الأحد ٢٦ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
الدكتور أحمد يونس يكتب لديوان العرب:
بقلم أحمد يونس

تعالى معي إلى بـلاد أخرى

قالت لي ما ترجمته: أنا خلاص! ما بقـيتش قــادرة على العـيشـة دي! خلاص! حـقـيقـي ما بقـيتش قــادرة!

شيء ما، عـذْب بقـدر ما هو ملبـد بالأسى، كان يترقرق فـي عينيها نصـف المـغمضتين، كأنهما نافورتان مجهدتان فـي أواخر المساء، تغالبان النعاس خوفاً حتى من الحلم. كانت ترتجف، لا من البرد أو الغضب أو الخوف، إنما من تهتك حاد فـي أنسجة الروح، عندما أضافت: المرأة التي تستغيث بي في صمت، كلما نظرت إلي من على صفحة المرآة، ليست بالتأكيد هي أنا!

ابتسامة الموناليزا، كما اعـتدت أنت دائماً أن تصفها، صارت أقرب ما تكون إلى تقطيبـة الجدة البـائسة فـي لوحة الرعـاة لبيتر بروجِل. تعالى معي إلى بـلاد أخرى ليست غريبةً عنك. بـلاد تـعرف من واقع تجـاربك أن أحداً لن يـضطهدك فيها لـرأي أبـديته أو بؤرة فـساد عـريتهـا أو موقـف دافعت عنه، ولا يوجد أدنى احـتمال فـي أن تـمـر على أرضها بمحاولة اغتيال بشعة، كتلك التي تـعرضت لها منذ ستة أعوام. تعالى معي إلى بـلاد لا تتطرق إلى ذهن أحد من كبارها فـكرة أن يصفـيك جسدياً بإشعال النـار في المنزل بأكمله، أو من خلال حقـنك بالهواء في الوريد، أو يـبعث بمن يسـكب البـنزين فـي عينيك، بكل ما يترتب على ذلك من أوجاع مزمنةٍ لن تبرأ منها ما حييت!

ولم أجد فـي صوتها المشروخ تلك الحديقة الشـهرزادية التي طالما غفـوت على حفيف أشـجارها المستحمة بقطر الندى: أتظن أنني لا أسـمعك بالليل، حين تغـلق على نـفسك باب حجـرة المكتب، لتئن بـمفردك من الألم؟ ألأنني أسـكت تـخيلت أنني لم آخذ بالي منذ الوهلة الأولى، من أنك لا تبـالغ في التظاهر بالمرح، إلا لتخفـي ما بك من حرائق؟ تعالى معي نستظل بسمـاء أخرى لا تسرق تحت قبتها أعمـارنا عصـابات الـمزورين أو قـتلة الأطفال أو خبـراء التعذيب أو مصاصي الدماء أو النخاسين الـجدد، ولا تمطر طول النهار نكداً ومجازر وكوابيس ومحارق ومغـارق وسحـابات سوداء!

قلت: ليت هذا في إمكاني! ليتني أستطيع! كيف أرحل بعيداً، وأنا كلي هنا، مـوزع على ذرات التراب ونشـوق العـواجيز فـي القرى، وعلى الغبـار الذي يتساقط من الشفق في الأمسيات الموحشة، ليتناثر فوق أسطح البيوت المـجللة كلهـا بالحداد؟ إلى أين أذهب، والوطن بالنسبة لي ليس فندقاً، إذا لم تعجبنا الخدمة فيه، بحثنا عن غيره؟ الوطن بالنسبة لي هو المكان الذي نعاني فيه بمحض إرادتنا! كيف أرحل بعيداً، وأنا مـخلوط بعجينة الحناء ورماد الفرن وخميرة الخَبـيز والكحل في عيون الصبايا وتشابك الحروف في عبارات التهاني والعزاء؟ كيف وأنا، بعد كل هذه السنين، ما أزال أتحين الفرصة لأقف على الرصيف أيام الإجازات، كما اعتـدت في طفولتي البعيدة، أمام النافذة التي طالما انتظـرت، ليلاً أو نهاراً، صيفاً أو شتاءً،أن تطل من خـلف شيشها بنت الجيـران؟ لمن أترك الطـرقات التي تجسدت بمرور الوقت، داخلي من الرأس حتى القدمين، على هيئة أوردةٍ وشـرايين تموج بالصخب؟ لمن أترك شارع الجـبلاية، وكـوبري الجامعة، وحـواري سيدنا الحسين والقلعة والمغربلين ودير الملاك، وبـائعات الفل في ميدان التحرير، وقـوارب العشاق على صفحة النيل سـاعة المغربية؟ من ذا الذي سأئتمنه على الكـورنيش من المعمورة إلى العـجمي، وعلى الشماسي وجرادل الأطفال الملونة وصـخرة ميامي وقـصور بنيناها فوق الرمال وبير مسعود؟ من ذا الذي سأئتمنه على الوعود والعهود والتنهدات، وعلى تـلامس الأيدي والشفاه خلف الكبائن في هجعة الظـهر الأحمر، وعلى الذرة المشوية والفريسكا والسينالكو وغـزل البنات ومـقاطع متداخلةٍ من أغـنيات لعـبد الحليم؟ من سيروي بماء الحنين الأخضر كلاماً سكبتـه في آذان صديقاتي، بكل ما فـي الدنيا من صدق، عن المستقبل الأقل قبحاً، أو الحـياة الأقـل ظـلماً في وطـن أقـل تعـاسة؟ إلى أين أذهب، وأنا أريد عندما يحين الأجل أن أرقد إلى جوار أبي، وأن يؤنس في وحشة القبر كـل مـنا الآخر، باستحضار سـاعات طويلة، قضيناها معاً في الشرفة، بالقاهرة أو الإسكندرية، أو بصحبة الفلاحين الحزانى فـي ظل السواقي الحزينة، نتحدث بصوت خافت، كأنما نحن لا نريد أن نُفزع بأخبارنا فـي هذا الزمن الأغبر أرواح أحبائنا النائمين تحت التراب. نتحدث همساً عن عذابات الفقراء ودونية الكهنة وشراهة رجال الأعمال ودموية العسكر ومذابح الطغاة وحلم التغيير، وعن الليل الذي لا نهاية له، وعن الشقاء الإنساني؟ أقـسم لـك أنني ـمهما حـاولتـ لن أستطيع! ليس هذا في مقدوري أصلاً، ولا عمري تصـورت أن حدوثه وارد. أقسم لك بهاتين الغمازتين اللتين يحسدك عليهما قوس قزح. أنا لا أتخيل مجرد فكرة الرحيـل إلا بهدف الدراسة كما فعـلت. لا أتخيل مجرد فكرة الرحيل إلى الأبد، تاركاً أرصـفة الشوارع المـهشمة أو المناطق العشوائية أو سكان القبور. تاركاً التفرقة العنصرية السافرة التي يمارسها نازيو الجيستابو الجديد فـي (أزهى عصور الديمقراطية وحقوق الإنسان) ضد الملايين الثمانية من متحدي الإعاقة أو آلاف الجياع الذين ينامون شبه عراةٍ تحت الكباري فـي عز الشتاء.

سافري أنـت بالسلامة، ولا تخافي علي. لا يوجد ما يدعو إلى الخوف على مثلي. ألسـت أنـت من اتهمني دائماً بتحجر المشاعر؟ ما الذي يقلقـك إذن؟ اطمئني عـلى الآخر. وتأكدي من أنني لن أبتئس لفراقك، ولا سأفتقد لمسة يـدك على جبهتي، وأنـت تسألين: ماذا بك؟ هل أنت مريض؟ إلى متى ستظل تحمل الكرة الأرضـية فوق رأسـك المثقـل بالهموم؟ اطمئني عـلى الآخر. وتأكـدي من أنني لن أقـطع البـيت جيئةً وذهاباً، المرة تلو الأخرى، كالمدمن الذي تأخر عليه موعد الجرعة، باحثاً على المخـدة أو بين أسنان المـشط أو حتى فـي هواء الحجرات عن عطر ضفـائرك، ولا سيقتلني الشوق إليك، ولا سأبكي قليلاً على انفراد، كلما فتحـت بـاب الشقـة لأجدها بدونك، ولا أي حــاجـة خـالص...!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى