الاثنين ٦ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
بقلم بشير خلف

ثقافة الطفل ومنجزات العصر

أَثّــرَ في ثقافة الطفل خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين وبداية القرن الحالي عددٌ من المتغيرات والتحدّيات ، من بينها وخاصة في مجال التنشئة الأسري والمدرسي ولو في نطاق ضيّق ولكنه آخذٌ في الاتساع .. ثقافةُ الحوار والسّـماع والاستماع ، والمشاركة ، والإبداع ، بدلا من أساليب الحفظ وحشْـو العقول بالمعلومات ، والتلقين ، والتسلط ، واعتماد التعليم بدلا من التعلّم .وإعادة صياغة الثقافات الموروثة بما يتماشى ومنجزات العصر ، مع اتضاح الدور الرئيسي للحواس في تنمية قدرات الأطفال خاصة الصغار منهم بدلا من الاعتماد على الكلمة الشفاهية وحدها ، ومنافسة البرامج التلفزية العديدة ، والكمبيوتر ، والإنترنيت في العديد من الدول العربية ، وفي نطاق لا يزال محدودا ببلادنا .. تحدّياتٌ للكتاب المدرسي ، ومكوّنات أدب الطفل عموما ، لما تتضمّنه هذه الوسائل العصرية من تفاعل بين الشاشة والطفل .

كما تنبهت المجتمعات إلى قضايا الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة من المعوّقين جسميا وعقليا وحتى نفسيا، وكذا الأطفال ذوي الظروف الخاصة كالمشرّدين .. أطفال الشوارع ، وضحايا الخلافات الأسرية ، والمصابين بأمراض مزمنة ..تنـبّهت العديد من المجتمعات إلى تسخير العلم لمساعدة هذا النوع من الطفولة وحمايته ليس هذا فحسب ،ولكن لجعل هذه الطفـولة تستفيد بدورها من ثمار العلم وتكنولوجيا كسْب المعارف على غرار الأطفال الأسوياء. [1]

وتعاونت في ذلك الهيئات الرسمية والمجتمع المدني بأغلب مكوّناته مستعينة بالخبراء ، ومستفيدة من الدعم المعنوي والمادي المُقدم ..حتى تهيّأت ظروف مناسبة جدّا لهؤلاء الأطفال ذوي الاحتياجات ساعدتهم على أن يكونوا أحسن حالا من حيث الرعاية الصحية والتكوين والاندماج في المجتمع ، من حال الأسوياء عندنا .

انفجار معرفي نَـوّعَ .. وسائل التثقيف !!

دوْر العلم تعاظم ويتعاظم في حياتنا ممّا يحتّم علينا ترْك التردّد والشك وولوج هذه الفضاءات الجديدة لأخْذ ما هو مفيد ونافع ، واقتناء الوسائل المتاحة والمتوفرة ، وبقدْر إمكاناتنا أفرادا وجماعات لتنمية التفكير العلمي ، والمعرفة العلمية خاصة لدى أطفالنا .

هذا الانفجار المعرفي وتعدّد وسائط المعرفة ساعد على ضرورة التأكيد على نفْـض الغبار عن قيم إنسانية سامية أكدت عليها قيمنا الروحية ، ولكن تغافلنا عنها جهلا وعمْدا معا ، مثل عدم التمييز بين أهمية أدوار الفتى وأدوار الفتاة ، وقبول الآخر ، وتقوية الشعور بالانتماء إلى الوطن ، وتأكيد قيمة الوقت والعمل ، والحفاظ على البيئة من طرف الجميع الكبار والصغار ، وتنمية روح الإبداع والابتكار ، والاعتماد على النفس في التعلّم الذاتي المستمرّ في عصْر أصبحنا نسمّيه " عصر انفجار المعلومات . [2]

تكنولوجيا المعلومات وتثقيف الطفل

إن التقدم الذي نشهده حاليا في جميع المجالات ، وتأثيرات المعرفة الحديثة واضحة فيه قد ضيّق المسافة بين الطفل وبين العلم والتكنولوجيا بصورة تستوجب تربية جديدة مغايرة تماما للتربية التي لا تزال سائدة في مجتمعاتنا ولم تترك المكان للتربية الحديثة والمعاصرة إلاّ في نطاقات ضيّقة وبصعوبة . وعلى أية حال فالعلاقة متينة بين التربية والثقافة ..والتربية هي عنصرٌ هامٌّ من عناصر الثقافة باعتبارها الأداة الأولى في التنشئة الاجتماعية ، لا بدّ أن تكون غاياتها واضحة .

لقد أصدرت " اليونيسكو " دراسة قيّمة بعنوان : " التعليم ذلك الكنز المكنون" وهي :
  تعلّمْ لتعرف .
  تعلّمْ لتعمل .
  تعلّمْ لتكون .
  تعلّمْ لتشارك الآخرين .

وقد قام الدكتور نبيل علي الخبير في مجال المعلوماتية بصياغة هذه الغايات الأربع الأساسية فيما يخصّ تربية الطفل العربي إلى أربعة أهداف أساسية لاستخدام تكنولوجيا المعلومات وهي :

1. تنمية قدرات الطفل العربي في اكتساب المعرفة .

2. تنمية القدرات الذهنية لدى الطفل العربي .

3. تنمية القدرات الإبداعية لدى الطفل العربي .

4. تنمية مهارات التواصل مع الآخرين لدى الطفل العربي . [3]

أيقنت كل المجتمعات ضرورة اللجوء إلى تكنولوجيا المعلومات لمواجهة ظاهرة الانفجار المعرفي ، وهو ما يستوجب إكساب الطفل العربي القدرة على التعلّم الذاتي مدى الحياة ، والتعامل المباشر مع مصادر المعرفة دون وسيط بشري في هيئة مدرّسٍ أو كتاب مدرسيٍّ . يتطلب ذلك إكساب الطفل مهارات البحث والإبحار في الشبكة العالمية " الإنترنيت " ..ومن حقّنا أن نطرح نحن السؤال التالي :
أيمكن أن يتحقّق هذا عندنا في الأمد القريب أو حتى المتوسط ؟ ..(الآتي من الزمن عنده الإجابة .)
إن مهمة التعليم لم تعد تنحصر في تحصيل المادة التعليمية بالدرجة الأولى ، فأسلوب التلقين والتحفيظ واستظهار المعلومات حرفيا ، أسلوبٌ يتناقض تناقضا جوهريا مع ظاهرة الانفجار المعرفي ؛ بل الغاية تنمية مهارات الحصول على المعارف وتوظيفها ، وأكثر من ذلك توليد المعارف الجديدة وربطها بما سبقها

مصادر ثقافة الطفل تعدّدت !!

إن مصادر ثقافة الطفل تتمثّل في الأسرة ، الجيران ،المسجد ،المدرسة ، جماعة الأقران ، وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة ، والمرئية ويتصدّرها التلفزيون ، أدب الطفل ، الوسائط الحديثة للتثقيف .نكتفي هنا بالحديث عن عوامل ثلاثة من عوامل التربية والتثقيف أوّلا ، وهي : الأسرة ،المدرسة ، أدب الطفل .

الأسرة :هي أساس التنشئة ومصدر الاستقامة أو الانحراف في فطرة الطفل وعقيدته التي هي مبعث ثقافته . وفي مراحل النموّ يتعرّض الطفل لنماذج سلوكية مباشرة في أسرته ، والمحيطين به ، أو نماذج سلوكية رمزية من وسائل الإعلام ومن القصص والحكايات التي تُقدّم في الأسرة من كبارها وصغارها معا . وفي هذا النوع من التعليم يلاحظ الطفل الشخص النموذج ، ويصوغ ما يشاهده ويختزنه ، وينتظر الوقت المناسب لكي ينتج نفس السلوك.

الأسرة هي الوعاء التربوي والثقافي الذي تتبلور داخله شخصية الطفل تشكيلا فرديا واجتماعيا ودينيا ، وهي بهذا تمارس عمليات تربوية تثقيفية هادفة من أجل تحقيق نموّ الفرد نموّا سليما ... وممّا لا ريب فيه أن الوضْع الثقافي والتعليمي للأسرة يؤثّر في تنشئة الطفل وتربيته تأثيرا مباشرا ، وبخاصة في سلوكه الديني والاجتماعي والثقافي .. فالميل إلى القراءة ، والمشاركة في الأنشطة الثقافية المحلية والوطنية ، وحضور المحاضرات والندوات الفكرية ، والمساهمة في المسابقات ، وممارسة الحوارات الفكرية داخل الأسرة ، ووجود المجلّة والكتاب والصحيفة اليومية وانكباب أفراد الأسرة عليها ..كلها عوامل ذات تأثير إيجابي في تنمية الوعي الثقافي لدى الطفل ، وكذلك تساعد على النموّ السليم والتنشئة التي تسمح بسرعة التكيّف الاجتماعي والثقافي مع الوسط المدرسي من ناحية ، ومع الوسط الاجتماعي الثقافي من ناحية أخرى .

دوْر الأسرة حسّاسٌ وخطيرٌ جدّا .. تلبية الحاجات البيولوجية ، تربية ، تنشئة ، تهذيب ، غرْس الفضائل والقيم ، إدماج في المحيط ، تثقيفٌ . والتثقيف يدعونا إلى استعراض نقاط مهمّة منها :
ـ هل حركية الكتاب غير المدرسي داخل الأسرة متوفرة وتمسّ كل مجالات المعرفة ؟
ـ كيف هي نظرة الأبويْن وأفراد الأسرة إلى الكتاب ؟
ـ هل توجد مكتبة منزلية ؟ كمية الكتب بها ؟ نوعيتها ؟ استثمارها ؟ طريقة العناية بها ؟
ـ ما نصيب الطفل منها ؟
ـ هل عُوّد ويُعوّد هذا الطفل منذ صغره على المطالعة خارج الواجبات المدرسية ؟
ـ هل الأسرة لها ارتباط بالصحافة ؟ وهل هذه العلاقة يومية ؟

لمّا نطرح مثل هذه الأسئلة كي نؤكّد بأن المدرسة عندنا على غرار العديد من البلدان التي تشابهنا عجزت عن دورها التثقيفي ، بل وحتى التعليمي في بعض مراحل التعليم ..المطالعة ثم عادة المقروئية التي من المفترض أن تتعاضد الأسرة والمدرسة على غرسهما لدى أبنائنا وبناتنا كوسيلتين رئيسيتين للتثقف وإثراء المعارف والاندماج في المحيط القريب والبعيد، و أداتين للبحث والتقصّي وليس فقط في المؤسسة التعليمية .. فشلتا في ذلك وكلتاهما تنحى باللائمة على الأخرى .

المسجد : من أهمّ مصادر ثقافة الطفل ، حيث يتعلم منه التقيّد بالمواعيد والانتظام في الصفوف ، واحترام الكبار والسلام عليهم ، والتعرّف على الجيران وتفقّدهم ، والمساواة والعدل بين جميع أفراد المجتمع ، والاهتمام بالطهارة من نظافة الجسم والهندام ، وتعلّم التلاوة السليمة وحفظ كتاب الله ، وتشرّب المبادئ الروحية ، والارتباط الدائم بالله عزّ وجلّ ، والانقياد للقيادة المسجدية ، ومراعاة آداب الطريق والمشي باحترام وسكينة .

وفي ظلّ وجود المدارس النظامية وتعدّد وسائل المعرفة وسهولة الحصول على المعلومات من مصادرها المتنوّعة ، نجد أن دوْر المسجد بالنسبة للأطفال قد تقلّص بشكل واضح ، ولم يعد يقوم بالدور الذي كان يؤديه في السابق ..لذا في اعتقادنا ينبغي التعاون بين الأسرة والمدرسة والمسجد من أجل تحقيق نوع من التكامل ما بينها ، فإذا كانت المناهج التعليمية في مادة التربية الإسلامية توازن ما بين محاور القرآن الكريم ، الأحاديث النبوية ، العقيدة ، العبادات ، السلوك الأخلاقي ، من المفترض أن يركّز المسجد على تحفيظ القرآن الكريم للأطفال والطّلاّب بصفة أساسية في العُطل ، لأن ما يقدم منه في المدرسة يقتصر على السُّور القصار ، وعلى الآيات ذات الأحكام .

المدرسة : امتدادٌ للأسرة وتكميل لدورها في تثقيف الطفل ، وهي تُكْسبه قيما إيجابية تؤهّله ليكون فردا عاملا مؤثّرا في مجتمعه . وقد تُكْسبه قيما سلبية تؤهله كي يكون رقما في إحصائيات التعداد فقط ...تُعتبر المدرسة مؤسسة اجتماعية ثقافية من أهدافها إعداد الفرد كي يكون مواطنا مستنيرا قادرا على القيام بدوره الثقافي تجاه نفسه وتجاه المجتمع ، والإسهام في دفعه نحو الرقيّ والتحسّن في عصر يتميّز بالتطوّر السريع في جميع مجالات الحياة ، ممّا يتطلّب كفاءات ومهارات لدى الأجيال الجديدة لكي تستطيع مواكبة ما يطرأ من تغيّر وتحديث ونموٍّ لا يتوقف ..فإن المدرسة بحكم وظيفتها الاجتماعية واستمداد أهدافها من مجتمعها ، تعمل على إعداد الفرد الذي يتميز بخصائص أهمّها :

1 ـ الشعور بقيمة كينونته وأهميتها العلمية والثقافية في المجتمع .

2 ـ الشعور بأنه عضْوٌ فعّـالٌ منتج له قيمته في المجتمع الذي يعيش فيه .

3 ـ الإحساس بمشكلات مجتمعه ، والسعي الجاد والصادق في حلّ تلك المشكلات بشكل إيجابي مع غيره ، وذلك باستخدام الأساليب العلمية .

المدرسة بتشكيلتها المعروفة من مدرس وإدارة ومبنى ومرافق وكتاب مدرسي ووسائل تعليمية ، وفضاء للتعليم والتعلّم مع الرفاق ، تستطيع أن تفعل الكثير ، وإنْ كانت إمكاناتها محدودة وبخاصّة : المدرسة الابتدائية التي تأنف وزارة التربية احتضانها ماديا ، وتُولي البلديات وجهها عنها . في المدرسة يكتسب الطفل المعارف ، ويتقن المهارات ، ويتشرّب القيم السلوكية التي تساهم في تشكيل شخصيته .

أدب الطفل : الأدب ركيزة ثقافية أساسية ، وهو تشكيل أو تصوير للحياة والفكر والوجدان من خلال أبنية لغوية ، وهو فرْعٌ من فروع المعرفة الأنسانية العامة ، يُعنى بالتعبير والتصوير فنيا ووجدانيا عن العادات والتقاليد ، والآراء ، والقيم ، والآمال ، والمشاعر ، وغيرها من عناصر الثقافة ؛ أي أنه تجسيد فنّيٌ تخيّلي للثقافة .

ويشمل هذا المفهوم الأدب عموما ، بما في ذلك أدب الطفل ؛ لكن أدب الطفل يتميّز عن أدب الكبار في مراعاته لحاجات الطفل وقدراته ، وخضوعه لفلسفة الكبار في تثقيف أطفالهم . وهذا يعني أن لأدب الطفل من الناحية الفنية مقوّمات الأدب العامة نفسها ؛ غير أن اختيار الموضوع ، وتكوين الشخصيات ، وخلْقَ الأجواء ، والاستخدامات اللغوية ، وتحديد الأسلوب المناسب في أدب الطفل تخضع لضوابط خاصّة تناسب قدرات الطفل ومستوى نموّه .أدب الطفل أداةٌ أساسيةٌ في بناء ثقافة الطفل ، إذْ يُسْهم في نقْل جزء من الثقافة العامة إلى الطفل بصورة فنّية . [4]

ذلك أن التجسيد الفنّي عملية لازمة في التوجّه الاتصالي عموما ، والأدب فرْعٌ من الثقافة والثقافة نوْعٌ من الاتصال سواء كان إلى الراشدين أو إلى الأطفال ، غير أنّ لزومه لأدب الأطفال أشدّ ، لأن حوّاسّ الطفل شديدة الاستجابة لعناصر التجسيد .
ولا شكّ أن أدب الطفل من الوسائل الثقافية والتربوية الهامّة التي ينبغي توظيفها بفعالية لتحقيق أغراض بيّنة ومحدّدة . وإذا كان البعض من الكُتّاب وكذا المهتمّين بأدب الطفل ما زالوا يعتقدون أن الكتابة للأطفال هيّنةٌ ، ليّنةٌ ، سهْلة المنال ..فإن هذا الاعتقاد خاطئٌ .. فمن المتّفق عليه أدبيا وتربويا أنّ ما يُكتبُ للطفل لا يكون للتسلية والاستمتاع الآني فحسب ، بل لتقديم خبرات وقيمٍ ومواقف سلوكية تُسْهم في تهذيب شخصيته وبلْورة سماته الذاتية والاجتماعية ، في إطار بناء الشخصية المتكاملة ..وذلك لأن كاتب ثقافة الطفل وأدبه هو مُــربٍّ شاء أم لم يشأ . وما يُقدم إلى الطفل من أعمال ثقافية .. أدبية لها أبعادٌ تربوية بما يتناسب مع طبيعة كلّ عملٍ شعري كان أم نثريٍ .

ثقافة الطفل مجالها واسعٌ جدّا ولا ينحصر في المصادر المعروفة عندنا كالأسرة ، المسجد ، المدرسة ، أدب الطفل بمكوّناته العديدة ، بل هناك المكتبات العامة والخاصة ، النوادي العلمية ،الجمعيات الثقافية والشبابية ، المتاحف ، وسائل الإعلام المختلفة ، قاعات تعلّم الحاسوب ، قاعات الإنترنيت ..ولكن انضافت هذه الوسائط والتكنولوجيات الحديثة ، فقلّبت عملية التنشئة والتثقيف رأسا على عقب ، ومكّنت الطفل من أن يكون مبدعا ، منتجا للثقافة ، مبدعا للنصوص ، متذوّقا للأدب والفنّ ، ناقدا ..

كيف يمكن لنا التعامل مع هذا الباحث الصغير ، مع هذا المبدع ؟ أمَا كان لنا من الأفضل له ولنا أن نطلّق تلك المقولة التي لا تزال تكبّلنا : بأن عملية التربية والتنشئة هي إعداد النشء للحياة المستقبلية ؛ لنحلّ بدلها مقولة : لنتركْ أطفالنا ينعمون بحياتهم الآنية ، فاتحين المجال أمامهم لاكتشاف المجاهيل دون خوْف عليهم من ناحية ، ودون وصاية تتّسم بالتسلط .

أنعتبر هذا المبدع الصغير متلقيا للمعرفة ونحن الذين نختار ونقرّر ؟ أم نعتبره مبدعا ومنتجا للثقافة بدوره ؟ ما هي المجالات التثقيفية التي نعتبره فيها متلقيا ، فنختار له نحن ما نراه أصلح له ولنا ؟ وما المجالات التي نراه فيها مبدعا وناقدا ومنتجا للثقافة ؟

لِنتحدّثْ قليلا عن هذه الوسائط التثقيفية العصرية والتي فتحت آفاقا معرفية واسعة أمامنا فاستفاد منها الطفل أيّما استفادة وجعلت منه في حالات كثيرة ليس المتلقّي الصغير للمعرفة فحسب ، بل المتلقّي والمنتج وحتّى المبدع.

الوسائط العصرية في تثقيف الطفل : تسهم تكنولوجيا المعلومات الحديثة بصورة فعّالة في إكْساب الطفل القدرة على توظيف معارفه عمليا .وكما هو معروف ن هناك فرْقٌ كبيرٌ بين تحصيل المعرفة وتطبيقها عمليا لحلّ المشاكل .فالعلم في أيامنا هذه ن هو ممارسة العلم .كما ان الثقافة هي الالتزام بسلوكياتها ، لا مجرّد ترديد مقُولاتها .

إن توظيف المعرفة يحتاج من المتعلّم أن ينْفُذ بصورة أعمق إلى هيكليتها الداخلية ، أي يجب أن يعيد بناء المعرفة من عناصرها الأولية . وهناك سوء فهم يردّده البعض في عالمنا العربي عن " ثقافة الصورة " على أساس أنها تعني عدم حاجتنا إلى التعامل مع النصوص ، وهو مفهوم خاطئ ، فما زالت النصوص وستظلّ أداة فعّالة للمعرفة الجادّة ، خاصّة في مجال العلوم الإنسانية التي يسودها طابع السرد .إن النصوص ما زالت هي الوسيلة الفعّالة لتناول الأفكار المجرّدة ، إلى الحدّ الذي جعل البعض يردّد الشعار المعكوس : " الكلمة خيرٌ من ألف صورة . " [5]

إن حياة البشر تزداد تعقّدا يوما بعد يوم ، ونجاح الفرد في عصر المعلومات رهْنٌ بقدرته على مواجهة تعقّد الحياة من حوله ، سواء على المستوى الفردي أو الأسري أو الاجتماعي . لقد كان المتعلّم في الماضي يكفيه عددٌ محدودٌ من طرق التفكير كالتعليل ، والتسلسل المنطقي ، والتحليل المتتالي ، بدءا من الكليات وانتهاء بالعناصر الأولية ..الآن أمام الكمّ الهائل من الظواهر المعقّدة ، لم يعد هذا العدد القليل من أساليب التفكير كافيا ، ويجب أن يُزوّد المتعلم بعُـدّةٍ معرفية جديدة قد تُفاجئ المعلم عندنا في الجزائر ، والذي لا يزال في صراع مع صياغة الأهداف الإجرائية ، والتدريس بالكفاءات ، ويعرض عن وسائل التثقيف الحديثة ، ويتنكّر لفوائد الحاسوب لعجزه الفكري وجموده الذهني ، مردّدا بالمقابل : " لولانا لما قامت قائمة للمدرسة الجزائرية . كوّنا الأجيال وهي التي تتبوّأ أعلى المراتب في جميع المجالات ، داخل البلد وفي كل القارات ، وما كانت هذه الوسائط التثقيفية الحديثة موجودة . "

من جانب آخر فإذا كانت أغلب البرمجيات في هذه الوسائط التثقيفية الحديثة باللغة الأنقليزية ، فإن هناك جهودا صادقة ومخلصة في العديد من الدول العربية وخاصة دول الخليج في إعداد الكثير من البرامج التثقيفية للطفل باللغة العربية ، وبكل أسف في بلادنا ما زلنا بعيدين عن تلكم البرمجة أو حتى الترجمة...ذلك أن للغة الأم كما هو معروف دورا مهما في تنمية الفكر واستيعاب العالم من حولنا ؛ لذا هناك شقٌّ لغوي لكل من التحدّيات التربوية التي تواجه تربية عصر المعلومات ، فمعظم دول العالم تُولي اهتماما كبيرا للغاتها القومية في إطار تهيئة مجتمعاتها لمطالب عصر المعلومات .ونحن لا نزال نتأرجح بين الأخذ باللغات في سنّ مبكّرة أم نترك ذلك لمزاج النخبة السياسية .

فعالية وسائط التثقيف الحديثة

لئن كان الأمر واقعيا يتّصف بهذه النظرة ، فإنه لن يفتّ من عضدنا كي نتكلم عن ثقافة الطفل في شكلها التقليدي ، وشكلها الحديث ، وشكلها المعاصر من خلال الوسائط الجديدة ، وتكنولوجيا المعلومات التي إذا ما وُظّفت بوعي ، ووفق خطة تتماشى وخصائص مراحل نموّ الطفل ، ليس في المدرسة فحسب ولكن في كل ما له دوْرٌ في تنشئة الطفل في المجتمع ..من أجل معرفة :
  إيجابيات استخدام تكنولوجيا المعلومات في تنمية القدرات الذهنية .
  نجاعة الكمبيوتر أساسا بصفته أداة مثْلى لمواجهة ظواهر التعقّد ، بما يوفّره من إمكانات هائلة للسيطرة على الكمّ الهائل من البيانات والعلاقات .
  أسلوب البرمجة الذي يساعد على تنمية التفكير المنطقي المنهجي ؛ حيث تُعتمدُ البرمجة أساسا على تسلسل الخطوات ، وتحليل المشكلة إلى عناصرها الأولية . يتوفّر حاليا العديد من البرامج لتقوية ذاكرة المدى القصير والطويل .
  أن الألعاب الإلكترونية تساعد على تنمية التفكير المتوازي ، حيث يواجه الطفل اللاعبُ عدّةَ مواقف ، عليه أن يتعامل معها في ذات الوقت .
  أن تكنولوجيا المعلومات توفّر إمكانات عديدة لتجسيد المفاهيم المجرّدة ؛ حتى يسهل استيعاب الطفل لها .
  أن الإنترنيت توفّـر فضاءات رحبة في التعلّم والاكتشاف والتواصل مع الغير في مناطق أخرى من الكرة الأرضية ، وكذلك اختيار صحة الأفكار والفروض ، وإيجاد الحلول المختلفة للقضايا المطروحة ، وصياغة تلك الحلول بوسائل اتصالية مختلفة قد تكون لغة شفوية ، وقد تكون بيانية ، وقد تكون رسومية ، وقد تكون لغة مكتوبة . [6]
  استخدام تكنولوجيا المعلومات في تنمية مهارات التواصل .
  توفر العديد من مجالات التعليم وتعلّم اللغة الأم واللغات الأجنبية .
  تكوين وتثقيف الطفل في التعامل مع الرمزية والتشكيلية ، حيث تتيح تكنولوجيا المعلومات وسائل عديدة لعرْض تقنيات عديدة لقراءة الرسوم ، والخرائط ، وتنمية الإبداع والتذوّق التشكيلي والأدبي
  أن تكنولوجيا المعلومات توفّر وسائل عديدة لتنمية المواهب الفنية لدى الطفل في جميع مجالات الفنون : أدبا وتشكيلا وموسيقى .
  إتاحة شبكة الإنترنيت فرصة الإبحار عبر مواقع عديدة خاصة بالطفولة ، تزخر بنوافذ الثقافة العامة بما في ذلك مساعدة الطفل على المساهمة العملية ، وتغذية هذه المواقع بما عنده وبما جادت به قريحته .الطفل في هذه الحالات مبدع ، والإنترنيت يمكّنه من نشْر أفكاره .
  التوسّع في استخدام الكمبيوتر واستثمار تكنولوجيا المعلومات من شأنه شحْذ موهبة الطفل المبدع ، وتشجيعه على البحث والاكتشاف ، ومواصلة التجريب ، وإعادة المحاولة .

الطفل في كلّ هذه الحالات هو مبْحرٌ في تكنولوجيا المعلومات من خلال وسائطها المختلفة ، وباحث ومكتشف للمعرفة في إطارها المتجاوز لبيئته المحلية الضيّقة ، وهو مبدعٌ للحلول والأفكار ، بعبارة أوضح هو ـ منتجٌ للثقافة ـ قد يقول قائل : (( مهّلا يا هذا !.. لقد ذهبتَ بنا بعيدا ..تحدّثنا عن تكنولوجيا المعلومات ووسائط المعرفة الحديثة ، ومدارسنا تعاني الأمرّيْن في أغلب ولاياتنا ، مما يدفع في كثير من الأحيان المعلم أو المعلمة إلى شراء الطبشور من جيبه ..)) ، بلى ، هذا موجود ولا ننكره .. لكن بالمقابل تواجد الكمبيوتر ( الحاسوب ) آخذٌ بالتوسّع والاستعمال في مدارسنا في كل المراحل ، وإن كان نمط التفكير الأبوي لدى مربّينا الأُحادي لا يزال يُلْقي بظلاله على تقبّل الجديد ، أو تركه في متناول الأطفال .

لا بأس أن نتوقف قليلا هنا عند مَـنْ يقول : إن تكنولوجيات المعلومات ليست في متناول الجميع ، نظرا لارتفاع أسعار الأجهزة المتعلقة بها من ناحية ، وارتفاع أسعار الارتباط بشبكة الإنترنيت في بلادنا ، وانعدام النية الصادقة لدى أولي الأمر عندنا في استفادة المواطن العادي ، والطفل من هذه الفضاءات المعرفية الشاسعة من ناحية أخرى .وبالتالي فإن تكنولوجيا المعلومات ستجعل من الإبداع والتفتح على هذه العوالم الشيّقة الممتعة ( حكْرا على النخبة ) . في حين يرى المتفائلون أن التثقيف أخذا وعطاء ، والإبداع اللامحدود سيكون متاحا للجميع ، وسوف ينمو بصورة تلقائية وهذا ما نلاحظه عمليا في حياتنا . ومرّة أخرى ينطوي ذلك على تحدٍّ قــاسٍ للتربية عامّة ، وتربية الطفل العربي خاصّة في عصْر المعلومات ؛ في ضرورة تصدّيها لطبقية المعرفة . [7]

إن مجال هذه التكنولوجيا الحديثة واسع ومعقّد وهو في اتساع مستمرّ متسارع ، نلاحظ ذلك في هذه الوسائل العديدة المختلفة الأشكال والوظائف التي تمتلئ بها المحلاّت المتخصّصة ..ما يهمّنا كمربّين وأولياء ما كان منها بسيطا وضروريا كالحاسوب مثلا ، ولا أحسب أن العديد من الأسر في عجْزٍ عن اقتنائه ..ولا في عجْز عن إنشاء مكتبة ملحقة به تتكوّن من تلك الأقراص المضغوطة التي بإمكان أي طفل ، حتى في الرابعة من العمر تشغيلها ..وهي متوفرة لكل المراحل الطفلية . موسوعات مختلفة ...منها ما هو خاص باللغة العربية وآدابها ، وما هو خاصٌّ بالقرآن الكريم وعلومه ، وما هو خاصّ بالسيرة النبوية ، وما هو خاصّ بالعلوم الطبيعية والرياضيات ، وما هو خاصّ بتعلم اللغات الأجنبية ، وما هو خاصٌّ بجسم الإنسان وأجهزته ووظائفها ،وما هو خاصّ بالحيوان والطبيعة والعمران وما هو خاصٌّ بأدب الطفل ، وما هو خاصٌّ بالفن التشكيلي ، والموسيقى والألعاب الفكرية المختلفة . فضْلاً عن برامج كتابة النصوص ومعالجتها ، هذا المقام لا يسمح لنا باستعراض كل هذه البرامج التي لا تكلّف إلاّ النزر القليل ماديا .

أبعْـدَ استعراض هذه الفوائد الجمّة لهذه الوسائط المعرفية والتكنولوجيات الحديثة ، لا يزال التردّد والفكر الأبوي العمودي والأفقي يستولي علينا ؟

العديد من جمعيات الطفولة والمنظمات الكشفية ، ودُور الثقافة فتحت المجال واسعا للأطفال في التعامل مع هذه التكنولوجيات ، بما في ذلك الإنترنيت ، ورأينا بأم أعيننا أطفالا في مناطق عديدة من الوطن شماله وجنوبه ، اندمجوا مع هذه العوالم السحرية بثقة في النفس عالية ..تلاميذ في السنة الخامسة والسادسة من التعليم الابتدائي ، وطلاّب من مرحلة التعليم المتوسط ومن مراحل أعْلى ؛ يبحثون عن المعارف ، ويكتشفون ، ويبدعون في معالجة النصوص تارة مستعينين بغيرهم ، وتارات معتمدين على أنفسهم .بعْد لأي نجدهم يغادرون المكان وما بحثوا عنه بين أيديهم مطبوعا ، أو في أقراص مرنة يفتحونها في منازلهم ، أو في مدارسهم إنّ كانت تشجع على ذلك.


[1يعقوب الشاروني : ثقافة الطفل العربي ص 234 كتاب مجلة العربي .الكتاب الخمسون .

[2المرجع السابق ص 218

[3د .نبيل علي : ثقافة الطفل العربي ص218 . كتاب مجلة العربي .الكتاب الخمسون .

[4رجب سعد السيد / مصر : ثقافة الطفل وناقوس الخطر ص 2

[5د .نبيل علي .الطفل العربي وتكنولوجيا المعلومات .ص221 كتاب مرجع سابق

[6الطفل العربي وتكنولوجيا المعلومات .مرجع سابق ص 225 بتصرف .

[7المرجع السابق ص 230 ( بتصرّف ) .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى