الاثنين ٦ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
بقلم أسامة جودة

مجنون

قديماً كنت أتعجب دوماً وتصيبنى الدهشة من حال ذاك الرجل ،أراه كل يوم يجلس متربعاً على ناصية فرش الخضار الذي يملكه عبوس الوجه متجهم لوجهه رائحة الكآبة ، يقبع فى ذلك السوق التاريخي القديم الشاهد على العصر والذي تقلبت أحواله كثيراً مثله مثل النهر ، فائض بالخير فى الفيضان ، جاف مضمحل فى الجفاف ، أما هو ففى السوق منذ أربعين سنة لم يغير حتى مكانه كجدران تلك البيوت القديمة البالية والتي أحسبها من الآثار .
 أراه دوماً متسمراً مكانه فوق قفص الجريد كصخرة بارزة فى جبل شامخ ، فأدقق فى تلك التضاريس والشقوق الغائرة التى تملئ تجاعيد وجهه وراحة يده فأخاف الهرم، لا ينبس بكلمة أبداً فقط يصور المارة بكاميرا عينه الممعنة فى الملامح الذابلة لتلك الوجوه الجديدة الغريبة ، يتعجبون هم أيضاً من نظراته الفاحصة ، فيزيغون منها بإوساع الخطى أمامه .

 عجباً لككنت ارددها كثيراً في نفسى عندما كنت أسمعة يرد على سؤال زبائنه السائلون عن ( الكوسة ) بقوله : « لقد توقفت عن بيعها منذ باعتها المصالح الحكومية والشركات » وكنت أقولها عندما أراه يمسك بعلبة الدخان وورق البفرة ويلف بيده سيجارة صغيرة رفيعة يحرقها بلهفة وشغف كعاشق يقبل عشيقته، وأشعر أنه يقول :

«احترقى معها يا أيام عمرى ،تحولى لسراب مثل ذلك الدخان».

 أما أمر كومة الثياب الرثة التى يحملها جسده صيفاً وشتاءاً دون ملل فكان أمراً مذهلاً وأذكر كلماته عندما سألته عنها قال:
« لا تتعجب ، فقد اعتدت ذلك وما يحمينى قسوة البرد يحمينى لهيب الحر».
 لا أستطيع أن أنسى يوم حاولت مداعبته بأن ألقيت له نكتة ظننت أنها ستضحكه ، وقتها رفع حاجب عن آخر ونظر إلىّ بمؤخرة عينه ثم انفجر فى كمدفع رمضان وقت الإفطار قائلاً:« اغرب عن وجهى يا عديم الإحساس، لا تحدثنى بعد اليوم »
.تركته يومها وكلى ثقة بأن حزنه مركب قديم وأليم غير قابل للزوال ، عرفت بعدها أنه سخطاً على واقعه وحاله وحال أبنائه فكبيرهم تغرب من أجل لقمة العيش وصغيرهم سيرى ما لم نراه من السوء.
 المرة الأولى التى أراه فيها مبرنشق الوجه كانت عندما أتاه أحد المجذوبين وهو يهرأ ويهذى ،أتاه يومها يشحذ ،فأعطاه تفاحة حمراء تسر الناظرين .
« خذها لك ، تمتع بها» قالها مبتسماً وأردفها بنظرات عين لامعة وتمتم قائلاً:
« ليتنى مثلك ، لا أخشى البشر وأضمن الجنة »
 يومها كنت أنا الآخر ساخطاً يائساً من ثقت بنفسى مثلى مثل الكثيرين من أهل هذه البلد فأحسست أني وجدت ضالتى ،وجدت ذلك الفيلسوف الحكيم الذي لخص لى الدنيا في كلمتين: حب الجنون .
 من يومها أصبحت لا أتعجب ولا أذهل من حال أحد، ليس هذا وفقط بل أضحيت اعشق المجذوبين بهذيانهم وهُراءهم وشحذهم وصرت غابط عليهم فقد أيقنت أنى كبلت نفسى بأسوار وقيود عقلى الرصين وأيقنت أيضاً أن للجنون طاقة وحرية لن أجدها مع غيره فبدأت أعيش دور المجنون ولم التفت لقولهم :( مجنون يهذى )
حينها فقط شممت نسائم الحرية الحق وصرت أعبر عن نفسى وعما يدور بخلدى فيما يخص أى شيء كيفما شئت دون أن أخشى أحد ،ومن يومها أيضاً لم أعد أراه حزينا قط بل كلما رآنى ابتسم وأضاء وجهه سروراً وأكرمنى بعطية مما أعطاه الله ثم أسمعه يقول كلمته وكلمة الكثيرين مثله : ( ليتنى مثلك مجنون ).

 بيد أنه بقى فى ذهنى سؤال عالق سيظل يؤرقنى لم أجد له جواب هو:
_ إلى متى سأظل هكذا أعيش دور المجنون؟
تمت.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى