السبت ٢ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٦
القصة الفائزة الأولى فى مسابقة نجلاء محرم للقصة القصيرة

اللعبة

تأليف: حسنى فاروق ـ مصر

وكان لا يُرى منه إلا الوجه، فى حين يرى هو ما لا نجرؤ نحن ولا آباؤنا على رؤيته، آخرُ من لُقِّبَ بالكبير فى عموم الناحية، اللابد فى أغوار المقابر المستوية فى الثبات، المقتفى آثار المارقين وقطاع الطرق، الماهر فى التخفى وفى نفس الوقت الآتى فجأة من حيث لا يدرى أحد، القادر ـ والقدرة لله ـ على الإفصاح عن علامات خفية فى أجساد النساء، يتراقص جلد الوجه عند سماع سيرته، مئات الرؤوس تدلت فوق الصدر منذ قدومه إلى القرية خفية، تحمله إحدى الراقصات اللاتى يبرعن فى الرقص بقدم واحدة فوق الحبل وفوق صدور الرجال، كان الله فى عون وألبسه حلل التفرد، ووقاه شر دود الأرض ببركة دعاء أولئك النسوة اللاتى يكشفن عن رؤوسهن فى قرص الشتاء.

قالت أم رزق الداية نقلا عن رابطة الدايات فى عموم الزمام عن أمه: لا أعرف له أبا، سكننى منذ نعومة أظافره، هيجنى، أربكنى، قلب كيانى، فقيل لى عن شيخ بارع بإشارة من يده وإيماءة من رأسه يخرج العفريت من الفم حبوًا، مجرجرا وراءه أذيال الخيبة، ويتراقص الحجر فوق الماء تراقص الديك فى الزيت المغلى، أجلينى قبالته، وأنا أضع طرف جلبابى على أنفى رائحة البخور الغثة، وبعد إفاقة مفاجئة وبعد بسملة وحوقلة واستعاذة واستغفار وأدعية مبهمة قال: لا ينفع معه السحر، مجبول على اللعبة، يعرف الملعوب له، والملعوب له، والملعوب فيه، عليك بالاغتسال سبع مرات إحداهن بالتراب، كان الله فى عونك وألهمك الصبر.

ـ أتخلص منه.

ـ لا تضع العقدة فى المنشار.

ـ افعلى ما يحلو لك وأنا غير مسئول.

ـ قالت وداد بائعة الخضار: وكانت أمه تحمله فوق رأسها فى قفة، تجوس به خلال السوق والدروب، المقاهى والمقابر، الأديرة والحوانيت، وحين يصرخ من الجوع تشخب له اللبن فى فمه من إحدى المعاز السارحة.

ـ وقالت أخرى: أرضعته كلبة بلقاء.

ـ وقال الأب عازر، أرضعته الحمير

أخبرتنا وكالات الأنباء فى ليلة سوداء أنها قالت: إنه الجيفة لا يكفيها أن تطفو فوق جلدة الماء لكنها ترمى برائحتها فى مغاور الصدور وفى تكوينات الدم والطين، وتبرع فى تخطى الرقاب المنيعة، وتطأ موطئا لا ينبغى لأحد من بعده.

وقالت العرافة: هو الذى يدعى العبط ويضع الأحجار مع البيض ويقول تفقس وحُجَّتُهُ: من عاشر القوم أربعين يوما صار منهم، وإن زاد خرج عليهم واستحل رقابهم.

وقال نائب الدائرة فى جلسة عابرة: خذوا الحكمة من أفواه النواب، وليدلى كل بدلوه، هذا دلوى: ما الذى أجبركم على دخوله القرية؟ قلتم: ربما زج به أحد ـ شبع من لبن أمه حتى ابتلت عظامه ـ ليقلب علينا المائة ويستبيح لنفسه القول والفعل، ويخطف من أيدينا كسرة الخبز وكوب الماء ويضع ذيل جلبابه بين أسنانه ـ هذا إن كان يرتدى شيئا ـ ويجرى ليختبئ فى أحد الشقوق كفأر، ويجوز أن يكون قد دُسَّ بيننا لإثارة الفتن والقلاقل ـ لأن الطينة تنقصها البلة ـ ذلك قولكم بأفواهكم، وما خفى كان أعظم، اسألوا العمدة كيف جاء، وكيف صار بهذا الطول؟!

قال العمدة: وجدناه ـ اللهم احفظنا ـ مكتوبا فى يوميات القرية، وفى حكايا الأجداد وعلى لسان العارفين والعرافين والغجر والمتسولين وفى جراب الحاوى، وفى أعين الصغار التى لا تطرف فوق الأرصفة، وفى وجه الفتاة التى تنام خارج جلبابها عنوة.

هذا هو العمدة ، لم يضف جديدا، ليته وضع حذاءً قديما فى فمه وخدمنا بسكاته..

دعونا من ذلك، هناك شئ ما يجعله ينظر لنا من أعلى.

ـ شئ طبيعى لأنه أكثر منا طولا.

ـ هل نسيتم يا سادة أنه يعرض بنا ويشنع فى الساحات الدولية والمقاهى ودور المضاربة وخانات التطبيع والزنازينـ مُطْلِقًا لسانه بما خرست عنه الألسنة، وأن فى جعبته مايجعل الواحد منا يغمض عينيه ويدفن رأسه فى التراب ويتوسل إلى الأرض أن تنشق وتبلعه، ومن كان فى رأسه جرح فليتحسسه بيده ويكبسه بالطين، وإذا كان الأمر كذلك فلماذا تعنفون أنفسكم وتتظاهرون بالغيرة والرفض، أم أنه تمرس على دور ما فى أحد الأفلام الهابطة.

ـ ليس هذا وقتا للهزار.

قال أحد الخفراء: إذا كان المتحدث مجنونا، فالساكت فالسامع فالنائم على بطنه عاقل، وإذا كنتم أنتم العقلاء فأطلقوا أصابعكم فى وجهه كالسهم، وقولوا فى ثبات وثقة: أنت فعلت كذا وكذا، إياك أن تتحاذق فى طاولة اللعب، أترك اللعبة، اللعبة ليست لعبك، محظور أن تمد يدك، لا نلاعبك ولا تلاعبنا، حكام اللعبة المخلصون قد أباحوا رفضك، محظور أن تمشى أن تتحرك، أن تبصر، أن تأكل، أخرج منها فإنك رجيم.

قالت العرافة: اضربوا الرأس فى الرأس، واجعلوا الشئ فى الشئ، يتحرك الشئ فى الشئ، واضربوا طريقا فى الصدر تصلوا إلى الرقبة وبعدها.....

قال مهزار صاحب الألف قرار: بالتأنى والترتيب تبرك الدجاجة فوق الذيل.

وقال شاعر العامية: "القدم بتدق فى صدرنا ـ نكحكح لما العضم ينقح"

من قال إن بحوزته ما يجعلنا نطأطئ رؤوسنا؟ هو الذى تفحص الوجوه بطريقة المحنك المجرب ومشط لحانا بأصابعه، وحدثنا وأفاض فصدقنا دون أن نفهم شيئا مما قال، لم نرتقِ إلى فكره فنتدبر، ولم نعتلِ قاربه فنحذر ولم... ولم.

وقال الشحاذ: وماذا يقول لنا سوى تقارير الدماء؟ والأقدام التى ترفس فى حبال المشانق، ومصادرة الخوازيق.

قال أحد المخبرين المقربين: أظنه صار حاويا يجمع حصى الأرض ويرجم به العصافير فتصير بوما، غربانا، تصريحات كاذبة.

حدثتنا الإذاعة أنها قالت: أصابته لوثة فى أواخر أيامه، لم يسعد معه دواء المحنكين ولا حكمة المتفلسفين، صار يحدث جلبابه الذى يلوح به يمنة ويسرة، غدا معروفا بهيئته، برائحته، بكلامه، إذا استدار بوجهه قبحته، وإذا نأى بجانبه أو أعرض بقفاه أبعدته بركلة من قدمك فولَّى مدبرا وقد أخرج لك لسانه وهو يقول: موتوا بغيظكم، أنا المسمار وأنتم الفقاقيع، سأبقى واقفا أرونى قوتكم.. هه.. هه.. ومن ليس له ذراع فليشترِ له ذراعا من السوق.

قال الشحاذ: قطرة الماء تثقب الحجر.

ومازالت الإذاعة تحدثنا قائلة: يصفع أقفاء الواقفين فى سكينة، يخطف عمائمهم ويدهكها بقدمه فى الوحل، يخرج لسانه للمارين والمتحدثين فى التلفاز والمتحجرين فوق صفحات الجرائد، يتنحنح ويدق الأرض بعصاه، دقة، دقتين، ثلاث، يقول ألا فاسمعوا، سأخبركم أمرا خطيرا، انظروا ناحيتى هل وجهى قبيح إلى هذه الدرجة، إن الله لا ينظر إلى ألوانكم، فقط أعيرونى انتباهكم وخبئوا وجوهكم بأحذيتكم، سنوات طويلة وأنا أسمع لكم، جاءت اللحظة التى يجب أن تسمعوا لى طوعا أو كرها "لا أقول الذى يريدون رأيى....ثابت لا أرى من الحق بيعة" ولما وجد منهم إعراضا ونفورا هشهم بعصاه محاولا إيقافهم فى آذانهم الواحد تلو الاخر: الجمل طلع النخلة.. هه.. هه، كيف ومتى، ناس مجانين يتظاهرون بالحذق والحذلقة، لماذا لم يبحثوا عن شئ ينفعهم بدلا من القيل واتلقال عن خلق الله، هل رأوه يطلع النخلة أم أنه حكى هو لهم، إن كان فعل أحاطنى علما، لم يخبئ عنى شيئا قط، لا لا.. يريدون أن يشوهوا صورته ويختلقوا عنه الأكاذيب، لا لا، لأنه لا يحظى بالدُّرْبَة وفنيات المراوغة والخداع يريدون إقصاءه، جملى لم يترمرس على ألاعيبهم وقوانينهم، ولم بنم ليلته مغمضا عينا ومطلقا الأخرى كذئب، رغم أنهما لم يبلغا حتى شراسة الفأر، ولم يحرك رأسه كحية لتخدير فريستها، ولم ينفث السم فى فى أخيه أو حتى فى أفواه القادمين نحوه بأحذيتهم، ولم يتقرفص بين يدى جنية البئر حتى تلقنه تفاصيل الخروج على أو انتهاك مذاهب الغير، ورغم ذلك وحتى لا تشفى غلتهم، وقد اقترب من أذن الجمل غير المرئى، هامسا: لتمسح أقدامك بالأرض أيها الجمل، وخذ نفسا تلو نفس، وتقدم فى حذر المحترفين خطوة خطوة، "تاتا خطى العتبة"، بالتأنى وإحكام الجملة يركب الجمل النخلة، كن شجاعا مثلى، اعقلها وتوكل، عيناك إلى الأمام وذيلك فى فمك، بينك وبين القمة قاب ذراع أو أدنى، وإن استشعرت منهم خيانة أو سابّوك، أو رموك بنكات سافرة، فاقذف وجوههم بحجر فى إثر حجر، ومقعد فى إثر مقعد، وإن لم تجد فبرجلك، بذيلك، برأسك، وإن فعلت ـ وليتك تفعل ـ سأهبك جلبابى وعصاى ةخصلة من شعرى المسترسل حتى كاحلى، والرأس إذا وقع على الرأس قالت: طق.

قال التربى: الرجل فى المقابر، يحاول أن يقرأ فلا يقدر، يقفز كالقط، يعدو قائلا: "فرفور يا فرفور.. وجهك كالح يا فرفور.. رجلك كما رجل التور يا فرفور.. بطنك قبر يا فرفور.. بلع كل القبور يا فرفور"، أسند ظهره إلى أحد المقابر، يلتقط أنفاسه، يحفر بيديه، يخرج بعض الأطفال حديثى الولادة، يجلسهم قبالته، ثم يروغ عليهم ضربا بجلبابه قائلا: اقرؤوا يا أولاد الكلاب، هل كان آباؤكم رجال سوء أم كانت أمهاتكم بغايا، هل ذقتم ركلات المتسلقين والمخبرين والجبناء، أنا ذقت. هل صارعتم القطط على عظمة عفنة؟ أنا صارعت. هل رفستم بأقدامكم فى حبال المشانق؟ أنا رفست. هل... أنا.

قال الشحاذ: ليس به سفاهة أو جنة، إنما ادعى ذلك ليتهرب من أفعاله وجرائمه، القانون واضح وصريح فى هذه النقطة "تسقط العقوبة إذا اعتراه أو ادعى خبلا"، انظروا إليه لا تخدعكم ملابسه، انظروا إلى عينيه توقنوا صحة كلامى، اللهم هل بلغت...

وقال شاعر العامية: "القدم بتدق فى صدرنا.. نكحكح لما العضم ينقح"

قيل والمصدر غير معروف: ماتت القرية، وصارت قبرا، وبات كل واحد يُعْرف بعصا تخرم ظهره، أظن مكتوبا عليها (غير معروف الهوية)، هذا قبر الفيلسوف الذى أقسم بكل الأديان السماوية وغير السماوية أن من يتفننون فى إحكام ربطات العنق هم أنفسهم صناع المشانق، وهذا قبر الراقصة الواعدة البارعة فى الرقص بقدم واحدة، وهذا قبر السياسى "اللهلوب"، الفنان الموهوب، شارب الماء بغير كوب الذى قال: بالسياسة والتغابى تبرع فى فن الحرابى، هه..هه، وهذا قبر... وهذا قبر.

وأحكم الصمت قبضته، ماذا بقى للعرافين والمخبرين والضالة والمتسولين أن يقولوه، والتهمة ثابتة، بالصوت والصورة، باللحم والدم، والمؤثرات، مقاسة ومحبوكة ولا شهود، أو شهود ولا دليل، ولا ديك ينوح عند الفجر، ولا دجاجة فى تبنها ترقد، ولا.. ولا..، ويقول شاعر العامية: "القدم بتدق فى صدرنا .. نكحكح لما العضم ينقح"، ويقول جدى: الحجر فى الرأس مَنْ فجر، ومن كان نائما يضرب وجهه بحفنة ماء، ومن لم يجد يضرب رأسه فى الحائط، ومن لم يجد هذا ولا ذاك فلينم ولا يغضب إذا طفا فوق الماء كجيفة.

ربما يسأل أحد: كم مرة ماتت القرية؟ لكن أحدا لم يسأل: أين الرجل؟!

حدثنا المذيع اللامع فى التلفاز الجامع نقلا عن أقرب المقربين إلى الرجل أنه قال: دخل الرجل إلى القرية خفية، تحمله إحدى الراقصات ذوات الألف قدم، فقرأ عليها ما قرأ، فنامت ثم ماتت، كيف؟! لم يصرح المصدر عن السبب مراعاة لأصول الذوق الدولى وتخى الحذر.

قال شيخ الطريقة: بالحيلة وثراء الجعبة تتقن فن اللعبة. واسمع يا من لا تسمع.

تأليف: حسنى فاروق ـ مصر

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى