن تجاه جيراننا .

أصبح يكره الناس والجيران لأنهم نظروا إلينا على أننا متشردون لا أرض لنا ولا وطن , يكره المجتمع لأنه عاملنا أسوأ معاملة وجردنا حتى من مشاعرنا الإنسانية وحرّم علينا السعادة وفرض علينا الذل والمهانة وكأن المجتمع الذي هو امتداد لنا ونحن امتدادٌ له مدّ يده وتحالف مع ذلك العدو المقيم على أرضنا .
أصبح أبي إنساناً عاقد الجبين باستمرار وتحول صوته إلى صوت قاس ٍ مفزع وكأنه بين ليلة وضحاها شق صدره واقتلع قلبه الطاهر , لازم المحتالين والمنحرفين والتصقت بيده كأس الخمرة اللعينة , كلما أفاق من سكرته وتذكر أنه باع إخوتي يعود فيشرب من جديد , والمال الذي جاءنا من بيع إخوتي طار مع الريح وباع أبي الأرض ليتمكن من شرب المزيد فينسى الماضي القريب والبعيد , حتى أنه ذات مرة جاء إخوتي خالد ومها لزيارتنا لكن أبي عندما رآهما ضرب بكأس خمرته الأرض وهرب .

ويوم وراء يوم وعجز أبي عن دفع تكاليف المدارس لنا فقد تم طردنا من المدرسة وتحول أحمد من سارق بغرض الحاجة إلى سارق محترف وأمسكت به الشرطة .

لم يبقَ إلا محمود وأنا , ذات يوم رأيت أبي يدخل البيت ومعه امرأة يبدو عليها الغنى , فيأمر أبي محموداً بالذهاب معها فيذهب دون نقاش بل إنه فرح فهو سيتخلص من هكذا حياة وبقيت أنا وأبي , وفي إحدى الليالي وجدت أبي جالساً يشرب الكأس الأولى , فاغتصبت الكأس من يديه ونظرت إليه متسائلة :
هل جاء دوري يا أبي ؟
غسان : ماذا تقصدين ؟
حنان : هل جاء دوري للبيع ؟
غسان باكياً : لابد وأنك تحتقرينني لأنني بعت أخوتك ولم استطع الحفاظ على أحمد .
حنان (بصوت حنون ) : كلا يا أبي فرغم صغري لكنني أعلم أنك ضحيت بسعادتك من أجل خالد ومها ومحمود أما أحمد فأنا لا ألوم سوى هؤلاء الناس الذين ادعوا أنهم أهلنا قبل أن نأتي إليهم وعندما اضطرتنا الظروف للعيش عندهم احتقرونا وأهانونا , أبي لا تبيعني أنت ضحيت من أجلنا كثيراً ولا بد من أن يضحي أحدنا من أجلك .

لكن أبي لم يعبأ بكلامي وكأنه كان يبحث عمن يشتريني وفي اليوم التالي جاء أبي يحمل بين يديه ثياباً جديدة , أمرني أن اتحمم وأن أرتدي الثياب الجديدة وكان ذلك يوم العيد . فرحت واعتقدت أن ذلك من أجل العيد فقط .

بعد ذلك أخذني أبي وخرجنا واعتقدت أننا ذاهبان لحديقة الألعاب , لكنني فوجئت بأبي ينادي بين الناس :
 طفلة للبيع ......طفلة للبيع ......عمرها عشر سنوات
 بيضاء ...... بعينين عسليتين وشعر أسود
 طفلة للبيع .... ألا أحد يريد الشراء أبيعها كما بعت أخوتها من قبل
 طفلة للبيع , لا أريد مالاً كثيراً
 طفلة للبيع , لا أريد مالاًِ ...يكفي أن تعلموها وتربوها جيداً
 طفلة للبيع ... هل من مجيب ؟
 طفلة للبيع .......... طفلة للبيع .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى