الثلاثاء ١٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
بقلم محمد البوزيدي

ضفاف الليل

يسدل الليل ضفافه على الكون، يحيله ألوانا أخرى، تشتعل الأضواء لتضيء ماخفي من العتمة، إن هي إلا ساعات قليلة حتى يرجع الجميع إلى منازلهم ليستريحوا من عناء أتعاب النهار التي لا تنتهي وليتخلصوا من أعباء خاصة يتحملونها طوال حياتهم، لذلك يطلبون أحيانا الموت لينعموا باستراحة ما..

وحين يختفي الكائن البشري من ركح الأزقة المظلمة، ومن الأكوان الخاصة، يبقى الفضاء المفتوح للكلاب الضالة ولحراس يحرسون آخرين، فمن يحرس أحلامنا من الذين يصادرونها يوميا عن سبق إصرار؟؟؟؟

حينها أخرج روحي من روحها لأتفسح معها قليلا، باحثا عن إرواء ضمأ هو راحة افتقدتها طوال النهار بضجيج الكلام المبعثر والمكرر كل يوم :أثمان الخضر المرتفعة، لبنان اللا مستقر، قتلى العراق؟، إخفاقات البارصا ومطالبة الزوجات بمصاريف إضافية..

وحين يحاول الكل الإرتقاء عن الفكر الضحل واليومي الهزيل لا يجد سوى الحديث عن الامين العام الجديد للأمم المتحدة فلعله قد يكون فأل خير على هذه الملحقة اللعينة بالمارد الأمريكي المتمرد على الطبيعة البشرية في السلم والتسامح والعدل.. .لقد تناسى المساكين أن المصنوع لن يكون سوى مطيعا لصانعه الأصلي..

وفي الخروج أستنشق الهواء الجميل وسط النجوم التي تحاورني من بعيد، وحين أرد عليها التحية تبدأ بعضها في الإختفاء حياء.. وتبدو أخرى وهي تراقص هلالا مازال لم يكمل دورته العادية.

في جو الليل بعض من هيبة مفتقدة في النهار لأتحرك بملء الحرية في الزقاق، لا أطفال يلعبون ولا سيارة تقف ويطلب مني صاحبها مساعدته في دفعها إلى الأمام، أتأمل صمت الجدران، أقف أمام بعضها التي تواصل شموخها رغم فقر ساكنيها، يخيل لي أنني ألتقط صورا لن تتكرر كأنني قد أغادر الكون غدا..
أذهب وأذهب.. بعيدا.. وحيدا.. أجول المدينة وأكتشف عمق أسرارها، النوافذ مغلقة إلا إحداها الذي يبدو بعض من ضوء مصباحها الخافت.. هل هي مسامرة رومانسية ؟أم شوق لهدوء الليل حيث تحلو رفقة الكتاب والقلم؟؟ أم النوم ونسيان المصباح مشتعلا..؟؟

وحين أتعب أنحني إلى كراسي الشارع المتكسرة كأجنحة جبران.. أتلو ترانيمي الخاصة وأخرج فؤادي.. أضعه أمامي.. أحاول قراءة طلاسمه الغامضة التي مازالت عصية على الفهم والاستيعاب.. أدرك أنها فرصة العمر لإستكناه دواخلي في صمت عميق.. أفتخر بعزلتي.. .فلو حضر أحد لم يكن ليحكي كما رأى ولن يكون أمينا في روايته ولو كان جزءا مني..

أحس أن الرحيل قارب الزمن.. أتأمل التأمل الأخير.. هاهو فؤادي الموضوع فوق قلب ورقة بيضاء ينقسم تلقائيا مثل الخلية إلى نصفين ثم إلى ضعف الضعفين ليتوقف عند أربعة أجزاء.. أحدق جليا فيما أرى.. سهمان يقتربان.. يرمزان لعلاقة ما أو اتصال بين نصفين..

أحرك عيناي لأتأكد من الأمر.. أبحث عن الفؤاد الداخلي باليد اليسرى لأتأكد من الأمر فلا جده.. طبعا خرج وهاجر كينونتي ليتجسد أمامي على ورق الحياة الأبيض دائما.. وإن كنا نتدخل ليتغير اللون الأبيض إلى ألوان الطيف المشهورة.. .نسقط عليه نقطا أخرى فتتحول بياضاته الناصعة إلى ألوان الحرباء العفنة.. فحتى وإن كنا نعتقد أن بعضها قد يضفي رونقا جميلا وأجمل إلا أن الثوب الأبيض يتأثر سلبا بأي لون آخر ولو كان أبيضا داكنا يشبهه.

أحدق جيدا.. من حسن حظي أن الورق يتسع للفؤاد حتى لا ينزلق جزء منه إلى الثرى حيث قد يعلق بأحجار صغيرة قد تجعله صلدا في المستقبل..

لكن ماذا أرى؟؟ هاهما السهمان اللذان ظهرا قبل قليل، واللذان توقعت أن يكونا رابطين يصبحان.. عنيفان.. يخترقان الجزآن العلوي والسفلي مثل الشرخ العميق.. دماء حمراء تنزف بغزارة.. لا يتوقف السهمان قليلا إلا ليواصلا طريقهما وسط دهشة الجزأين المنفصلين.. أقف مشدوها.. مذعورا.. خائفا على فؤادي ودمائي التي تهرب مني.. تواصل السهام عملياتها الخاصة وسط ذهول مني وعجز جيب غريب.

لا أدري كيف تجمدت كل قواي إلا البصرية منها والتي بقيت يقظة رغم تحريك الأجفان.. العين بصيرة واليد قصيرة.. هل أنا في حلم؟؟ أم في واقع غريب لا يوازيه إلا غربتي في مجتمع يعترف بالمجرمين في حقه ويبخس حق كل من يضحي لأجله..؟؟

أعيد السؤال.. لكن تيقنت من الجواب فأصوات كلاب الحديقة المجاورة أكدت لي أنني أعيش الواقع الخاص في حياتي فالأمر حقيقة ولا محل للأوهام..

ذعرت.. خفت أن تصل الكلاب للمكان فقد تلتهم الفؤاد الساقط على الأرض، وتطردني ككائن غريب عن المكان فكيف أرجع لمنزلي دون فؤادي الذي سيصبح في جوف الكلاب، وبعد أيام يصل طبيعيا إلى مكان خاص في.. مزبلة المدينة.. .

وماذا بعد ؟؟ رجل فاقد للفؤاد كمن فقد كليته في عملية جراحية..

مرت لحظات على الأمر.. مازلت عاجزا عن الحركة.. فاقدا للمبادرة لإنقاذ نفسي وجزء خاص من كينونتي.. بل لإنقاذ ذاتي مما يتهددها من اختطاف للفؤاد في عملية ملغومة وغامضة وفي عتمة الليل، فحتى الشهود على الجريمة غائبون إلا أنا وهل سيصدق أحد شهادتي على جريمة كنت ضحية لها؟؟؟

يواصل السهمان تقدمهما، اقتربا من تمزيق نصف الفؤاد.. نزفت دماء أخرى.. وتحولت إلى لون أسود قاتم لكثرة الدماء، لكن الغريب أن ورق الحياة كان لا يزال نظيفا بل كانت هناك مساحة عازلة تمنع تلوث الورق..

في لحظة خاصة توقف السهمان. فمن أمرهما ؟؟ هل هو الحياء ؟؟ مازال هناك جزءان آخران من الفؤاد.. هاهما يتحركان نحو بعضهما البعض.. قاربا على الالتقاء.. والتقيا.. فرحت كثيرا.. مازال للفؤاد نفس حجمه الأول فهل تخلص تلقائيا من الكدر الذي يهدد صفوه؟؟؟

ازداد فرحي حين ارتفع الفؤاد بعملية خاصة إلى أعلى ليقتحم ويلتحم بجسدي دون شعور مني.. حين كنت أحاول التعبير عن الخلجان الجميل موازاة مع نسيم برد عابر.. كان يختفي أمامي.. شاعرا برجوعه حيث ملأ المكان المعتاد..

انتبهت.. لقد اختفى السهمان.. توقفت.. ترجلت.. استعدت حركيتي المشلولة سابقا فأحسست بابتهاج نادر واستثنائي.. وحن التفتت لأخذ الورق البيض اختفى كذلك.. واختفت المدينة من حولي..

إذاك تساءلت أين أنا ؟ومن هو أنا ؟ هل أنا هو فعلا أنا؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى