الجمعة ١٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧
بقلم جميل حمداوي

ديوان" نهر الأطلسية" للشاعر المغربي محمد لقاح

كل من أراد أن يدرس الحركة الشعرية في المنطقة الشرقية بالمغرب الأقصى لابد أن يستحضر مدرسة آل لقاح التي تتكون من مجموعة من الشعراء والفنانين والمثقفين المتميزين على رأسهم الأب الأستاذ الفاضل و الشاعر الرائد ألا وهو محمد لقاح والأبناء وهم: عبد الناصر لقاح وعبد القادر لقاح وعيسى لقاح وميلود لقاح والفنان التشكيلي الرائع صفوان لقاح. إنها مدرسة أوسية جديدة في أدبنا العربي، بيد أنها مدرسة آل لقاح التي تتميز بكتابة شعرية ذات نفس قصير، ولكنها كتابة موحية فصيحة وبليغة تحترم خصائص اللغة العربية نحوا وصرفا وعروضا وبلاغة، وتنسجم مع توقعات وأفق انتظار القارئ على مستوى التقبل الذي يرتاح إلى النص القصير الجيد، إذ لاترهقه هذه المدرسة الشعرية الجديدة في أدبنا المغربي الحديث بالنصوص الطويلة المملة والأشعار الغامضة المعقدة المبهمة المجردة، فالكلام عند رواد هذه المدرسة ماقل ودل وما كان واضحا، ولكنه كلام شاعري موح يغلب عليه التضمين والتصوير بدلا من التقرير والكلام المباشر. .إذاً، ماهي مميزات ديوان" نهر الأطلسية" لمحمد لقاح دلالة وتشكيلا؟ وماهي عتباته النصية وأبعاده المرجعية؟

أ- النــــــص المــــــوازي:
1-حيثيــــــات النشـــــــر:
صدر ديوان " نهر الأطلسية" للشاعر محمد لقاح في طبعته الأولى سنة 2004م عن مطبعة المتقي برينتر في حجم قصير مقاسه (14سم في10 سم) . ويضم مائة صفحة وست عشرة قصيدة شعرية. وهذا الديوان يمثل الحلقة الرابعة ضمن سلسلته الإبداعية التي تشمل: ديوان "هذا العشق ملتهب"(1980)، وديوان "سأفتح باب فؤادي"(1998)، وديوان" ثلاثية الحنين المهرب"(1998).
وقد كتبت قصائد ديوان" نهر الأطلسية" مابين 1983 و1996م وهي فترة عرف فيها المغرب أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية خطيرة بعد تطبيق سياسة التقويم الهيكلي التي أثرت على الشعب المغربي وعلاقاته الإنسانية سلبا وبشكل فظيع، ودفعت كثيرا من المغاربة وخاصة الشباب إلى البطالة فالهجرة ثم الاغتراب ذاتيا ومكانيا.

2-عتبة المؤلف:
يعد محمد لقاح من شعراء القصيدة التفعيلية في الشعر المغربي المعاصر بصفة عامة، و من الرواد المؤسسين لهذه القصيدة في المنطقة الشرقية بصفة خاصة إلى جانب ثلة من الشعراء المحترمين المقتدرين كحسن الأمراني ومحمد علي الرباوي وعبد الرحمن بوعلي ومحمد منيب البوريمي والحسين قمري ومحمد فريد الرياحي ومحمد بنعمارة وعبد الرحمن عبد الوافي.
وإلى جانب كونه أستاذا فاضلا ومربيا ناجحا كان سباقا إلى ترجمة المناهج النقدية من الفكر الغربي إلى الفكر العربي كما يبدو ذلك واضحا في كتابه"البنيوية والنقد الأدبي" الذي نشر سنة1991م، وبذلك يعتبر الأستاذ محمد لقاح مع الدكتور عبد الرحمن بوعلي من السباقين في الجهة الشرقية إلى الاهتمام بفعل الترجمة وممارستها في فترة كان كل المثقفين المغاربة متعطشين إلى ماهو جديد في الأدب والنقد.

3-عتبة العنوان البصري والأيقوني:
يتربع العنوان الخارجي" نهر الأطلسية" في وسط الديوان برفقة الصورة التشكيلية التي رسمها ابن الشاعر الفنان صفوان لقاح الذي رسم معظم قصائد شعراء مدرسة آل لقاح ودواوين منشورات مطبعة مؤسسة النخلة بمدينة وجدة المغربية.
وتوحي الدلالة المباشرة لكلمة الأطلسية بالشوق والغزل والحب العذري للمرأة المعشوقة، بيد أن السياق النصي يوحي بدلالة أخرى رمزية وأسطورية وهي الدلالة الوطنية ودلالة الهوية والكينونة الأنطولوجية. فكلمة الأطلس عبارة عن رمز أسطوري يوناني يشير إلى ذلك البطل المغوار الفانطاستيكي الذي أوجد المغرب بجباله الشامخة العتيدة الدالة على البطولة والتحدي والصمود. وترد الكلمة الرمز في الديوان بمعنى الوطن /المغرب. ومن المؤشرات الشعرية الدالة على ذلك المقطع التالي:

اسمها يزهو على كل لسان...
في هتاف
وشعار
وقصائد
وطقوس موسمية،
جرحها آه!تمادى في الجرائد
وغدا النزف رهانا يتدنى
في الدواعي المستريبه،
والذي مارس يدري...
أن هذي الأطلسيه
سكنت عمق الأحاسيس النبيله
.......
ياصحابي
نحن عشاق ولكن
حين يغدو العشق زيفا
وفصولا من حكايات قديمه،
حين يغدو الزيف عرفا
وتواريخ عقيمه
تشمخ الأحزان فيها والهزيمه
ينبغي أن نرفض اللهو ومالا يستطاب
فالذي يحيا بحب الأطلسيه
يرتجي كشف الحساب.(ص:7-9)

من خلال هذا المقطع الشعري، تتحول الأطلسية إلى مكان حميمي ندخل معه في علاقة شاعرية قوامها الحب والعشق الصوفي بالمفهوم الباشلاري للفضاء الشعري، ولكن هذا المكان سرعان ما يتحول إلى فضاء عدائي يرمينا بالحزن والمأساة وينخرنا بالاغتراب الذاتي والمكاني.

ويلحق العنوان الخارجي بصورة تشكيلية محاكية للطبيعة الواقعية ولكنها تتخذ ملامح انطباعية تغمرها إحساسات وجدانية رائعة ذات رقة وعذوبة رومانسية ممتعة. وتستند الصورة الأيقون إلى مجموعة من المكونات المجسدة وهي المرأة والنهر والشمس والأرض. وهي عناصر طبيعية تشكل الرؤية الرومانسية الفطرية ولكن المرأة في اللوحة ترد بأبعاد رمزية تحيل على المكان أو الوطن. ومن هنا نسجل تقاطعا داخل الديوان الشعري بين الرومانسية والواقعية الانتقادية.

4-العناوين الداخلية:
من خلال التعيين الجنسي للكتاب، يتبين لنا أن هذا الأثر الأدبي عبارة عن شعر ونظم إبداعي ينبغي أن يعامل في هذا الإطار الشاعري. وتحيل العناوين الداخلية المفهرسة على مجموعة من التيمات كتيمة المكان( سبتة، والنهر، ووطن الأهواء المشتبكة، وزرهون ، وتازة وجد يتألق، والجدران)، وتيمة الاغتراب كما في صفحات من سفر المعاناة والغربة ، ومحاورة الوجوه المستعارة، والتروبادور الضليل، وتحولات يوسف المغربي، ونخاف عليه ومنه نخاف، وعبور، وكلمات متقاطعة،وانشري سرك، وكان صديقي.

ونصل عبر هذه العناوين الداخلية إلى أن الديوان تشكله ثنائية المكان والاغتراب؛ مما يضفي على شعر محمد لقاح رؤية مأساوية تتقاطع مع الرؤية الوطنية. وبذلك يختزل لنا الديوان نصوصه الشعرية في عبارة مجملة وهي: معاناة الشاعر من الاغتراب الذاتي والمكاني.

ب- النص البؤري:
1-المستوى الدلالي:
يحبل الديوان الشعري برؤيتين متقاطعتين: الرؤية الوطنية والرؤية المأساوية. ويعني هذا أن الشاعر يعزف على إيقاع الألم والأمل، والمكان والحزن، والحب والغربة. وهذه الرؤية الاغترابية الممزوجة بالروح الوطنية نجدها ميسما مشتركا بين جميع شعراء المنطقة الشرقية وشعراء المغرب في تلك الفترة العصيبة من تاريخ المغرب مابعد الاستقلال و إبان سنوات السبعين والثمانين من القرن الماضي. فالمواجهة والتأسيس التي تحدث عنها كثيرا عبد الله راجع في رسالته الجامعية" بنية الشهادة والاستشهاد" لاتتم عند الشاعر بالاستشهاد والنفي والاعتقال المادي والتعذيب السجني من قبل السلطات، ولا بالسقوط والانتظار كما عند محمد بنيس في كتابه "ظاهرة الشعر المعاصر بالمغرب"، بل تتم المواجهة هنا بالرفض والامتناع والثورة الشاعرية والتمرد عن الواقع بالكلمة الموحية . وليس التغيير دائما هو الذي يقترن فيه الفول بالفعل، بل قد يكون القول مؤثرا تقرأه الأجيال وتتخذه نبراسا للكفاح والنضال، وتجعله-بالتالي - وثيقة صادقة وراسخة لقراءة الواقع المغربي المستلب والمنبوذ. ما أريد توضيحه هنا أنه ليس من الضروري أن يخرج الشاعر إلى الشارع ليعلن بكاءه الثوري وتمرده الجاهر، بل يكفيه أن يتسلح بالكلمة الصادقة المتوهجة ليشعل النار في تبن الوطن ويحرقه بالإيحاء والرمز جهرا و نقدا لتغييره والصعود به نحو أفق مستقبلي ممكن أفضل من الواقع الكائن السائد.

ويتجلى البعد الوطني في تغني الشاعر بالأمكنة السليبة كسبتة التي تغنى بها سابقا الشاعر المغربي أحمد المجاطي ، وهناك من تغنى برديفتها مليلية المحتلة من قبل المستعمر الإسباني كما فعل محمد منيب البوريمي الذي خصص لها ديوانا شعريا كاملا. وتتحول سبتة عند الشاعر من مكان ذي أمجاد تاريخية إلى مكان مغتصب ليصبح حلما وطنيا في آخر القصيدة:

لفاتنة في الشمال الجميل
نؤكد أن الذي لا يحق يحق
ليعلن تاريخنا رشده
ويشهر سيف لنا حده
ويحضن أطلسنا مجده.
لها أن تضمد بالملح كل الجراح
وأن تسكت الرغبات بنار المواجد
وأن تستضيء بأحلامها في انتظار الصباح
وأن تسترد هويتها المدعاة،
هي الآن في الواجهه
تلملم أشلاءها
وتغالب كل الرؤى الشائهه
ليسلم في قلبها الانتماء الأصيل
وتبدأ رحلتها في اتجاه الوطن( ص:73)

هذا، ويتداخل الطابع التاريخي جدليا مع الاغتراب والحب الوطني ويتمظهر في كثير من النصوص الشعرية التي تشكل قصيدة المدينة التي ينظر إليها الشاعر محمد لقاح من خلال رؤية وطنية كما في زرهون وتازة ووجدة التي عبر عنها في قصيدته" النهر"...

ويعزف الشاعر سمفونية البكاء الحزين ويردد إيقاع المأساة والتراجيديا عندما يذرف عبرات الاغتراب الذاتي والمكاني، وحينما يرثي الإنسان الضائع في بلد ضائع كما في " صفحات من سفر المعاناة والغربة" التي يتفاعل فيها تناصيا مع عبد الوهاب البياتي ليصور لنا معاناة الإنسان وصراعه السيزيفي ضد الفقر والجوع والغربة والنفي والإقصاء والتهميش وتشخيص الصراع اللامتكافىء بين الشمال والجنوب وتهريب الوطن الذي أصبح رقعة مزيفة:

أتتنا المراحل غرثى فأغوى طريق
الشمال المعبد بالوهم والغربة
المشتهاة خطانا،
متى سنحط الرحال؟
وأي المرافئ تستقبل التائهين؟
وأي البلاد ستمنحنا دفئها بعد أن
عانقتنا دفئها بعد أن
عانقتنا المنافي وشردنا الهول
والوطن المتشنج عبر الرؤى الوثنية
تلك التي وسعت ضفة الحزن
ثم كست حلمنا بالسواد؟(ص11)

يحضر في هذا النص صلاح عبد الصبور بحزنه الدامي، وعبد الوهاب البياتي بتشرده المضني، و أحمد المجاطي بتسكعه التائه، وأمل دنقل بمأساته السوداء، ومحمود درويش بمنافيه العديدة. كما يحضر عبد الرحمن بوعلي الشاعر المغربي في قصيدة محمد لقاح تناصا وحوارا في قصيدته الرائعة "تحولات يوسف المغربي" التي تتغنى بضياع الإنسان والوطن والملل الوجودي والسأم الذاتي ونفاق الإنسان و انعدام الأخوة الحقيقية واستلاب الوطن وتغريبه من قبل الأقوياء وأسياد المال... وإذا كان عبد الرحمن بوعلي في قصيدته شاعرا وجوديا يائسا وشاكيا من رأسه إلى قدمه، فإن محمد لقاح كان شاعرا وطنيا ثائرا ومتمردا متفائلا يتغنى بالأمل والمستقبل المشرق بعد أن تغنى بالألم والسقوط والانهيار.

وعليه، فإن الشاعر ينعى في كثير من قصائده الإنسان الذي تحول في زمن الرفض في بلد الرفض والفقر والاغتراب إلى كائن معلب مستعبد مطحون بالقهر والجور، وذات ضائعة بين سراديب النفاق والفاقة والنفي والجوع والإقصاء والصراع الاجتماعي والتعطش المادي و البحث عن الأرقام الواهمة كما في قصائده : "وطن الأهواء المتشابكة"، و"كلمات متقاطعة"،و"الجدران"، و"عبور"، و"انشري سرك" التي تتناص مع قصيدة " رحل النهار" لبدر شاكر السياب و" نهاية السلم " لنازك الملائكة، و" محاورة الوجوه المستعارة"، و"كان صديقي"، و"التروبادور الظليل" الذي كان فيها الشاعر بياتيا ونيروديا حتى النخاع.

وتحضر في ديوان الشاعر كثير من الخطابات التناصية كالخطاب الصوفي( الأوراد – فاضت أنوار من عينيه- صوفي- مزج- العشق الغامر- الحرمان- الرؤيا-....)، والخطاب الديني( يوسف-جنان- سفر- التيه- )، والخطاب الأسطوري( الأطلسية- فينوس- زرهون- إيفري- يطو....)، والخطاب التاريخي( القراصنة- بنو الأحمر- مفاتيح القدس- اليرموك – أنوال...)، والخطاب الأدبي(التروبادور- الضليل- يزهر الحزن- سفر المعاناة والفقر- تحولات يوسف المغربي- ...)، إلى غير ذلك من الخطابات التناصية التي تشير إلى مدى تنوع ثقافة الشاعر وتعدد مرجعياته الفكرية والفنية.

2-المستـــــوى الفنــــي:
تندرج قصائد الشاعر ضمن شعر التفعيلة لاعتماد الديوان على هيكلة الأسطر والجمل الشعرية والنصوص المدورة وتنويع التفاعيل العروضية الخليلية زحافا وعلة . كما تتسم النصوص الشعرية بخاصيتي الاتساق والانسجام بسبب وجود الوحدة العضوية والموضوعية التي تصهر كل القصائد في بوتقة الاغتراب الذاتي والمكاني.
وعلى مستوى الإيقاع الخارجي، ينوع الشاعر بحوره الخليلية ووحداته التفعيلية . إذ يوظف من البحور العروضية: الرمل والمتقارب و المتدارك الذي يتحول إلى خبب في بعض قصائده الشعرية ولاسيما المدورة منها..... كما ينوع من قوافيه إذ يستعمل القافية المتقاطعة( أ- ب- ا- ب) كما في هذا النموذج الشعري التالي:

يا صحابي
كلما صغت قصيده
وقف الحزن ببابي
هازئا مني لأن الأطلسيه (ص:5).

والقافية الموحدة (أ- أ- أ- أ-...):

......
أن هذي الأطلسيه
سكنت عمق الأحاسيس النبيله
وبدت في فسحة الحلم جميله
كشعاع في ليالينا الدجيه
كم رغيف نشتهيه
كسرير آمن تغمره كل أزاهير الحياه
كجنان قدسيه(ص:7)

كما وظف القافية المتعانقة(أ- ب- ب- أ):

لباريس رائحة العطر والجنس والخمرة المشتهاة
لباريس ما لا تخال الظنون
سندخلها فاتحين
فنكسب هذي الغزاة(ص:16)

وشغّل الشاعر كذلك أيضا القافية المرسلة التي لاتلتزم لا بالقافية ولا بالروي:

طريق الشمال تراجع نحو بدايته
فلنسر فارغين من الوهم،
باريس كانت خرافه
وكان الطريق إليها يحفه حلم بليد
ويجمح فيه التوهم
إن التوهم شارة في عصر رديء(ص:18)

ويستعمل أيضا القافية المتراكبة التي تختفي وتظهر من جديد بعد عدة أسطركما في قصيدة " زرهون":

زرهون
عطر التاريخ
وفيض النور
ونبض الذكرى
تشمخ بين جبال الزيتون
.......
زرهون
عبق التاريخ
وفيض النور الأزلي(ص:74-75).

ويلاحظ أن الشاعر محمد لقاح يعطي للإيقاع الخارجي والداخلي أهمية كبرى وقيمة قصوى؛ لما للإيقاع من أدوار جمة نفسية وموسيقية ودلالية في جذب المتلقي عاطفيا وذهنيا إلى عالم لقاح الشاعري. ويتجلى هذا الاهتمام في استخدام تقنية التكرار وتوظيف اللازمة الشعرية( زرهون)، وتشغيل التوازي الصوتي واللفظي والتركيبي من خلال اللجوء إلى ترديد نفس الفونيمات الصوتية والمورفيمات الصرفية والمونيمات اللفظية والجمل التركيبية المتعادلة:

زرهون
عطر التاريخ
وفيض النور
...
زرهون
عبق التاريخ
وفيض النور الأزلي (ص:74-75).

كما تتداخل الأصوات المهموسة مع الأصوات المجهورة لتشيد داخل الديوان سيمفونية الاغتراب وتراجيديا الإنسان المهزوم الضائع بين أنياب الضياع والمعاناة والفقر. ويتلاءم الإيقاع الخارجي والداخلي مع جو الديوان وجدانيا ونغميا ومعنويا ومقصدية.

وتمتاز اللغة الشعرية عند محمد لقاح بالانزياح الشاعري والتضمين الموحي فضلا عن عذوبة الألفاظ وسلاستها بسبب فصاحتها ورقتها وأنوثتها التعبيرية. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى اهتمام الشاعر بتنقيح ألفاظه ولغته على غرار الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى صاحب الحوليات، والدليل على ذلك أن القصائد كتبت في عقد الثمانين وبداية عقد التسعين ولم تنشر إلى في بداية الألفية الثالثة نظر لترويه وعدم استعجاله لعملية النشر وركونه إلى المراجعة والتقويم الذاتي والتنقيح حتى تستوي قصائده الشعرية منقحة مجودة كما يظهر ذلك واضحا في ديوانه الشعري وديوان ابنه ميلود لقاح"أغنيات من حريق الحشا".

و لا تخرج الحقول الدلالية في الديوان عن حقل الطبيعة وحقل الذات وحقل الاغتراب والمعاناة وحقل المكان. أما الحقوق التيماتيكية الأخرى الثاوية في الديوان فإنها تصب كلها في تيمة نووية كبرى مولدة للديوان وهي تيمة الاغتراب الذاتي والمكاني.

وتركيبيا، يوظف الشاعر إلى جانب عدد لايستهان به من الأساليب الخبرية المؤكدة التي تستهدف استنبات الحدث الواقعي مجموعة من الأساليب الإنشائية الطلبية وغير الطلبية كالنفي والنهي والتعجب والتوجع والتحسر والحصر والقصر وأسلوب الاختصاص والنداء والتمني التي تساهم في خلق الوظيفة الشعرية المبنية على الإيحاء التضميني والشاعرية الرمزية.
ويعمد الشاعر أيضا إلى توظيف صور شعرية بعيدة عن الإبهام المجاني والتجريد الأدونيسي الغامض، بل يبني الشاعر صورا شعرية سهلة التذوق، ولكنها موغلة في المجاز والترميز والأسطرة. وبذلك يفتتن الشاعر بالصورة الرؤيا التي تتجاوز صورة المشابهة (الاستعارة والتشبيه)، وصورة المجاورة( الكناية والمجاز المرسل والمجاز العقلي)، من خلال توظيف الأساطير والرموز المكانية (غرناطة- القدس- زرهون- الأطلس- سبتة- شيراز..)، والرموز الإنسانية(يارا- يوسف.- التروبادور الضليل...)، والرموز الطبيعية(النهر- أنسام-، العشب-الماء- النور...)، والرموز الصوفية والأسطورية التي حددناها في الخطابات التناصية آنفا.

وتتحول تيمة الاغتراب إلى رمز لاشعوري مخزن في ذاكرة الشعراء المعاصرين الذين لاينفكون يرددون هذا الموال الحزين في جل أشعارهم بإيقاعات متشابهة تارة، وإيقاعات مختلفة تارة أخرى. إنه اللاشعور الجمعي بمفهوم كارل يونغ K.Jung الذي يحيل على أسطورة الأسى والاغتراب عند الإنسان البدائي التي تحضر عبر التوارث الثقافي والطبيعي في ذاكرة الشاعر المعاصر في شكل حلم طقوسي يطمح إلى التغيير وتحقيق الرغبات المكبوتة المقموعة في الواقع المحنط بالمتاريس المادية والقيود السياسية والمحرمات التي تشكل الطابو الأخلاقي والاجتماعي.

وينوع الشاعر كذلك ضمائره الشعرية مستغلا بكل تحكم ودقة ظاهرة الالتفات منتقلا من الذات المتكلمة إلى الغياب والخطاب . وهذا التنوع يحيل على الصراع الجدلي والاغتراب في التواصل وذوبان الفرد في الخراب الجماعي و الضياع المجتمعي والإنساني دون أن ننسى الانغماس الكلي في الاغتراب المتأرجح بين الإخبار والإنشاء والانسياب في الاسترسال الإنشائي والتداعي النفسي والتسامي اللاشعوري.

تركيــــب واستنتـــاج:
نستشف من خلال قراءتنا لديوان الشاعر المتوهج محمد لقاح أن مضامين النص تطغى عليها تيمة الاغتراب الذاتي والمكاني ضمن رؤية وطنية قوامها الألم والأمل. كما تحضر في الديوان أصوات شعرية تناصية عديدة( عبد الوهاب البياتي، وصلاح عبد الصبور، ومحمود درويش، وبدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وأمل دنقل، وحسن الأمراني، وعبد الرحمن بوعلي، و أحمد المجاطي و محمد منيب البوريمي ....).

ويمكن القول أيضا: إن الشاعر محمد لقاح بهذا الديوان يؤسس في الأدب العربي بصفة عامة والأدب المغربي بصفة خاصة - بكل موضوعية وصدق نقدي- مدرسة شعرية متميزة على غرار المدرسة الأوسية في الشعر الجاهلي، وهذه المدرسة هي مدرسة آل لقاح التي تمتاز بقصر النفس الشعري وجودة التعبير والتنقيح والتروي في الكتابة والنشر والتنويع في القوالب الفنية واحترام علوم الآلة احتراما شديدا والتقيد بالإيقاع النظمي دون التفريط فيه. إنها بكل اختصار مدرسة الصنعة وتجويد البيان وتهذيب الأسلوب بالإيحاء الشاعري والتضمين والجمع بين المتعة والفائدة.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى