الخميس ١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٤
رواية للكاتبة سحر الرملاوي
بقلم سحر الرملاوي

رواية لاجئة ـ حلقة 1 من 18

بين يدي الرواية سيظلُّ تاريخُ اللاجئين الفلسطينيين وصمةَ عارٍ في جبين عالـَم يدَّعي التحضُّر •••!!

إهداء
إلى أحمد ….
كلما أوغلت طيورك في سماء
الغربة
و دارت بك أيام….
فأدارتك
سيبقى
ــ يا أخي الحبيب ــ
ثـَمَّة أملٌ ننتظره

الاسم :ريم جهاد القاسم

المهنة : طالبة

محل الميلاد : القاهرة

تاريخ الميلاد :1966م

لون العينين : كما في الصورة

وثيقة سفر للاجئين الفلسطينيين ••دفتر أزرق بحجم جوازات السفر العادية ••

كان هذا الكتيب أول علاقة رسمية حقيقية لها بالدنيا ••

عندما أعطاه إياها أبوها قال :

 حافظي عليه فبدونه أنت لاشيء ••
استلمته و كأنها تستلم قطعة منها ، بين دفتيه يكمن وجودها و لا معنى لكل حياتها ما لم يكن معها •• فتحت صفحاته بيد مهزوزة ، كان ثمة ختم مطبوع باللون الأزرق مسجل فيه أيضا حدودها : " لجميع البلدان العربية ما عدا سوريا و اليمن " ••

رفعت عينيها تتساءل عن السبب؟ أجاب أبوها بلا مبالاة :

 عادي ••
حملته برفق و سارت به نحو غرفتها و في صندوق مقتنياتها الثمينة وضعته ، بجوار شهادة ميلادها التي ليست كأي شهادة فعنوانها " مسجل رسمي " و شهادات دراستها حتى الثانوية العامة
قبل أيام أكملت ريم ثمانية عشر عاماً ، واليوم أصبحت بهُوية منفصلة تخصها وحدها بعد أن قبعت راضية في هُوية أبيها سنين عمرها الماضية كلها منذ ولدت و حتى الآن ••

عادت تفتح صندوقها الثمين مجدداً ، و تخرج الوثيقة تتأملها مراتٍ و مرات ، وثيقة سفر للاجئين الفلسطينيين ، ما معنى هذه الكلمة ؟ ما المقصود بوضعها على غلاف الوثيقة؟ أليست مثل أية وثيقة ؟ أليست جواز سفـــر مثل الجــواز الذي يمتلــكه أبوها و تمتلكه أمها •• لكن لا •• لقد تذكرت ، إنه فقط يشبه وثيقة أبيها لكنه لا يشبه وثيقة أمها فوثيقة أمها خضراء و مكتوب عليها جواز سفر للمصريين ••

ما الفرق ؟
كانت أمها تطهو في مطـــبخ بيتهم الصغير ، كـــانت قد نــادتها حتى الآن ثـــلاث مرات و عندما رأتها على باب المطبخ بادرتها
:
  صح النوم ، ألم تسمعي النداء منذ المرة الأولى ؟
 أمي ما الفرق بين الجواز و الوثيقة ؟
فوجئت الأم بالسؤال ، كان ذلك واضحا من اتساع حدقة عينيها و توقف يديها عن تقليب الطعام ، على أن هذه الدهشة لم تدم سوى ثانية واحدة لأنها عــادت إلى التقليب و تنهدت و هي تنظر في محتويات القدر قائلة :

 الجواز لمن لهم وطن ، أما الوثيقة فهي للاجئين ••
هذه المرة كان دورها في الدهشة و سألتها :
 هل يعني هذا أنني صرت لاجئة ؟
ابتسمت أمها رغما عنها و قالت :

 رسمية يا ريم ، رسميا فأنت لاجئة منذ ولدت و لكنها اليوم رسمي ••
و كأنها كانت نائمة فاستيقظت ، أو صماء و فجأة سمعت ، أو عمياء وبدون مقدمات أبصرت ، حامت حول رأسها كلمة لاجئة بعضَ الوقت ، ثم حطت كرُخّ عملاق بأظافر وحشية و أخذت تشد شعرها من منابته ••

نظرت إليها الأم و قالت :

 اللجوء - يا حبيبتي - مصطلح يعني أن هذا الإنسان بلا وطن ••
 لكنني فلسطينية ووطني فلسطين ••!!
 الوطن يا ابنتي ليس مجرد كلمة نسجلها في بطاقاتنا ، إنه أرض و انتماء ، دار و كرم ، مدرسة و جيران ، أقارب و معارف ، خدمات صحة و تعليم ، وظيفة ثابتة و معاش عند التقاعد ، الوطن رئيس يتكلم باسمك و سفارة ترعى مصالحك و رجل أمن يسهر على حمايتك ، فهل لديك أيٌ من هذه الأشياء ؟

 لا ••
لم يكن لها يوما أيٌّ من هذه الأشياء ، تعلمت ، هذا صحيح ، ولكن في مدرسة خاصة ، كان أبوها يقتطع من لحمه كي يسدد أقساطها ، و عندما كانت تمرض كان الدعاء و الأسبرين دواءها ، لأنهم يعدون المرض رفاهية لا يستطيعها إلا القادرون ، لا يملك أبوها بيتا فهو "وافد "و ليس من حقه تملك ، وأنى له هذا ؟!

لكنها كانت تعتقد أنهم لا يملكون بيتا لأنهم لا يملكون نقوداً و ليس لأنهم لا يملكون وطنا ••
توجهت إلى أبيها ، كان يعالج كرسياً قديماً يقلبه و يفحص مكان الخلل به ، سألته :

  أبي ••ألا نملك في فلسطين بيتا ؟
طالعها بدهشة ، ثم عاد إلى كرسيه المكسور يقلبه ، ظلت واقفة تراقب سؤالها وهو يفترش سماء الغرفة سحابةً داكنةً ، و خيم الصمت ، حتى ظنت أن أباها كف عن التنفس ، بقيت لحظةً تراقبه ، كانت عيونه في منأى عن عيونها لكن قلبها استشعر شيئا فيهما ، ركعت بجوار الكرسي المكسور ، وطالعت وجه أبيها باهتمام ، كانت عيونه تلمع ، لكنه لم يبكِ ، أبوها لا يمكن أن يبكي ، إنه رجل قوي ، و الدموع للنساء فقط ، سألته :

 أين كنت تعيش هناك يا أبي ؟
رفع رأسه و تلألأت ابتسامة حنين على شفتيه تحت شاربه الكث و قال :
 في غزة •• كنت أعيش في غزة ، قرب الشاطئ ••
 في بيت ؟
ضحك ضحكة صغيرة ، لم تخرج طربا و لكنها كــانت مقدمة لسيل من الكلمات ••

 بيــت ؟ و أي بــيت يا ريم ، و أي بيــت •• كان لــديــنا بيت واسع ، كبــيـر، نصفه حجرات و نصفه مكشوف ، وفي وسطه بالضبط بئر قديمة بجوارها نخلة سامقة ، طويلة جدا ، أطول من كل النخيل الذي تعرفين ، كانت النخلة تمد جذورها في أعمق أعماق البئر و كنا نرى تلك الجذور الغريبة الطويلة حين ندلي رؤوسنا داخل البئر ، كانت مياهه بعيدة و لذلك فقد احتالت النخلة لتصل إليها بالجـــذور ، كـــانت أمي تــصيح فينا دائما لنبتــعد عن الــبئر ، و كانت دائما تردد لأبي ، يرحمه الله : "يوما ما سيسقط أحد أطفــالنا في هذا البئر ، أشعر بهذا "••

و عاد أبوها يضحك ضحكته القصيرة و أكمل :

 كانت متعتي و إخوتي أن ننزل على هذه الجذور داخل البئر حتى يصبح طوق البئر في ضوء الشمس كقرص من ضياء أمام عيوننا ، كنت أحب هذا على الأقل ، لكن أمي كانت تكرهه ، كانت تتفقدنا كلما انتهت من أحد أعمالها و هي كثيرة ، فإذا وجدت أحدنا في البئر كانت تصيح و تولول حتى يخرج فإذا خرج أوســعته ضرباً و بكت بدلاً عنه ، رحمة الله عليها ••

 لكنها لم تمت
 الرحمة للأحياء قبل الأموات يا ابنتي ••
عاد الأب إلى كرسيه أمسك قدومه و أعمل به الدق ، وقفت برهة مترددة لكن السؤال عاد فغلبها فنطقت :
 أبي ، و هل كان لكم كرم ؟
نظر إليها مجددا و المسمار الأسود بين شفتيه يمنعه عن الكلام ، أو أن هذا ما أراده ، هز رأسه بالنفي و عاد يدقدق ••
 لكن لنا أقارب و أعمام ، معارف و أصدقاء ، إذن نحن لنا وطن ، لنا وطن يا أبي أليس كذلك ؟ لماذا إذن كتبوا على جواز سفرنا اللاجئين ؟
ترك أبوها قدومه يسقط منه أرضا و أزاح الكرسي عنه و قال :
 تعالي ••
اصطحبها إلى غرفته ، كانت مظلمة ، لكنه فتح النور و هو يقول :
 سأريك الوطن الآن ••
فتح خزانة ملابسه و أخرج صندوقا من خشب اللوز القديم و قال :
 هنا في هذا الصندوق احتفظت طوال سنين غربتي بما تبقى لي من وطني ، انظري ••

أخرج ألبوما مهترئا •• أخذ يقلب صفحاته أمامها ، صور تتابعت بالأبيض و الأسود ، رديئة الإضاءة ، لم تعن لها شيئا ، فهي لا تعرف أصحابها ، أشار :

 هذه أمي ، و هذا أبي ، يرحمه الله ، و هؤلاء إخوتي ، الكبير عمك عامر ، لقد توفي قبل عشرة أعوام و له أولاد لا أعرف عددهم ، لكنهم كثر ، و هذا عمك عمر ، كان أكبر مني بأربعة أعوام ، منذ سنين لم تصلني أخباره ، و هذا أنا ، انظري كنت أطولهم ، لكنني كنت شديد الخجل ، لذا ترين وجهي يختبئ خلف الوجوه ، و هذا أخي بدر ، إنه اصغر مني بعام واحد فقط ، و هذا محمد ، أصغرنا و أكثرنا شقاوة ••

تنهد و هو يتذكر :

 سقط مرة في البئر، و ظل يصارع الموت قرابة الخمس ساعات فيما أعيتنا الحيل لإخراجه و انتظرنا أبي حتى عاد من الكرم مساءا ، كان أبي قويا ، صاح فينا لما وجدنا نبكي ، قال : " يا عيب الشوم عليكم ، رجال و تبكون ؟"

ربط حبلاً في وسطه و نزل في البئر و هو يصيح بمحمد :" ها هل مت يا محمد ؟ ، أسمِعني صوتك يا ولد "

و عندما خرج محمد من البئر كان مبللًا و يرتجف لكنه كان مبتسماً ، قال :" أقــسم بالله إني لم أخــف و لم أبــك ، أنا رجل ، أليــس كذلك يا أبي ؟ "

ظلت تراقب وجه أبيها ، وهو يحكي ، أشفقت عليه ، بدا مستمتعاً جداً بما يقول ، وكانت عيونه تلمع وعلى طرفي شفتيه استقر زبد أبيض ، كان صوته متهدجاً ، حالماً ، كأنه يسمع أصواتهم و هو يحكي ••

أخرج لها من صندوقه جرساً صغيراً ، أعطاها إياه و قال :
 بهذا الجرس كانت تذكرنا أمنا إذا نسينا ، كان علينا ، كلما سمعناه و نحن صغار، أن نركض إليها تجمِعنا حولها ، تسألنا عما أنجزنا ، و عما ينبغي أن نفعل ، أحيانا كانت تقص علينا قصة ، أو تدعونا إلى طعام ، ثم تعود لأعمالها ••
صمتَ فجأة فيما كانت أصابعه الطويلة تعبث في صفحات الألبوم المهترئ ، تعبث لكأنما تخفي ارتجافة تراها و تحس بها لكنها لا تفهم لماذا ••

***
و ريم ليست صغيرة و هي تعرف جيدا أن فلسطين اكتسبت لقب المحتلة منذ أعوام عدّة ، و تعرف نتفا من تاريخها المظلم ، درستها و لم تعشها ، درستها مثل أية طالبة مصرية زاملتها يوما مقعد الدراسة ، كانت تعرف دوما أنها مميزة ، إن النظرات تتجه إليها بالضرورة عندما يأتي المعلم على ذكر فلسطين ، و عندما تعلق الفتيات على حدث ما سمعنه في نشرة الأخبار ليلة البارحة ، كانت ترى في عيونهن الأسئلة التي ينتظرن إجابتها منها ، لكنها لم تكن تجيب ، فهي لا تعرف ، حتى أبوها كف عن الحديث عن بلده منذ وقت طويل و لزم صمتاً قهرياً يمارسه معهم في المنزل لا يقطعه إلا الحديث العابر ، فهو عامل بناء يشقيه العمل طوال النهار فيعود آخر الليل متلهفاً على لقمة يقيم بها أوده ، ورشفة شاي تزن رأسه و ( راديو ) قديم يبث أخباراً من كل المحطات .

***
دوامة كبيرة عاش فيها جهاد القاسم منذ أن جاء إلى مصر ، شاباًً في العشرين من عمره ، و كانت غزة آنذاك تتبع مصر إداريا ، و يحكمها حاكم مصري و يجوس شوارعها ليلاً رجالُ أمن مصريون ، كان عليه - مثل إخوته - أن يسعى في الأرض وراء الرزق العصي ، في حياة شديدة القساوة عليهم ، و كان يتعين على الرجال و الشباب أن يتعرضوا كل يوم للموت في سبيل بضاعة مضحكة يأتون بها من فم السبع ، من الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1948م ، البعض كان يجز حشيشاً من تلك الأراضي في عتمة الليل ليبيع الجوال منه بخمسة قروش مصرية ، والبعض كان يقوم بقطع أنابيب الري المعدنية التي زرعها العدو بطول الساحل ضمن نظام ري حديث ليبيع القطعة التي اقتطعها بعشرة قروش أو يزيد ، وأيضا في عتمة الليل . مازال جهاد يذكر جيداً سَمْتَ الأشخاص الذين سقطوا أمام عيونه برصاص العدو عندما كانت مصابيحهم القوية تكشفهم ، كان من المضحك المبكي أن هؤلاء يموتون بمنتهى البساطة ، يموتون و كأنهم كلاب ضالة ، راحت تفتش في أكوام القمامة عن قطعة عظم جرداء .

جاء جهاد بعد أن حزم أبوه أمره و قرر الرحيل إلى حيث مظان الرزق الأوسع في الأراضي الأردنية المجاورة ، كان يجلس مع أبيه و صحبه و هم يتحدثون حول خطة السفر الغريبة ، كان عليهم - وفق خطتهم - أن يقطعوا الطريق عبر صحراء النقب ليصلوا إلى ميــناء العقبـــة حيث تتفتـــح الطرق و تنقســـم أربعة اتجــاهات مـــا بين مصـر و الأردن و السعودية و الأرض المحتلة من إسرائيل ، وكان عليهم ــ و هذا أخطر ما في الموضوع - أن يقدموا قرباناً منهم للطريق لكي يفتح عليهم ما استغلق منه ، فالجميع عندما يصل هناك لم يكن ليعرف أي الطرق أكثرها أمناً ، و كان على أحدهم لعب لعبة الموت مع مربع المتاهة ، وكان الاقتراع ، ووقع الاختيار على أبيه ، ليكون هو الفداء يسير فإذا ما قتلوه كانت أرضاً إسرائيلية ، ووجب على الباقيين اختيار طريق أخرى ••

شيء يشبه أن تطلق الرصاص على رأسك مخيراً من مسدس ليس فيه سوى رصاصة واحدة لا تعرف مكانها، فإما أن تكون الرصاصة في فوهته تحمل موتك وإما أن تنجو إذا لم تكن الأولى •• لم يتحدث جهاد كثيراً معهم وهم يضعون خطتهم ، وعندما وصلت الخطة إلى هذا الحد استشعر غصة ألم ونظر إلى أبيه يستجديه الرفض ، إلا أن الأب أشعل لفافته اليدوية و رشف من كأس الشاي البارد أمامه و تطلع ملياً في وجوه صحبه و ابنه و نفث الدخان أمامه و هو يقول :

 على خيرة الله •• موافق

و عندما انفض الجمع بقي جالساً مع أبيه يتطلع إليه ، كانت هناك العشرات من علامات الاستفهام ترتسم على وجهه ، و كان الليل المخيم على حوش منزلهم يخفيها رسماً و إن رسخها شعوراً ، و رغم الظلام الدامس الذي ما كان لأبيه أن يراه فيه إلا أنه استحى من دمعة ترقرقت في عينيه و لم تسقط ، و بصعوبة فتح فمه ليطلق لســيل الأسئلة العنان ، ولكن كلمة واحدة خرجت من فمه ، هادئة رغم الهدير داخله ، منخفضة رغم الصياح المختبئ في حلقه :

  لماذا ؟
حدق والده فيه طويلاً و تنهد و قال :

 منذ عشرين عاماً كانت أحوالنا صعبة ، ولكن بالقدر الذي نحسن العمل معه ، كنا أصحاب وطن ، أحراراً في حركتنا نمارس الصيد من بحر غزة أو التجارة من ميناء حيفا ، كنا سباعاً لا يقهر شبابنا و فتوتنا خوف أو يكسرها احتلال ، و لكن منذ أن انغرستِ الشوكة الإسرائيلية سيفا في خاصرة الوطن و أصبح ما نملكه سجناً كبيراً ، أصبح لزاماً علينا أن نسعى ، وعرفنا معنى اللقمة المغمسة بالدم و العار ، و لكن ••

و نفض الأب دخان اللفافة الذي سقط على ثوبه و قال :
 حتى هذه اللقمة يا جهاد أصبحت عزيزة ، حتى القروش الخمس التي نحارب شبح الموت من أجلها أصبحت غالية ، أغلى من أرواح رجالنا و شبابنا ••
اعتصر يديه حتى كاد أن يخلعهما و أكمل بحرارة كتم معها جهاد أنفاسه :

 أمس •• عندما كنت أتسلل في جنح الظلام نحو المستعمرة اليهودية القريبة لاجتث العشب أو أقطع ماسورة معدن و بعد أن غافلت الأمن المصري و أصبحت في مرمى الصهاينة أحمل جوالي ممتلئا فوجئت بشبح جندي يحمل بندقية و يصوبها نحوي ، لزمت مكاني و نطقت بالشهادتين ، قلت هي النهاية ، و لم أكن أفكر إلا في القروش الخمسة التي ستضيع ، لأنه لا أحد منكم يحمل هذا الجوال ، أتدري لقد مكثت على حالي هذا دقيقة مضت كأنها دهر ، فرفعت رأسي إلى الجندي و صرخت فيه ، هيا اقتلني ، لماذا لا تطلق النار ، كنت أريد أن أرتاح من معاناة طالت و اختصرها الزمن في هذه الدقيقة الكبيسة ، و لكن الجندي لم يتحرك و امتلأت غضباً ، حتى الموت أصبح عزيزا في هذه اللحظة القاصمة ، أحكمت قبضتي على منجلي و قست المسافة بيني و بينه و قدرت سرعتي المطلوبة ووثبت وثبة واحدة نحوه لأغرس منجلي في قلبه •• أتدري •• لقد اكتشفت أنني غرست منجلي في شجرة مالت غصونها و تشابكت حتى أخذت في الظلام شكل الموت المصوب من بندقية عدو ••

و استشعر جهاد في صوت أبيه يأساً اعتصر قلبه ، وعندما همّ بالحديث أكمل الأب بهدوء من وصل إلى الحقيقة :

 من أجل هذا يا جهاد ، من أجل ألا نموت بذل الخوف ، كان اختيار الموت على مفترق الطرق أمراً فارقاً يعني بالنسبة لأبيك الحياة ••

و لم ينس جهاد أبداً هذه الكلمات ، كانت هذه الليلة هي آخر مرة يشاهد فيها أباه ، فقد اختفى مع بقية الرجال منذ الصباح الباكر بدون وداع ، رغم أن موعد تنفيذ خطتهم كان في المساء •• اختفوا و لم يكن لدى الأم وقت للنواح ، كان الوقت عاملاً مهماً في أن يكون للناس رمق أو أن يلفظوه ••

لذا جمعتهم الأم رجالاً خمسة في ريعان الصبا و أبواب الشباب و قالت دون أن تحدد :
 و أنتم ماذا تنتظرون ؟ الموت القادم خلف كل شجرة ، أو الهلاك جوعاً وعاراً ؟ أنتم رجال فليسعَ كل منكم في طريق ، لا أريد أن أراكم إلا و قد وجد كل منكم طريقاً ، هيا تحركوا ••
و أيضا أيضا كانت هذه هي المرة الأخيرة التي يرى فيها أمه ••

قرر كل من عامر و عمر الذهاب في إثر أبيهم ، ولكن عبر الضفة الغربية التابعة إدارياً إلى الأردن ، و قرر بدر البقاء إلى جوارها و الاسترسال في جمع الرزق من فم السبع فيما قرر محمد الاستمرار في طريق اختطه لنفسه منذ طفولته المبكرة في الانضمام لجماعات الثورة و حركات المقاومة ، و قرر هو الرحيل إلى مـــصر ، و هـــكذا تفرق الجمع و انفض السامر و ضاعت الصلات إلا من حنين قديم يربط الإخوة المتفرقون قد يعتريهم في لحظة واحدة فيتطلعون بعيون ملؤها الرجاء إلى سماء مازالت تظللهم جميعاً و إن اختلفت أماكنهم و تباعدت ، فيرسلون إلى بعضهم البعض عبرها تنهدة شوق حارة تخرج من قلوب شتتها احتلال ••

***
اجتمعت الأسرة على مائدة الغذاء الأرضية و أخذ كل منهم يتناول وجبته بصمت مترقب كأنماً حط على رؤوسهم الطير ، و فجأة قطعت الأم الصمت و وجهت كلامها إلى سمر الأخت الصغرى :

 ألن تتعلمي أبدا الأكل بطريقة صحيحة ••
انتبه الجميع و كأنما اكتشفوا فجأة أن ليس لهذا الصمت من معنى فقالت ريم :
 أمي •• المزيد من السلاطة لو سمحت ••
مدت الأم طبق السلاطة إلى ابنتها و أشارت بطرف عينيها إلى أبيها ، و فهمت ريم ، أخذت الطبق و قالت لأبيها :
  المزيد يا أبي ؟
رفع رأسه نحوها و ابتسم قائلاً :
 لا ، لقد شبعت ••
فقالت الأم :
 و لكنك لم تكمل طبقك على الأقل ••
سحب علبة الدخان و أخرج سيجارة و هو يقول :
 ليست بي شهية للطعام ••
نهض فنهض الجميع ، ساعدت ريم أمها في جمع البقايا فقال الأب :
 أين قاسم ؟
 في رحلته المدرسية إلى الفيوم ، لقد أخبرك بهذا البارحة ••
 نعم ••
وضعت ريم ما بيدها في المطبخ و انفلتت إلى أبيها ، كان يجلس بجوار المذياع يقلب المحطات ، بادرته :
  أبي هل أنت غاضب ؟
أجاب باسماً :
 لا ••
  إذن لماذا لم تأكل ؟
همس الأب باسماً :
  هل أخبرك بسر ؟
أومأت برأسها إيجاباً و اقتربت من أبيها فهمس :
 لقد اشتقت فجأة لطعام أمي ، و تعرفين أن أمك حاولت مراراً صنع مثله ، لكنها لم تنجح و خشيتُ إن أعلنت رغبتي هذه أن تتحمس فتصنعها ثانية و هذا كثير !! أليس كذلك ؟
ضحكت ريم و همست موافقة :
 بل هو كثير جداً يا أبي •• معك حق ••
و عندما دخلت الأم تحمل الشاي وقفت برهةً تراقبهما ثم قالت :
  لابد أن حديثكما السري هذا عن طبخي أليس كذلك ؟
ضحك الأب و قال :

  لا يا أم قاسم ••لم يكن عنك أبدا أليس كذلك يا ريم ؟
شعرت ريم أنها تريد احتضان أبيها ، تريد أن تواسي هذا القلب الوحيد الذي يخفق بين جنبيه ، تريد أن تدق الأرض فتخرج منها وطناً قديماً ما زال يعيش في ذاكرته العجوز ، لكنها عوضـــاً عن ذلك توجـــهت إلى حــــجرتها ، أغـــلقت بابها بهدوء و أخرجت صندوقها و فتحته ، دقت بالجرس الصغير قليلاً ، ثم وضعته ثانية بعناية و تطلعت بغيظ إلى وثيقة سفرها ، دقت عليها ، عضت على شفتيها ، همست :

 لماذا ؟

توجهت إلى حيث ركنها الأثير ، لوحة رسم مغطاة بعناية رغم أن لا شيء عليها ، كانت الألوان مرتبة على حامل اللوحة ، كشفت غطاءها و تركت لمساحة اللون الأبيض احتلال عينيها و همست :

 مضى وقت طويل ••

أمسكت بقلمها الفحمي و خطت بضعة خطوط ••

في المساء كانت الورقة البيضاء تحمل رسماً مبدئياً لبئر قديمة تغرس فيها شجرة نخيل عجوز جذورها حتى الأعماق فيما طفل صغير يراقب قرص الشمس الغارب من خصاص نافذة خشبية في طرف اللوحة •• نظرت ريم إلى ما رسمت و بدت راضية عنها و عادت فغطت اللوحة بعناية و خرجت لتفتح الباب الذي كان يدق بإلحاح ••

كانت الأم تطالع التلفاز و الأب كعادته غارق في النوم بجوار المذياع و سمرُ الصغيرة ذات الخمسة أعوام تلعب أمام التلفاز فتثير أمها و يضيع المسلسل •• في طريقها إلى الباب أجابت ريم على سؤال لم يسأله أحد :

 كنت أرسم
همست الأم :
 أعرف
كان قاسم ابنُ الخامسة عشرة شبيهَ أبيه ، صاحت ريم بمجرد رؤيته :
 قاسم ، عدت مبكراً
تركت الأم مسلسلها المفضل و توجهت نحو ابنها ، احتضنته و هي تقول :
 أي مبكر يا ريم ، إنها العاشرة ، أهلا حبيبي
رمقته ريم و لاحظت إرهاقه و هو ينفلت من حضن أمه و أشارت بطرف عينيها نحو أبيها النائم هامسة بمَكْر :
 سأوقظه !! ••
أشاحت أمها بيدها و قالت :
 حتى الحب تريدوننا أن نخفيه أيها الفلسطينيون الغلاظ !!
سألته ريم :

  هل هناك ما يُحكى ؟
 
أومأ برأسه موافقاً و همس :

 الكثير ••

قالت بلهفة و هي تشده من يده :
 إذن تعال
استوقفتهم الأم بحزم و قالت :
 لابد أن قاسما جائع ، أليس كذلك يا حبيبي ؟
نظرت ريم إلى قاسم مبتسمة و رددت :
  هل حقاً أنت جائع يا حبيبَها ؟
قال قاسم متذمراً :
 لا •• لست جائعاً أكلتُ في الحافلة آخر شطيرة صنعتْها أمي ••
ثم نظر إلى أمه و قال بامتنان :
 أشكرك يا أمي ، لكنني حقا لست جائعاً ••
عبر تهاويم النوم جاءهم صوت الأب الغافي :
 جئتَ يا قاسم ؟
 نعم يا أبي ، أنا هنا
لاح طيف ابتسامة أمن على وجه الأب و استرسل في نومه
 يا أبا قاسم قم إلى فراشك ، تعدت الساعة العاشرة و أنت تستيقظ باكراً ••
همهم الأب ببضع كلمات ثم قام متكاسلاً و لم ينسَ إغلاق المذياع و في طريقه ربّت على كتف قاسم و قال :
 غداً ستحكي لي كل شيء ••
راقبه الجميع و هو يمضي متثاقلاً إلى غرفته و تحدث قلب ريم إليها بشيء ما ، استشعرت خوفاً غريباً لازمها لحظة واحدة ثم انتهى كل شيء ، قالت لأمها :
  هل آخذ قسوم الآن ام تريدينه بعد يا أمي ؟
لم تتكلم ، ولكنها ذهبت في إثر الأب المتعب ، وهي تغمغم بتحية المساء و توصي ريم بأختها سمر التي كانت تعالج نعاساً و تقاومه إلا أنها استسلمت له أخيراً و غفت على البساط حيث تلعب ، حملتها ريم و تبعها أخاها إلى غرفتها ، وعندما وضعتها في الفراش التفتت إلى قاسم و قالت :
 و الآن احكِ كل شيء ••

***

كان قاسم في حياة ريم صديقاً أكثر منه أخاً ، وكانت تتقبل راضية تدليل أمه له على أنه أمر مسلم به ، باعتباره الذكر الوحيد ، ولأنه جاء بعدها بثلاثة أعوام فقد اعتبرته في مثل عمرها ، خاصة لتمتعه برجاحة العقل و الاتزان اللذين لطالما اشتكت زميلاتها من عدم وجودهما عند إخوتهم الذكور ، لذا لم يكن مستغرباً أن تكون جل أسرارهم عند بعضهما البعض ، و رغم أن قاسماً لم تكن له أسرار بالمعنى الذي يعطي للكلمة هذا العمق إلا أنه كان يحتاج إلى من تسمعه في هذا السن الذي يبدأ فيه اليافع بقرض الأشعار و السباحة في دنيا الخيال و كتابة المذكرات الخاصة التي يضمنها أحلام الشباب اللاهبة ، و كان قاسم يعكس كل أحلامه المبكرة على سوسن صديقة ريم ، رغم أنها تكبره بثلاثة أعوام ، إلا أنها كانت تستمع إلى حكاياته عندما تزورهم باهتمام و تعلق على أشعاره و تبتسم له كلما بدأ الكلام ليسترسل دون أن تشعره بتفاهة ما يقول ، أو بأنه يضيع عليها وقتاً ثميناً ينبغي أن تقضيه مع صديقتها ، و في هذه الرحلة الأخيرة كان جل ما يشغل بال ريم هو الانطباع الذي تركه سيد أخو سوسن لدى قاسم أخيها ••

و سيد هذا هو الأخ الأكبر لسوسن و هو معلم اللغة الانجليزية لأخيها قاسم ، ولقد أبدى مراراً إعجابه بها لأخته التي كانت تنقل حديثه إلى ريم فتلقى منها صدوداً مفتعلاً ، وكأنها لا تريد أن تسمع ، و مع ذلك فلقد تركت لصديقتها المجال لتسمعها عبارات من نحو :

 سيد شديد الإعجاب بك ، وصف أول لقاء له بك في منزلنا بأنه لقاء العمر ، قال إنه لم يكن يعتـــقد أن هنـــاك من هي في مثل سنــنا و لكـــنها تحمل كل هـــذا النــضج و الوعي و الثقافة و الأهم الرقة و العذوبة و الجمال ، قال إنك أسريته من أول لقاء ••
و ترد ريم بعصبية مفتعلة :

 سوسن لا تقولي هذا الكلام ، أنا لا أسمح به ، ليس لدي وقت لأضيعه على قصص الكلام الفارغ التي تشغل معظم بنات اليوم ••

و لكن في أعماق ذاتها كانت مستمــتعة ، سعيدة ، و رسمت قلباً كبيراً يضم وجهين لرجل و امرأة مظللين بلا ملامح ، كانت اللوحة كلها سوداء ما عدا القلب الذي شغل ركنها الأيسر كله بلون أبيض ناصع يحتوي هذين الوجهين ، و لم تستطع أن تجيب عن أسئلة سوسن التي لاحقتها عندما رأت لوحتها :

 لماذا السواد في كل اللوحة ؟ أين الأزهار الجميلة و ضوء القمر و الشجرة التي يقبع عليها هذا القلب محفوراً ، لِمَ كل هذه القتامة و الغموض في الملامح ؟

لم ترد ريم ، كل ما قالته أن ما رسمته كان التعبير الوحيد الذي شعرت به عندما أرادت أن ترسم بعد حديثهما عن أخيها ، و حاولت تغيير الموضوع ••

و جاءت رحلة أخيها قاسم إلى الفيوم حيث سيرافق بشكل ودي أستاذه سيداً ، ويجالسه طوال الوقت ، وكان قاسم يعرف ما دار بين الصديقتين عن سيد ، و كان له رأي سابق فيه يصفه بالجمود وعدم المرونة والوجه الخالي من التعبير ، و لكن بعد أن طلبت إليه أخته محاولة استكناه هذه الشخصية و الوصول إلى وصف تقريبي لها أثناء الرحلة على اعتبار أن المرء يتحلل من جموده عندما يكون في قلب الطبيعة و في جو الرحلات ، ركز كل جهده على مراقبة و مجالسة الأستاذ أثناء الرحلة و خرج بانطباعات عدّة :

 الأستاذ سيد و إن حاول التودد إليّ هذه المرة ، إلا أنه يظل كما أخبرتك من قبل ، وجه بلا ملامح ، جامد ، حتى ضحكته لا تخرج صافية لا تخرج من القلب يا ريم ••

 هذا ما شعرتُ به أنا أيضاً عندما رأيته صدفة في منزل سوسن ••

هزت رأسها و ابتسمت :

 لا بأس يا فتى ، هذا الرجل لا يعني لي شيئاً •• و بالمناسبة فسأريك شيئاً ••
تحركت و اتجهت نحو الخزانة أخرجت وثيقتها للمرة العشرين هذا اليوم ألقتها إلى أخيها بغير اعتناء :
 انظر ••
 الوثيقة ؟ متى جاءت ؟
 أحضرها أبي اليوم ••
 مبارك ، صرت مستقلة الآن ••
  هل لاحظت عنوان الوثيقة ؟
 و ثيقة سفر للاجئين الفلسطينيين ، ما به ؟
 قاسم •• نحن لاجئون ، هل تعرف معنى هذه الكلمة ؟
  و من لا يعرف ؟
أطرقت ريم قليلاً و نبض قلبها بشدة ، وعندما رفعت وجهها كانت عيناها تلمع :
 أراني أبي جزءاً مما تحفظه ذاكرته للوطن ، أخذني إلى غرفة نومه ، أعطاني جرساً صغيراً كان لأمه ، و أراني ألبوماً قديماً ما زال يحمل صور عائلتنا هناك •• هل رأيته ؟
نهض قاسم واقفاً و همس :

 نعم ، أراني إياه ، بعد أن تشاجرت مع عادل في المدرسة الشهر الماضي ، كان يعيرني بوطني ، قال إنني بلا وطن و ينبغي أن أشعر بالامتنان لهم ، لأنهم آوونا ورحمونا من التشرد ، صاح بي يا لاجئ •• يومها جئت إلى المنزل باكياً ، كان أبي نائماً بجوار المذياع ، لكنه بطريقة ما لمح دموعي ، و من الكلمات الأولى فهم كل شيء و صحبني إلى غرفته ، أراني كل شيء و قال لي إنه ما زال يحلم باليوم الذي يرى فيه أهله مجدداً ••
زفرت ريم و تنهدت
ـ من يصدق عشرون عاماً منذ غادر أبي أرضه ، عشرون عاماً لم ير خلالها أحدا من إخوته أو أمه ••
 حتى خبر وفاة جدي ، يرحمه الله ، عرفه صدفة ••
  هل تعتقد أن شيئاً ما يمنع أبي من الذهاب إلى هناك ؟
همس قاسم ، وملامحه تحمل صورة غامضة لم تستوعبها ريم كثيراً قال :
 الخوف ••
ران صمت طويل على الغرفة بعد هذه الكلمة لم يقطعه إلا صوت أنفاسهما و تقلب الصغيرة في فراشها ، عبر ضوء القمر خصاص النافذة فتبينته ريم و عندما همت أن تنهض إليه ودعها أخوها :
 أنا ذاهب للنوم •• لدي مدرسة غدا ••

أومأت برأسها ، و عندما أغلق الباب خلفه نهضت ففتحت النافذة تطلعت إلى القمر ، كان مكتملاً ، شيئاً ما يخيفها عند اكتمال القمر بدراً ، تشعر أن اكتماله إيذانا ببدء النهاية ، و رغم ذلك لا تملك في كل شهر إلا أن تقف تراقبه و هو يفترش السماء و يقرأ عليها الرسالة ، همست و هي تتمطى :
 يوما ما سأعود إلى الوطن ••

و عندما همت بإغلاق النافذة رأته ••


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى