الأربعاء ١٣ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٦
بقلم جميل حمداوي

المبدع فخر الدين العمراني مخرجا مسرحيا

يعد فخر الدين العمراني رائد المسرح الأمازيغي في منطقة الريف بالمغرب الأقصى، ومن المؤسسين الفعليين لهذا المسرح إلى جانب مجموعة من المخرجين المحترمين كحسين القمري و سعيد الجراري ومحمد العمالي وفاروق أزنابط وفؤاد أزروال وعمرو خلوقي ومسعودي شعيب والمرسي سعيد . وقد تميز فخر الدين العمراني بكفاءة عالية في تشغيل السينوغرافيا المسرحية وتكوين الممثلين وإعدادهم لفعل التمسرح الركحي الآني والمستقبلي. وقد ساهم أيضا في تنشيط الحركة الثقافية والإبداعية والدرامية في مدينة الناظور التي عرفت وما تزال تعرف جفافا ثقافيا خطيرا؛ لانعدام البنية التحتية والإمكانيات المادية والمالية والبشرية لتسيير دواليب الحركة الثقافية. ويلاحظ فيها عزوف الناس عن الفعل الإبداعي والثقافي لانتشار المخدرات وظاهرة التهريب وسيادة المنطق التجاري والمادي وغياب الوعي و عدم الاهتمام بالعلم وتثقيف الأجيال بالأنشطة الفكرية والثقافية ناهيك عن سيادة منطق الانطواء والعزلة والإحساس بالاغتراب الذاتي والمكاني والتفكير في الهجرة إلى ماوراء البحر و انتشار اللامبالاة بين المواطنين والتسيب والشعور بالدونية والإقصاء والتهميش ووقوف كثير من المتطفلين في وجه مثقفي المدينة ومبدعيهم بالمرصاد والمحاسبة والشتم والسب والتعيير. وعلى الرغم من هذا الحصار المأساوي والتهميش السلبي الدائم، فثمة بعض الشموع التي ما تزال تنير درب السراة وتهديهم إلى طريق الهداية ونور المشكاة المتوهج بالقيم الفاضلة والمثل العليا النبيلة. وتتجسد هذه الشموع المضيئة في المثقفين السيزيفيين العضويين من شعراء ونقاد وقصاصين وروائيين ومسرحيين ومفكرين كالمخرج المتميز فخر الدين العمراني الذي أثرى الساحة الريفية والوطنية والهولندية بكثير من العروض المسرحية الناجحة موضوعا وتشكيلا ومقصدية. إذاً، من هو هذا المخرج القدير؟ وماهي المراحل التي عرفتها مسيرته الثقافية والإبداعية؟ وماهي أهم عروضه السينوغرافية التي ساهم بها في إغناء الريبرتوار الدرامي المحلي والوطني والدولي؟ وماهي مرجعياته الثقافية والتناصية؟ هذا ما سنعرفه في هذه الدراسة المتواضعة.

1- البيوغرافيا الشخصية:

ولد المخرج فخر الدين العمراني بالناظور سنة 1960م من أسرة مثقفة ومجاهدة وغيورة على الوطن. تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي بالناظور إلى حصوله على شهادة البكالوريا في الأدب العربي العصري. ثم، التحق بجامعة محمد الأول بوجدة متخصصا في الأدب العربي، و اشتغل بعد ذلك أستاذا في ثانوية حمان الفطواكي بالناظور وملحقا تربويا بنفس المدينة. وفي سنة 1995م، عين فخر الدين العمراني رئيسا لمكتب الأنشطة الاجتماعية والتربوية بنيابة وزارة التربية الوطنية بالناظور إلى غاية سنة 1999م، لينتقل بعد ذلك إلى الثانوية الإعدادية طارق بن زياد بنفس المدينة.

2- محطة التلمذة والتكوين المسرحي:

تعرف الأستاذ فخر الدين العمراني المسرح منذ دراسته الابتدائية بمؤسسة ابن خلدون بمدينة الناظور،وصقلت موهبته الإبداعية في مجال المسرح بثانوية الكندي على يد الأستاذ والفنان القدير سعيد الجراري من خلال تمثيل مجموعة من المسرحيات المدرسية بالمشاركة مع مجموعة من أبناء المدينة من جملتهم : حسن أخنوس الذي يشتغل حاليا مذيعا بإذاعة المنار ببلجيكا، ومحمد بنعلال وهو مندوب الهلال الأحمر المغربي، والفزازي عزالدين ، وعبد الكريم بوتگيوت، وعبد الرحمـن بوهدان، وأحمد الدحروش....

وأثناء هذه المرحلة، أسس المخرج فخر الدين العمراني مع رفقائه جمعية" أهل الدربالة للموسيقا والمسرح" أواخر سنة 1975م. وقد قدمت هذه الجمعية العديد من السكيتشات والمسرحيات والتمثيليات بأشكال مسرحية مختلفة وأبنية درامية متنوعة. وكانت تشهد عروض هذه الجمعية إقبالا جماهيريا منقطع النظير في تلك الفترة الزمنية. ولاغرو أن هذه الجمعية انخرطت في الجامعة الوطنية لمسرح الهواة التي كانت تضم أسماء لامعة ومشهورة في مجال المسرح المغربي﴿ عبد الكريم برشيد وعبد المجيد فنيش وعبد الرحمن بنزيدان ومحمد بلهيسي ويونس لوليدي ومصطفى رمضاني وعمر درويش ويحيى بودلال وعبد الواحد عوزري....﴾. و من أهم الأعمال التي قدمتها الجمعية باللغة العربية في إطار إقصائيات المهرجان الوطني مسرحية " محاكمة رجل مجهول" لمؤلفها الدكتور عزالدين إسماعيل الذي مثل فيها مخرجنا دور البطولة، وكان أيضا مساعدا للمخرج الناظوري الكبير الحسين قمري بالإضافة إلى مسرحية"رسالة وألف"....ومسرحية " وقوفا على الأقدام" التي شارك فيها فخر الدين العمراني تمثيلا وإخراجا ، و مسرحية"مجنون في بيتنا " من تأليف محمد واعلي وإخراج فخر الدين العمراني. وقد شهدت هذه المسرحية حضور العنصر النسوي لأول مرة بالمدينة، وكانت المسرحية فرصة لظهور عدة كفاءات مسرحية بالمدينة وخاصة المخرج القدير فاروق أزنابط....

ولكن أهم حدث ستعرفه مدينة الناظور هو ولادة أول مسرحية أمازيغية باللغة الريفية كان عنوانها" إيرحگد أميثناغ/ وصل ابننا" أواخر سنة 1978م، وكان تأليف المسرحية جماعيا في حين تولى الأستاذ فخر الدين العمراني مهمة الإخراج السينوغرافي. وقد عرضت المسرحية في نواحي إقليم الناظور كميضار و العروي وزايو وبني سيدال وفي سينما الريف بوسط المدينة . وبعد أشهر قليلة ستشهد مدينة الناظور عملا مسرحيا أمازيغيا ثانيا وهو"إيهواد أو كامـﯧاوي غار ﯧاسـﯧور/ هبط البدوي بحثا عن جواز السفر" أنجزته جمعية زرياب للموسيقا والمسرح.

ونظرا لرغبته في تعميق معارفه المسرحية والسعي نحو امتلاك ثقافة درامية على أسس علمية، اضطر فخر الدين العمراني إلى السفر حيال الدار البيضاء للالتحاق بالمعهد البلدي للغناء والرقص والفن المسرحي الذي قضى به سنتين زاخرتين بالتعلم والتكوين المستمر والتحصيل على أيدي أساتذة أكفاء من الوطن وخارجه. فاطلع المبدع فخر الدين العمراني على تخصصات دقيقة وخاصة في مجال الإخراج والسينوغرافيا وكيفية إدارة الممثل وتشغيل جسده حركيا" الكيوغرافيا". وبعد عودته إلى مسقط رأسه، شرع مخرجنا في تطبيق ماتم استحصاله وتعلمه من خلال تكوين الممثلين وإعدادهم وتهيئتهم حركيا وركحيا. وقد تأتى له هذا المطمح الفني عندما وجد أرضية خصبة في مجال التعليم الذي سمح له بأن يجسد كفاءته الإخراجية والتنشيطية عبر الاحتكاك اليومي مع التلاميذ والطلبة الراغبين في صقل مواهبهم المسرحية. ومن هنا نقول بكل صراحة بأن الأستاذ فخر الدين العمراني هو المؤسس الحقيقي للمسرح المدرسي بالناظور حيث راهن على القطاع الطلابي في غياب التجهيزات الأساسية ، وقد أبلى فيه البلاء الحسن.

وفي انعدام التجهيزات الضرورية لانطلاق الفعل المسرحي في مدينة الناظور وغياب وزارة الثقافة كانت ثانوية حمان الفطواكي بمثابة شبه معهد مسرحي بحكم الأعداد الكبيرة من هواة المسرح الذين تخرجوا منها وأصبحوا أطرا فاعلة في جمعيات ثقافية وفنية. وساهمت هذه الثانوية النشيطة في تقديم مسرحيتين عرضتا في القناة التلفزة المغربية الأولى وبالخصوص في عهد مديرها الفنان سعيد الجراري، وهاتان المسرحيتان هما:" المفاخر/ 1990" و" وطن التحدي/1987" من تأليف المدير نفسه وإخراج الأستاذ فخر الدين العمراني ، دون أن ننسى المشاركة الرائعة لفرقة الناظور في المهرجان الأول للمسرح المغاربي سنة 1991م في مدينة بنسليمان بالمغرب. و في هذه الفترة بالذات، قدمت الثانوية المذكورة سابقا مسرحية أمازيغية نالت إعجاب الحاضرين وكانت بعنوان: "أوسان ن- رباشور /سنوات التين" ، تألق فيها كل من الممثلين: محمد العبدي، وسعيد السعيدي وكانت أول مشاركة لهما. ومن بين من تميزوا في هذه الإعمال المسرحية الشاعر بوزيان حجوط ومحمد المسعودي ورشيد حساين ورشيد الطاهري ونور الدين عالو الذي كانت له مشاركات سينمائية بهولاندة. كما كان للعنصر النسوي حضور لافت للانتباه، وهنا نستحضر بعضا منهن كبشوش خديجة ونعيمة بلگنش ورجاء الــگطاري وحياة بنشلال وسهام بوبنان ونعيمة صبار...

ويعد فخر الدين العمراني أول من دعا إلى تأسيس إطار نقابي يجمع المسرحيين الأمازيغ، واعتبره مطلبا حيويا يجب تفعيله وأجرأته ميدانيا حتى ينسلخ الكادر﴿الإطار﴾ المسرحي عن الوصاية الثقافية الرسمية.

3- المرجعيات النظرية والتناصية:

تأثر المخرج فخر الدين العمراني بعدة مصادر ثقافية وفنية كما تأثر بشخصيات مسرحية كان لها صدى كبير في أعمال مخرجنا المتميز كتوجيهات ومقترحات وتصورات كما هو الحال مع الشاعر القدير الحسين القمري وسعيد الجراري والمرحوم الحامي الطيب على المستوى المحلي، والطيب الصديقي الذي أهله للتمثيل والإخراج عبر ورشة تكوينية في مخيم المعمورة بالرباط سنة 1977م، وعبد الرحمن بنزيدان ومحمد بلهيسي وعبد الصمد دينية والمرحوم محمد الكغاط على المستوى الوطني في شكل أوراش تدريبية نظرية وتطبيقية ، وعلى المستوى الدولي تعلم على يد المخرج الهولندي البارز دراگان كلارك Dragan Klaik، والمسرحي داڤيد ييليس David Eeles.

كما استند المخرج فخر الدين العمراني إلى عدة نظريات درامية لكتاب المسرح العالميين كستانسلافسكي وبريخت وبتر بروك وگروتوفسكي...

ومن المسرحيين العرب الذين تأثر بهم مخرجنا نذكر: زكي طليمات وعلي الراعي ونعمان عاشور وسعد الله ونوس ومحمد الماغوط وسعد أردش ومحمد مندور وعبد القادر علولة....

4- التأطيــــــر والتكوين:

ساهم المخرج فخر الدين العمراني في تأطير شباب مدينة الناظور بشكل جدي، وذلك بصقل مواهبهم بطريقة حرفية قائمة على أسس علمية ومرنكزات فنية . وقد عرفهم بنظريات التمثيل والأداء الدرامي من خلال فعل التمسرح الركحي عبر ورشات وحلقات تكوينية تنصب على الجانبين: النظري والتطبيقي. كما أهل مجموعة من الممثلين والمخرجين الذين أصبحوا كوادرفي المجال التمثيلي محليا ووطنيا كمصطفى بنعلال والطيب المعاش ورشيد العبدي الذي يعده مخرجنا شهيد المسرح الأمازيغي بمنطقة الريف ، وفاروق أزنابط وسعيد السعيدي وسعيد المرسي ولويزة بوسطاش ووفاء مراس وجيهان أقوضاض وسهام الفزازي ونسيم الماحي وأنيس العجوري ومحمد ختاش وسهام الشلحي وتايتاي محمد...
وقد حصد العمراني بفضل هذه المواهب على عدة جوائز جهوية ووطنية بمسرحيات عربية وأمازيغية نذكر منها: " لماذا؟/ 1994" التي عرضت بوجدة، ومسرحية" نداء الأطفال للعالم" ، وهي من تأليف الحسين قمري، قدمت في المهرجان الوطني الرابع بأگادير سنة 1996م، وحصلت على الجائزة الأولى في السينوغرافيا، ومسرحية" سفينة نوح" التي قدمت بالناظور سنة 1997م في إطار المهرجان الوطني الخامس التي حصلت بموجبها على الجائزة الكبرى للمهرجان وجائزة أحسن إخراج. كما حاز المخرج على تنويه في مهرجان الرباط الدولي الرابع سنة 1999م بمسرحية "أرياز ن- وارغ/ رجل من ذهب" من تأليف أحمد زاهد وإخراج فخر الدين العمراني.

هذا، وقد عمل المخرج على إثراء الحركة المسرحية بإقليم الناظور وتفعيلها من خلال تأطير الممثلين وتكوينهم عبر حلقات انتقائية Casting لاختيار أجود الممثلين وأصلحهم للخشبة الدرامية للاشتغال في مسرحيات عربية وأمازيغية وخاصة مسرحية" نحن أحفاد ماسينيسا" للدكتور جميل حمداوي، ومسرحية" يوغرطة" للشاعر محمد العوفي. وكان هذا الانتقاء الدرامي سابقة في الناظور من ناحية الفكرة وعدد المساهمين والحاضرين وذلك سنة 2005م.

5- العروض السنوغرافية الأمازيغية:

أ‌- مسرحية "إرحگد أميثناغ/ وصل ابننا":

تعد أول مسرحية أمازيغية بمنطقة الريف بالمفهوم العلمي للمسرح إذ عرضت سنة 1978م بخمس مناطق تابعة لإقليم الناظور. وتتمحور هذه المسرحية حول ظاهرة الهجرة والإكراهات المفروضة التي تحول دون الحصول على جواز السفر بهذه المنطقة في تلك الفترة لأسباب بيروقراطية وسياسية تترج لنا الفساد الإداري والأمني في مغرب السبعينيات. وقد تم تأليفها بطريقة جماعية وأخرجها الفنان المبدع فخر الدين العمراني. وقد شارك في أداء أدوارها التمثيلية كل من مصطفى بنعلال ورشيد العبدي ومحمد العربي وأزنابط فاروق وعبد الكريم بنقل....

ب‌- مسرحية "أوسان ن- رباشور/ سنوات التين"

قدمت هذه المسرحية سنة 1989م بثانوية حمان الفطواكي وبدار الشباب بالناظور. وترصد هذه المسرحية ظاهرة الخرافة وانتشار الشعوذة في الوسط المجتمعي الريفي بسبب انتشار الأمية والجهل. وتنتهي هذه المسرحية بالدعوة إلى التسلح بالعلم والثقافة والمنطق لمحاربة كل الظواهر السلبية التي تفشت في المجتمع وهي من علامات التخلف والانحطاط. وقد أدى أدوارها الرئيسية كل من محمد العبدي وسعيد السعدي. وهذه المسرحية من فكرة الفنان القدير سعيد الجراري وإخراج فخر الدين العمراني.

ج- مسرحية " ثوف ثقان/ انتفخت حتى انغلقت":

عرضت هذه المسرحية سنة 1994م في كل من الناظور ﴿ أربعة عروض﴾ والحسيمة. وهي من تأليف الأستاذ محمد الطلحاوي وسينوغرافيا محمد العمالي وإخراج فخر الدين العمراني. وهذه المسرحية عبارة عن عرض فردي منودرامي كان بطلها الأساسي هو سعيد السعيدي. وتتحدث المسرحية عن رجل تعليم تم تعيينه بمنطقة نائية حيث سيعاني الويلات والمشاكل المادية والمعنوية؛ مما سيستغل من قبل مافيا الانتخابات والمال الفاسد لينوب عنهم في الإفصاح وتبليغ ديماغوجية الجماعة المستغلة- بكسر الغين- ودغدغة المواطنين والجماهير الشعبية مقابل مصالح شخصية وعود إدارية وتسويفات طموحة . ونظرا لجهله بشرائع الإدارة وتقنياتها، سيكون ضحية لتلاعبات مفضوحة ولقمة سائغة في فم لوبي الفساد الذي يتربص بالبلاد والعباد. إلا أنه في الأخير سينتهي به المآل إلى نهاية مأساوية فظيعة.

وقد استثمر المخرج لأول مرة أدوات تقنية حديثة كآلية الانعكاس الضوئي ومصلاط الصور على مستوى الإخراج والسينوغرافيا.

د- مسرحية" أرياز ن- وارغ/ رجل من ذهب":

تتضمن مسرحية "أرياز ن- وارغ/ رجل من ذهب" عقدتين دراميتين وهما: العقدة التاريخية والعقدة الرومانسية. وهذا النمط من البناء المسرحي يذكرنا بمسرحيات ڤيكتور هيگو التي كان يجمع فيها بين المواضيع السياسية/التاريخية والمواضيع الرومانسية مثل: مسرحية هرنانيHERNANI والتي خرج بها عن قواعد ومعايير المسرح الكلاسيكي الغربي.

على المستوى التاريخي، تحيل المسرحية على فترة الاحتلال الإسباني لمنطقة الريف حيث استهدف الغزاة إذلال الريفيين المغاربة واستنزاف خيراتهم. بيد أن مقاومة عبد الكريم الخطابي كانت لهم بالمرصاد، وكانت مقاومة شرسة ، ألحقت بجحافل الجيش الإسباني عدة هزائم وخاصة في معركة" َضهار أبران" ومعركة "أنوال". وتنقل لنا المسرحية أجواء هذه المعارك البطولية وتتبع الإسبان للمجاهدين الريفيين والمقاومين الشرفاء بالمحاكمة والأسر والإعدام والقتل مستغلة في ذلك بعض الخونة والجواسيس من أهل الريف وبعض البياعة الذين لا شرف لهم ولا كرامة كالخائنين أقرقاش وبويوزان...

وهكذا تبدأ المسرحية بمشهد رومانسي جميل يصور فيه المؤلف علاقة حب شريفة بين كائنين متحابين: شابة ريفية جميلة" خدوج" تلتجئ إلى بئر القرية لاستجلاب الماء في زيها الريفي التقليدي بوقارها ودلالها الذي ينم عن الأنفة والعز والكرامة والحياء، ومناضل ريفي شاب يعرف كل أسرار المقاومين وتحركاتهم الميدانية في ساحة المعركة، لكنه يتصف بالمروءة والوفاء والصدق والروح الوطنية الصحيحة والحقة، ويتظاهر أمام الجميع على أنه أبله معتوه . يكن الحب لحسناء القرية ويجلها احتراما وإخلاصا ويضمر لها عاطفة الارتباط الوفي المبني على العهد والميثاق الشرعي كالذي يكنه لأرضه وبلده ولغته وحضارته ودينه.

وفي المشهد السنوغرافي التالي، يظهر الجاسوس أقرقاش الذي كان خادما وعميلا وفيا لحكام إسبانيا وقادتهم العسكريين محاولا إغراء هذا الرجل الريفي المقاوم "عمرو"الذي يبدو في المسرحية رجلا ساذجا لا يفهم شيئا و يبدو أنه لا خبرة له بالحياة و أحابيل الحب. يستخدم معه القائد أقرقاش جميع وسائل الإقناع والترغيب والترهيب من أجل أن يخبره بمواقع المجاهدين و مخابئ أسلحتهم. لكن متهمه كان أكثر ذكاء منه، كان دائما يحاول التهرب من أسئلته، و يراوغه بطريقة تظهره أنه أحمق أو ساذج ضعيف فيوقعه في شرك الجنرال العسكري الذي يشبعه سبا وشتما وتقريعا على تهاونه وفشله في الاستنطاق و الوصول إلى الحقيقة . وأمام فشل عمليات الإغراء والتعذيب والاستخبار العسكري الذي يشارك فيه القائد الجاسوس والجنرال العسكري، يجر هذا المقاوم الوفي إلى الأسر والمحاكمة والإعدام. وتنتهي المسرحية بإيقاع تراجيدي يجسد مدى صدق الرجل ووفائه لحبه ووطنيته وتمسكه بأرضه إلى درجة الموت. إنه بخصاله السامية وأخلاقه النبيلة وخلاله الكريمة، يستحق عمرو الأمازيغي الريفي هذا الرجل البطل الصامد أن يلقب بـــ" رجل من ذهب/ ارياز ن- وارغ" بالمقارنة مع الجواسيس والخونة من أهل ملته ولغته.

هذه المسرحية من تأليف أحمد زاهد وإخراج الأستاذ فخر الدين العمراني الذي أظهر كفاءة سينوغرافية ومقدرة كبيرة في توجيه دفة الأحداث وتنوير المسرحية دراميا من خلال الاشتغال على الموروث الأمازيغي المحلي والوطني والعالمي . إذ وظف المخرج أغنية"لايارا لابويا"، ورقصة الفلامنكو الإسبانية، كما استعمل تقنيات المسرح الاحتفالي ، وتكسير الجدار الرابع وتوظيف الحكم والأمثال والمنودراما والأغنية والشعر واستقراء التاريخ والتركيز الضوئي على الشخصيات إرصادا وتبئيرا. كما تفنن المخرج في تنويع اللوحات وإطارات الديكور، حيث ننتقل باعتبارنا مشاهدين من فضاءات ريفية رومانسية حميمية تحيل على الحب والصدق والوفاء والانتماء إلى الأرض والحفاظ على العادات والتقاليد إلى فضاءات عسكرية إرهابية إسبانية ذات دلالات عدوانية( الإدارة، الاستنطاق، الأسر، الزنزانة ، الإعدام...).

وقد لونت المسرحية بألوان متداخلة تعبر عن مشاعر متناقضة تترجم: الحزن والأمل، اليأس والتفاؤل. فهناك البياض الذي يعبر في زرقته المائية عن الحب والسعادة، والسواد الذي يحيل على عمليات الاستنطاق وما ينتظر المجاهدين والمناضلين من تعذيب وسجن وترهيب، واللون الأحمر الذي يؤشر على الموت وتصفية أبناء المقاومة وشرفاء الأرض المجاهدة في سبيل الحرية والكرامة الإنسانية.

وقد عرضت هذه المسرحية الناجحة لأول مرة سنة 1999 في المهرجان الدولي الخامس بالرباط الذي حضرته أكثر من ثلاثين دولة. وهذه المرة الأولى التي يشارك فيه العرض المسرحي الأمازيغي في تظاهرة دولية كبيرة من هذا الحجم. وبعد ذلك عرضت المسرحية في مناطق مغربية أخرى كالناظور والعروي والحسيمة، و عرضت كذلك في هولندا سنة 2005م( أمستردام وروتردام واوتريخت وآيدن....) استجابة لجاليتنا المغربية ، ولاسيما الجالية الأمازيغية في أرض المهجر.

ومن الممثلين الذين شاركوا في إثراء هذه المسرحية ركحيا نستحضر: لويزة بوسطاش في دور أم عمرو، وسعيد المرسي في دور القائد الجاسوس ،والحسن العباس في دور الجنرال الإسباني، ونسيم الماحي في دور عمرو، ووفاء مراس في دور خدوج والطيب معاش في دور أقرقاش. وقد تولى هندسة الإضاءة مصطفى الخياطي، كما سهر الفنان عبد السلام بوكلاطة على هندسة الملابس و تفاصيل الخياطة وذلك بمراعاة سياق الأزياء من الناحية التاريخية والاجتماعية.

وقد أعيد إخراج هذه المسرحية مرة أخرى من قبل المخرج فاروق أزنابط . ولقد استفادت هذه المسرحية بدعم مادي ومعنوي من قبل المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية وبتنسيق مع وزارة الإعلام والاتصال فتم عرضها على شاشة التلفزة المغربية في شهر رمضان المبارك لسنة 2006م. بيد أنها باءت بالفشل الذريع في نسختها الإخراجية الثانية.

وعليه،فمسرحية " أرياز ن- وارغ/ رجل من ذهب" مسرحية أمازيغية ريفية احتفالية مركبة وبوليفونية متعددة اللغات والأصوات والخطابات، وتراجيديا إنسانية يتقاطع فيها الحب والموت من خلال ماهو تاريخي وماهو رومانسي. كما أن هذه المسرحية تبين تطور المسرح الأمازيغي بمنطقة الريف موضوعا وفنا وتشكيلا وسينوغرافيا.

هـــ - مسرحية" نشين نسّا/ نحن من هنا":

عرضت هذه المسرحية الأمازيغية في قاعة نيابة التعليم بالناظور يوم 10/08/2005 بمناسبة يوم المهاجر ضمن المهرجان الفني والثقافي الأول الذي نظمته المدينة وستنظمه كل صيف.

تنبني مسرحية" نشين سّا/ نحن من هنا" على ثلاثة فصول أو لوحات مترابطة عضويا ودلاليا مع اختلاف الديكور والسينوغرافيا من فصل إلى آخر. وقد كتبها الأستاذ الدكتور عبد الخالق كربيلا وأخرجها الأستاذ المتميز فخر الدين العمراني. وتضم مجموعة من الممثلين المحترفين والهواة الذين انساقوا وراء لذة المسرح وشهوة التمسرح والتمثيل. وعرضت المسرحية باللغة الأمازيغية الريفية، وتتناول قضية الهجرة وسماسرة السراب وقوارب الموت ووضعية المجتمع المتردية وبطالة الشباب والاستغلال والرشوة والآفات السلبية المنتشرة في البلاد وما عرفته منطقة الريف من تهميش وإقصاء.

يبدأ الفصل الأول أو اللوحة الأولى بظهور السارد المجذوب الذي يندب ولديه الذين غرقا في البحر، ويبدأ في التأمل وإرسال وابل من النصائح والحكم. وبعد ذلك يدخل ممثلان: أحدهما يمثل مثقف المدينة( رشيد معطوﮔ )، والآخر الإنسان الساذج( بوزيان حجوط) فيستمعان إلى حديث المجذوب الأبله الذي يشير إلى وضعية ماسين أو ماسينيسا الذي عركته مياه البحر غرقا وموتا وألقى به إلى الشاطئ أشلاء وعظاما. ومن ثم، يدور الحوار بين الطرفين حول مآل ماسين وهروبه إلى الضفة الأخرى بعد حصوله على شواهد عليا وما أصاب أمه ديهية من جنون وهذيان بعد سماعها بغرق ابنها وأملها الكبير في عودته يوما ما. لكن يرفض المثقف هذا الحل الهروبي ويثور على الذين يستغلون ثروات البلاد ويقفون كالصخور العائقة في طريق التنمية والتقدم والازدهار، ويدفعون الشباب إلى الموت وقوارب الفناء بعد أن ينهبوا أموالهم ويمتصوا دماءهم وعرق جبينهم. كما يطالب هذا المثقف الغيور الشباب بأن يهتموا بالعلم والثقافة والتشبث بالأرض والحفاظ على الهوية الأمازيغية كما تفعل ديهية التي تعيش من أجل أولادها وشعبها وتدافع بكل مالديها من أجل وطنها وأرضها.

وفي اللوحة الثانية، نجد أنفسنا أمام سمسرة براغماتية لتهريب الشباب نحو الضفة الأخرى التي انتهت بفضح الوسيط المهرب الذي يصدر أرواح البشر إلى مجاهل البحر، ويأخذ أموالهم بعد أن يمنيهم بالسعادة وجنة الفردوس وما ينتظرهم من جاه ورفاهية في الشاطئ المقابل. وفي هذا المنظر، سينتفض الكل على المهرب الكاذب وسيسلطون عليه جام غضبهم وسينهالون عليه بأبشع الشتائم والسباب.

وفي اللوحة الثالثة، يستحضر المخرج مشهدا جسديا ميميا وسيميائيا، ولكن في معزل عن السياق الدرامي، وإن كان يدل على لحظة الصراع الإنساني والتوتر الدرامي. بيد أن توظيف هذه الصورة الجسدية لم تكن واضحة أو مفهومة داخل المسرحية. وبعد ذلك، ننتقل إلى البعد الرمزي في المسرحية وطابعه الأسطوري والفانطاستيكي والتاريخي، إذ يستقدم المجذوب السارد عبر لحظة الاسترجاع صورة ملك ماسيبنيسا الذي يحث الأمازيغيين على العلم والبحث والتشبث بالهوية، ويدخل كذلك في حوار مع روح البحر الذي أخذ من السارد التائه فلذتي كبده. لكن البحر سيعاتبه كثيرا بأنه بريء ولا يرضى أبدا بسبه وشتمه له في كل لحظة وأخرى، وأنه لا دخل له في إغراق البشر، وأن الإنسان هو عدو لأخيه الإنسان. وفي الأخير، سيعترف المجذوب بأن البحر كان دائما صديقا للأمازيغيين وأن الثعابين الآدمية هي المسؤولة عن ذلك. وتنتهي المسرحية بقرار إحراق قوارب الموت بالتنوير والعلم والتثقيف ومحاربة سماسرة السراب ووسطاء الموت والاستغلال وأعداء الحرية والتنمية والازدهار.

هذا، ولقد أظهر المخرج فخر الدين العمراني كفاءة كبيرة في تسيير دفة الإخراج وعرض المسرحية عن طريق التحكم في الإضاءة والصوت وتوزيع الأدوار واختيار الممثلين، بل أضفى على النص جمالية رائعة على الرغم من ضعف النص في الفصلين الأولين بسبب التقريرية والسطحية والكلام المباشر. لكن في الفصل الأخير، نجد نوعا من الرمزية والتشكيل الأسطوري والعجائبي وتوظيف الموروث الدرامي أو التاريخي الأمازيغي.

وفضائيا، نجد تقابلا بين البر والبحر، أو بين الفضاء المغلق المسيج بالاستغلال والآفات السلبية والفضاء المائي المفتوح المحاط بالأسرار والمخاطر والموت والمستقبل المجهول. ويصبح هنا شاطئ البحر فضاء دراميا أساسيا يؤشر على التوتر والموت والصراع الدرامي والهروب نحو الضفة الأخرى. أما زمنية المسرحية، فيتداخل فيها الماضي والحاضر والمستقبل، لكن يبقى الليل هو إطار الأحداث، لأنه يحيل على الهروب والسكون والأحلام والحزن والموت.

ويلاحظ على الحوار استخدام ألفاظ غير أخلاقية وغير مهذبة مثل: "أهـﮔار/الكلب" و" يمّاش/ أمك"، وتوظيف قاموس لغوي قدحي ذي ألفاظ سوقية سطحية منتزعة من الشارع لاتخدم من قريب أو من بعيد درامية المسرحية ولا تنسجم مع ذوق المتلقي. ويعني هذا أن المسرحية ينبغي ألا تخيب أفق انتظار المتلقي من ناحية اللغة واختيار المعجم الأنسب في التواصل والتخاطب.

ومن حيث التقنيات الإخراجية، وظف المخرج الأستاذ فخر الدين العمراني السارد المجذوب على غرار المسرح اليوناني le chœur والمسرح الاحتفالي ( مسرحيات الطيب الصديقي وعبد الكريم برشيد ومسرح الـﮔوال عند عبد القادر علولة)، واستخدم كذلك تقنية التغريب وتكسير الجدار الرابع( عودة ماسينيسا). أما الديكور فهو ديكور طبيعي وواقعي( أيقون الوطن، أيقون القصب الذي سيج المقهى، أيقون روح البحر). ولكن لم يحسن المخرج اختيار الملابس السينوغرافية التي تشخص لنا صورة روح البحر، ولو استطاع المخرج توظيف جدارية البحر لأصبحت صورة إخراجية رائعة. كما استعان المخرج بأشرطة موسيقية تحيل على الهجرة كشريط الوليد ميمون وعلال شيلح. وكنت أفضل أن يترك الممثلين هم الذين يرددون تلك الأغاني والأناشيد المأساوية، ناهيك عن توقفات غير مقبولة على المستوى التلقي أثناء تغيير الديكور التي كانت تستغرق ربع ساعة من الانتظار الرتيب.

ومن الممثلين الذين أتقنوا دورهم نجد: مصطفى بن علال في دور المجذوب، ويبدو أن له قدرات مسرحية عالية تنم عن كفاءة احترافية مستقبلية رائعة، ورشيد معطوﮔ في دور المثقف الذي يمتلك موهبة فنية مدهشة، وبوزيان حجوط الذي أظهر قدرات تمثيلية واعدة بالعطاء وحب التمسرح، وزهير عارف في دور الراغب في الهجرة. أما حلي ميلود فلقد أتقن دور المهرب واستطاع أن يتقمص دور الشر ونجح في عرضه المسرحي أيما نجاح؛ إذ أوصل إلينا كل ملامح شخصيته بكل إتقان وروعة. ولا ننسى الممثل اليزيدي( عنتر) الذي قام بدور فكاهي أثار به ضحك الجمهور على الرغم من سوداوية المسرحية وبعدها المأساوي. وقد قامت الشخصيات النسائية( مصلوحي سميرة، ماجدة بناني، روعة) بأدوار جيدة تنم عن الحب الشديد للتمثيل وفعل التمسرح.
وفي آخر المطاف، أعتبر مسرحية" نشين نسّا" مسرحية أمازيغية تدين قوارب الموت والاستغلال والبيروقراطية والبطالة، وتلعن سماسرة السراب ووسطاء الدم والمال. وتدعو المسرحية بالمقابل إلى العلم ومحاربة التهميش والإقصاء وفضح أعداء الوطن، كما تدعو إلى الحفاظ على الكينونة والتشبث بالهوية والاهتمام بالموروث الأمازيغي. وعلى الرغم من تقريرية المسرحية وخطابها المباشر، فقد استطاع المخرج فخر الدين العمراني أن يلبسها ثوبا سينوغرافيا رائعا تدل على مدى قدراته الكفائية في الإخراج وكتابة التمسرح.

خاتمة:

ونستنتج مما سبق ذكره ، أن فخر الدين العمراني سيبقى معلمة خالدة في مجال الإخراج والسينوغرافيا بإقليم الناظور بصفة خاصة والمغرب بصفة عامة ؛ لما قدمه من أعمال فنية ممتعة وعروض مسرحية بارزة سواء باللغة العربية الفصحى أم باللغة الأمازيغية الريفية، و التي شدت انتباه الجماهير إليها كثيرا لجودتها الفنية وروعتها الدرامية . كما يمكن أن نعتبره رائد المسرح المدرسي والمؤسس الحقيقي للمسرح الأمازيغي، وأول من وظف طريقة "الكاستينغ" في اختيار الممثلين وتأطيرهم ليكونوا رجال الغد وأطرا نافعة للمسرح والسينما والتنشيط الإذاعي كما أنه من الرجال المثقفين المخلصين الذين ساهموا بكل صدق وجدية ومثابرة في إثراء الحركة الثقافية والفنية في مدينته المهمشة والمنسية ألا وهي مدينة الناظور.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى