الأربعاء ٢٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٤
بقلم إدريس ولد القابلة

قضايا مغربة - القسم السابع ـ الفقرقراطية بالمغرب

منذ أن حصل المغرب على استقلاله في أواسط خمسينات القرن الماضي, و على امتداد أكثر من أربعة عقود, و حكوماته المتعاقبة تتحدث عن وضع سياسات و خطط و تحدد الميزانيات و تنفق الأموال لكي تحقق التنمية لتحسين مستوى المعيشة و التصدي للفقر. و بعد كل هذه الجهود و الأموال التي صرفت, و السياسات التي بلورت, تم تكريس الفقر و اتسعت دائرته و تر سخت آليات التفقير إلى أن وصل الحال إلى ما هو عليه الآن بالمغرب.

فبالرغم من أن المغاربة يذلوا جهودا كبيرة و عانوا كثيرا من الحرمان و أثقلت كهولهم بالضرائب العادية منها و الاستثنائية منها و التضامنية, فإنهم ظلوا يعاينون تدهور أحوالهم المعيشية, لاسيما منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي, حيث ازداد الفقر توسعا بشكل لم يسبق له مثيل. و هكذا قد يبدو أن النمو الاقتصادي الذي حققه المغرب, تحقق بالأساس من خلال تدهور مستوى معيشة أوسع فئات الشعب و على حساب توسيع دائرة الفقر. إذن, فأين ذهبت ثمار النمو الاقتصادي؟

إن جزءا كبيرا منها ذهب إلى القلة و إلى الهذر بأشكاله المختلفة و إلى الاستهلاك البذخي. و هكذا ازداد الفقر و انتشر و اتسعت الهوة بين القلة الغنية التي لا تكاد تبين عدديا أمام الأغلبية الساحقة الفقيرة.

إن توزيع و إعادة توزيع الثروات و الخيرات الوطنية من أهم مقاصد تدبير معاش و عيشة الإنسان في أية دولة. كما أنه من المعلوم أن الدولة هي التي تشرف على عملية هذا التوزيع و إعادة التوزيع عبر جملة من الآليات الظاهرة منها و الباطنية, المشروعة منها و غير المشروعة, المباشرة و غير المباشرة أو الملتوية. و بذلك, فان تناول إشكالية الفقر بالمغرب تلزمنا أن نتناولها آخذين بعين الاعتبار الإطار العام للمسار الاجتماعي و الاقتصادي للبلاد, خاصة فيما يتعلق بالاختيارات الكبرى التي نهجها القائمون على أموره منذ الاستقلال. لاسيما ما عرفته البلاد مع نهاية سبعينات و فجر ثمانينات القرن الماضي من اعتماد سياسة التقويم الهيكلي و التي ترجمت على شكل صرامة مالية لم يسبق لها مثيل من أجل تقليص العجز للاستفادة من قروض جديدة و تقليص حجمها و تصحيح التوازنات الاقتصادية. و بعبارة أخرى أوضح, تخلي الدولة و انسحابها عن أداء مهامها الأساسية في قطاعات اجتماعية حيوية. و لا يخفى على أحد أن هذه السياسة و برامجها مست مصالح عمومية و اجتماعية متعددة. و بذلك, بين عشية و ضحاها و دون سابق إنذار, تقلص دعم مواد و منتوجات أساسية و انخفضت المصاريف العمومية المتعلقة بالتربية و التعليم والتكوين و الصحة و قطاعات اجتماعية أخرى أصابت في العمق العائلات الفقيرة و المتوسطة. و تصاعد بذلك مستوى الفقر بشكل لم يسبق له مثيل فيما بين سنتي 1984 و 1990, و لازالت الصيرورة فاعلة فعلها في نفس الاتجاه حاليا. كما أن الاقتصاد المغربي لازال إلى حد الآن عاجزا عن الخروج من دوامة ما يسمى " بالاكراهات" سعيا للحفاظ على التوازنات الماكرواقتصادية و التخفيف من ضغوط المديونية و محاولة امتصاص العجز المتراكم في مختلف القطاعات الاجتماعية, و خاصة منها التشغيل و السكن و التعليم و الصحة. و بذلك تراكمت المعضلات الاجتماعية المتمثلة في ارتفاع نسبة الفقر و توسع دائرة البطالة و انتشار السكن العشوائي و غير اللائق و ارتفاع عدد المرضى, لاسيما المصابين بأمراض مزمنة و العقم المكشوف للمنظومة التعليمية.

و يمكن تلمس درجة و مظاهر الفقر بالمغرب عبر مراتب الحاجيات الإنسانية التي يمكن تصنيفها إلى 3 أنواع : ضروري و حاجي و تحسيني. و الضروري هو ما لابد منه في قيام مصالح العيش المقبول و لوازمه. و فقدان هذا النوع من الحاجيات من شأنه بالتأكيد الجر إلى الفساد و الفوضى و الظلم و الحيف الاجتماعي.

إن المغرب بلد غني منتشر فيه الفقر. فالدخل الفردي المتوسط قد يصل إلى 1250 دولار أمريكي, إلا أن الفوارق الاجتماعية صارخة و تزداد توسعا. فالهوة تتسع باستمرار بين الفئات الأكثر فقرا و الفئات الأكثر غنى. لقد أصبح 10 في المائة من الساكنة يستهلكون أكثر من 15 مرة ما يستهلكه ذوي الدخل الضعيف و المتوسط, و هؤلاء كثيرون, إذ لا مجال للمقارنة بفعل التباعد الذي يقاس بالسنوات النوري. هناك ما يناهز 10 ملايين مغربي لا يفوق دخلهم اليومي 20 درهما (دولارين اثنين) و 15 في المائة من الساكنة تعيش تحت عتبة الفقر, و ما يقارب نصف الساكنة يتموقع دخلهم الشهري في حدود أقل من 600 درهم ( 60 دولار). و هذا يبين بجلاء الأهمية العددية للفئات المهمشة أو التي في طريقها إلى التهميش المحتوم. و الفوارق في أجور الموظفين قد تتباعد من 1 إلى 100 تقريبا و هذا وضع قل نظيره بالعلم, و هو أمر أضحى عير مقبول في ظل انتشار الفقر, إذ هناك 6 مواطنين من أصل 10 يعيشون في وضع فقر مدقع. في حين أن ميسوري الحال لا يتعدون 20 في المائة بينما يعاني 80 في المائة من السكان من ضعف الراتب والدخل انهيار قدرتهم الشرائية, لاسيما في العلم القروي الذي يضم أكثر من 65 في المائة من فقراء المغرب. إلى حد أن أغلب المغاربة أضحوا لا يفكرون إلا في معضلات الإنفاق على متطلبات الغذاء و السكن, أما باقي الحاجيات الضرورية فلا طاقة لهم لتوفير مصارفها.

و ما هذا الوضع إلا نتيجة موضوعية لمجمل السياسات التي اعتمدتها الدولة المغربية على امتداد أكثر من 4 عقود, و كانت بالأساس سياسات تكرس آليات التفقير و لا تكترث بالتصدي لأسباب الفقر حتى إبان فترات الازدهار الاقتصادي الذي عرفته البلاد, و قد ساهمت آليات التفقير الممنهج بالمغرب و بشكل كبير في تحطيم قيم العدالة الاجتماعية, إلى أن أضحت البلاد تعرف ارتفاعا في نسبة الفقر في السنوات الأخيرة, لم تعرف مثله على امتداد تاريخها.

إن العديد من العوامل و الظروف تراكمت و لازالت تتراكم, عملت على تكريس آليات التفقير و التهميش الاجتماعي خاصة في البادية. و ذلك أن المسار الاجتماعي و الاقتصادي بالمغرب, خاصة فيما يتعلق بالاختيارات الكبرى منذ الحصول على الاستقلال, كان تأثيره سلبي و مباشر على مصالح أغلبية الشعب المغربي, إذ أدى إلى تصاعد مستوى الفقر باستمرار, كما عجز عن الحد من تنامي انتشار الفقر. لقد فشل المغرب في مواجهة مشكلات الفقر و لم يستطع التخفيف من حدته. و لازالت إشكالية الفقر حاليا مثارا للقلق, بل أضحت تبعث على الانزعاج مع تنامي أعداد الأشخاص الذين يعيشون في حالة من البين. و لازالت الهوة بين الأغنياء و الفقراء تتسع بشكل بارز, كما تنوعت مظاهر الفقر و تعددت من جراء أزمة التشغيل و انتشار السكن غير اللائق و سيادة عدم الاستفادة من الخدمات الصحية بالنسبة للفقراء اعتبارا من جهة لتفشي الفساد و من جهة أخرى لعدم كفاية الخدمات الاجتماعية و ضمانها على مختلف التراب الوطني.

إن الفقر بالمغرب أصبح فقرا مركبا يتضمن الحرمان من جملة من المقومات الضرورية للحياة, طعام غير كافي و عدم التمكن من الرعاية الصحية و عدم القدرة على الاستفادة من سكن لائق و عدم الاطمئنان عن الغد القريب. و هذا الفقر لا يعود إلى كون أن الثروات الوطنية قد نقصت أو تراجعت, و إنما يعود بالأساس إلى الازدياد المطرد لثروات قلة لا تكاد تبين من المغاربة على حساب حرمان الأغلبية الساحقة. و لا يخفى على أحد أن اختلال ميزان العدالة الاجتماعية بشكل مفضوح من شأنه أن يحول إلى بؤرة للإجرام و الللاأمن ما دام افتقاد الإنسان للشعور بوجوده العادل و حقه الإنساني سوف يغرقه في مستنقع اليأس, و آنذاك سيكون مستعدا لأي شيء.

في الحقيقة هناك آليات فاعلة تعمل على ترسيخ صيرورة للتفقير المستدام, و هي آليات تنتج تفاوتا كبيرا في توزيع و إعادة توزيع الدخل, و تكرس حيفا مفضوحا في تحمل العبء الضريبي و تعتمد الاستخفاف بسياسات الرعاية الاجتماعية و سوء تدبير المال العام. و بذلك فهي تكرس استمرار تدفق الثروات على الأقلية في حين تزيد من تفقير الأغلبية, و تشجع على تهريب الأموال إلى الخارج من طرف هذه الأقلية, الشيء الذي يساهم في الاستنزاف الاقتصادي للبلاد.

لكل هذه الأسباب و غيرها علينا التحدث عن الفقرقراطية و ليس على مجرد الفقر, لأن أعداد الفقراء بالمغرب لم يتوقف يوما عن التزايد نتيجة للسياسات المعتمدة و المتبعة و للممارسات المكرسة في تدبير الشأن العام الوطني و المحلي. فالأمر يتعلق بفقرقراطية لأن الشيء الذي كان و لازال له مستقبل بالمغرب هو الفقر. و الفقرقراطية هي أدهى من الفقر, إنها آليات و ممارسات ممنهجة لاستدامة الفقر عبر صيرورة تفقير الفقير و اغناء كمشة لا تكاد تبين من جراء قلة عددها, و ذلك بواسطة مسلسلين, مسلسل الاستحواذ على خيرات و ثروات البلاد و احتكار ثمرات التنمية, و مسلسل تحميل الفئات الفقيرة عبء تمويل الميزانية العامة سواء على شكل تحميلها ما لا طاقة لها به, أو على شكل حرمانها من خدمات اجتماعية ضرورية.

لهذا نتحدث عن الفقرقراطية و ليس عن الفقر. فالفقر أهون من الفقرقراطية, لأن الأول حالة و واقع يمكن تغييره إذا حضرت الإرادة السياسية لذلك. أما الثانية فهي نهج و آلية و عقلية دائمة الفعل, و بالتالي تعمل على استدامة الفقر و توسيع مداه و دائرته.

و نتحدث عن الفقرقراطية و ليس عن مجرد الفقر, لأن هناك علاقة وثيقة و واضحة بين أنماط التدبير السائدة في بلورة السياسات العمومية من جهة, و بين تطور الفقر و اتساعه من جهة أخرى. و لأن الدولة أضحت غير قادرة على تهييء المناخ المناسب للاستثمار الذي له تأثير مباشر على ظاهرة الفقر, بحيث يمكنه خلق فرص للشغل يستفيد منها الفقراء. و لأن الدولة أصبحت غير قادرة على توفير الخدمات الأساسية الكافية و المجدية في ميدان التعليم و الصحة و الرياضة و الثقافة تساعد الفقراء على اكتساب الشروط الضرورية للتفاعل مع السوق و التمكن من ضمان دخل كافي لمواجهة المتطلبات الضرورية للحياة. و لأن الدولة فشلت في تدبير مختلف برامج محاربة آثار الفقر.

نتحدث عن الفقرقراطية و ليس عن الفقر, لأن هذا الفقر لم يعد ظاهرة طبيعية و إنما معضلة دائمة ناتجة عن اختيارات و سياسات اقتصادية و اجتماعية انتهجت منذ عقود. فهناك فقر و تفقير عبر آليات الفعل السياسي و الفعل الاقتصادي و الفعل الاجتماعي. فعندما يجد المواطن المغربي نفسه أمام الإدارة لقضاء مآربه أو لاجئا للقضاء لطلب حقه المسلوب أو مضطرا لطلب الاستفادة من أحدى الخدمات العلاجية أو الاجتماعية, آنذاك تبدو له و بجلاء الدلالات الحقيقية, ليس لفقره, و إنما لسيادة الفقرقراطية ببلاده. آنذاك تتضح له الصورة, كون أن الفقر بالمغرب ليس ظاهرة عابرة أو ظرفية أو مرحلية و إنما هو معطى دائم و حالة بنيوية و هيكلية بفعل آليات تفقير مستمرة, تعيد إنتاجه و توسيع مداه و انتشار دائرته. ففي المغرب أضحى الفقراء يلدون فقراء أكثر فقرا و الأغنياء يلدون أغنياء أكثر غنى. لذلك فالأمر لم يعد يتعلق بمجرد حالة فقر فحسب, و إنما بالفقرقراطية. علما أن اغلب برجوازية المغرب هي برجوازية المظاهر و ليست "برجوازية عقيدة" مرتبطة بالمقاولة و المبادرة الحرة, لأنه أصلا, في غالبيتها هي برجوازية غير مقاولة بالأساس, و إنما قامت بأدوار الوساطة و السمسرة و الارتشاء ة الاستفادة من الامتيازات السهلة دون بذل مجهودات, مما جعلها برجوازية طفيلية أو "طيف" برجوازية. كما أن هناك الأموال التي كدست في فترة غابت فيها الديموقراطية و سادت فيها المحسوبية واقتصاد الريع و أنظمة الو لاءات و الامتيازات و العطاءات السخية و غض الطرف عن نهب المال العام و التجاوزات.

و هناك عدة تمظهرات للفقرقراطية بالمغرب. و منها كثرة الدعاية و الهرج المناسباتي في كل حماة أو توزيع الصدقات. فمثلا في شهر رمضان تطلع عليك دعايات و ربورتاجات تحت عناوين بارزة من قبيل " موائد الإفطار تملأ شوارع المدينة", و ما هذا إلا مثل من عينة عناوين الذين تمرسوا طويلا في تحويل مصائب أوسع فئات المجتمع إلى بشائر خير و دليل على التشبث بالدين الحنيف.

كما أنه من التمظهرات التي تدلنا على تكريس الفقرقراطية بالمغرب الفساد السياسي و الفساد الاقتصادي و الفساد الاجتماعي. و القاسم المشترك لكل هذه الأنواع من الفساد هو أن هناك كمشة مستفيدة منه و مؤثرة فيه- أي أصحاب النفوذ و المقربون- و هذا الفساد ساد و استشرى في غياب المراقبة و المحاسبة في ظل سياسات مشوهة و إطار تنظيمي معوق.
و من تمظهرات الفقرقراطية, تكريس الأمية التي مازلت ضاربة إطنابها في المجتمع. كما أن الخدمات الاجتماعية المقدمة خصوصا بالبادية, مازالت دون الحد الأدنى المطلوب. فنسبة الربط بشبكة الكهرباء و الماء لا تتعدى 50 في المائة الشيء الذي يوضح حرمان أكثر من نصف الساكنة القروية من الماء و الكهرباء. و فيما يخص البطالة, حسب المعطيات الرسمية المعلن عنها, تفوق 13 في المائة, علما أن هذا الرقم بعيد عن الواقع بفعل التفسيرات الملتوية للإحصاءات و جملة من المفاهيم المرتبطة بالتشغيل و ظروف العمل و بفعل أن كثيرا من السكان النشيطين يشتغلون بأنشطة غير قابلة للتصنيف غي إطار عالم الشغل المتعارف عليه, و نسبة كبيرة أخرى تتقاضى أجورا لا يمكن أن توفر حتى الحد الأدنى للبقاء.

كما أنه من مظاهر الفقرقراطية أن الغالبية من سكان المغرب لا تحظى بأي ضمان اجتماعي و تغطية صحي. و من مظاهرها تراكم الوظائف و تراكم الرواتب بالنسبة لفئة خاصة, علاوة على السخاء في منح الامتيازات لأصحاب الرواتب "الطيطانيكية" مقابل تضييق الخناق على ذوي الدخول الضعيفة. و من مظاهرها حرمان أصحاب الأراضي الأصليين و منحها كهبات و امتيازات للمحظوظين بعد أن استرجعت من المعمرين الذين سلبوها أصلا من أصحابها. و يزيد الطين بلة إذا علمنا أن المستفيدين من تلك الأراضي لا تربطهم أية صلة لا بمنطقة تواجد الأرض و لا بالميدان الزراعي, الشيء الذي نشأ عنه تمركز الأراضي الخصبة في أيدي كمشة قليلة مقابل حرمان ذوي الحقوق الفعلية و التاريخية ودفعهم إلى صفوف الفلاحين بدون أرض.

و من مظاهر الفقرقراطية تنامي ظاهرة الأطفال المشردين, أطفال الشوارع و هي ظاهرة أضحت تثير قلق المجتمع المدني. و من مظاهرها كذلك أن المواطنين باتوا يرضون بالقليل و برواتب متدنية, خصوصا و أن الحاجة إلى العمل باتت ملحة جدا, و بذلك أضحوا يلهثون و راء تأمين لقمة العيش, و هذا قطم طموحاتهم إلى حدودها الدنيا, و بذلك تخور قواهم فيرضون بما هو أقل من القليل.

كما أن من تمظهرات الفقرقراطية بالمغرب سيادة ثقافة معادية لحقوق الإنسان و الديموقراطية على صعيد الحياة اليومية, و كذلك عبر استخدام مبدأ "الخصوصية" للطعن في مبدأ عالمية تلك الحقوق و شرعتها الدولية التي ساهمت فيها جميع الثقافات. و بذلك يتم اللجوء إلى الخصوصية, ليس لترسيخ شعور المواطن بالكرامة و المساواة و لإثراء ثقافته و تعزيز مشاركته في تدبير شؤون البلاد, وإنما لإقناعه بالقبول بالحال على ما هو عليه, اعتبارا لأن جملة من الحقوق لا تلائمه.

و لعل من الإشكاليات التي تمكننا من ملامسة سيادة الفقرقراطية و من كشف آلياتها إشكالية السكن, إذ أن الحرمان الممنهج لأوسع فئات المجتمع من السكن اللائق تنتج عنه جملة من التمظهرات الأخرى لآليات الفقرقراطية, ومن ضمنها حرمان فئات مجتمعية واسعة من ثمرات التنمية و تعميق التهميش و الإقصاء, الشيء الذي يساهم في انتشار الانحراف و تفشي الأجرام. كما أن انخفاض القدرة الشرائية و غلاء المعيشة يجعل من الصعب بمكان الحصول على مسكن خاص لائق حتى بالنسبة للفئات المتوسطة و التي كانت بالأمس القريب في مأمن من انعكاسات الفقرقراطية. و كل هذا يتم في وقت يعتبر فيه حق السكن اللائق من الحقوق التي يضمنها الدستور و مختلف الاتفاقيات و العهود الدولية الخاصة بحقوق الإنسان و التي كان المغرب من أولى البلدان العربية التي صادقت عليها.

فمن المعلوم أن السكن من الحاجيات الملحة التي يعني غيابها الضياع و التشرد و التهميش و الإقصاء. لذلك يعتبر السكن في نظر علماء الاجتماع و التربية و الاقتصاديين و فقهاء الدين, من الضروريات اعتبارا لكون بدون سكن لائق لا يمكن حفظ لا الجسم و لا العقل لا النفس و لا النسل و لا القيم و لا الدين, و بالتالي تعريض المستقبل للضياع المحقق. و فعلا إن عدم قدرة فئات عريضة من المجتمع المغربي من الحصول على سكن لائق بالمواصفات المتعارف عليها هو تعبير صارخ عن حالة التهميش الاجتماعي و تحذر الفقر وسط المجتمع لا يعاني من انتشار الفقر فحسب, وإنما يرزح تحت وطأة الفقرقراطية التي هي أدهى من الفقر, باعتبارها جملة من آليات استدامته و انتشاره و إعادة إنتاج شروطه و عوامل انتشاره بين أوسع الفئات.

السكن إذن يعتبر من الأمور الضرورية في حياة الإنسان, وله تأثير مباشر و حتمي على تكوين الفرد و نشأته. و عدم توفر السكن اللائق يؤدي إلى مفاسد كثيرة, لاسيما و أن أغلب المغاربة يتميزون بعدم قدرتهم على الحصول على السكن اللائق الذي يطمحون إليه اعتبارا لانتشار الفقر. و لتقريب الصورة من الأفيد عرض بعض الإحصائيات ذات الدلالة في هذا المجال. فهناك أكثر من 85 في المائة من السكان الحضريين بالمغرب يعيشون في دور مكرية و ليس في ملكيتهم, و ما يناهز 35 في المائة منهم يعيشون في غرفة واحدة, و ما يناهز 40 في المائة يعيشون في مساكن لا تحتوي إلا على غرفتين. علما أن الكثافة السكانية تصل في بعض الأحيان بالمدن الكبيرة إلى 3000 ساكن في الهكتار الواحد, في حين لا تتعدى الكثافة المسموح بها عالميا 300 ساكن في الهكتار. و علاوة على هذا و ذاك, فبالنسبة للمغاربة القانطين في دور الكراء, تمثل نسبة مصاريف الكراء ما بين 25 و 75 في المائة من دخل الأسرة الذي يتراوح مابين 1500 و 4500 درهم (150 و 450 دولار) شهريا في أحسن الظروف. و هناك من الذين يملكون سكناهم يعيشون في دور تتكون من غرفتين فقط, في حين يظل 65 في المائة من المغاربة مكترون للمنازل التي يقطنونها. و هذا الواقع يبين بجلاء أن هناك خصاص مهول في السكن, و أنه مع أزمته و ارتفاع كلفته ما فتئت مدن الصفيح و الأحياء العشوائية تتزايد بشكل يصعب معه تحديد إحصائيات مضبوطة في هذا الصدد. إضافة إلى مساهمة المضاربات في التهام الأراضي الحضرية لتحويلها إلى تجزئات و اقامات لا يقوى عليها أغلب المغاربة على أداء ثمنها للاستفادة منها. و في واقع الأمر, إن أزمة السكن تعتبر من أبرز تمظهرات الفقرقراطية بالمغرب. و ترجع بالأساس إلى آليات توزيع و إعادة توزيع الثروات الوطنية. و اعتبارا لكون هذه الآليات تقضي باغناء الغني و تفقير الفقير, فان من انعكاساتها توزيع ثروة العقار التي أدت إلى انتشار دائرة عدم التملك و اتساع فضاءات السكن غير اللائق كنتيجة لغياب عدالة في آليات توزيع هذه الثروة. و بالتالي فلم يتمكن أغلب المغاربة من السكن اللائق في ظروف سليمة. و مما زاد من حدة هذه الأزمة و من تكريس تفعيل آليات الفقرقراطية ببلادنا تقليص النفقات العمومية التي أوصى بها صندوق النقد الدولي منذ ثمانينات القرن الماضي, وهي توصيات اعتمدها القائمون على الأمور بصدر رحب و كرسوها تكريسا دون اعتبار لانعكاساتها على أوسع الفئات. و للتدليل على أن أزمة السكن ما هي في واقع الأمر إلا نتيجة طبيعية و منتظرة لآليات الفقرقراطية تكفي الإشارة إلى مؤشرين.

الأول هو استفادة كمشة من المقربين من السلطة من امتيازات عقارية على حساب استنزاف الرصيد العقاري للدولة, الشيء الذي شجع على تنامي المضاربات العقارية. أما المؤشر الثاني فهو المتعلق بظروف و آليات إعادة إسكان الفئات المحرومة من السكن اللائق, إذ أن رجال السلطة تدخلوا في مختلف الإجراءات و عتوا فسادا فيها و كانت النتيجة تناسل الأحياء العشوائية السكن غير اللائق بمباركتهم أحيانا كثيرة. و هذا كذلك يعتبر آلية من آليات الفقرقراطية ما دام أن هناك ثلة من رجال السلطة و القائمين على الأمور على جملة من الإدارات اغتنوا على حساب انتشار البناء العشوائي مستغلين ظروف أزمة السكن الخانقة.

كما أن سياسات و مجهودات الدولة في ميدان السكن من شأنها كذلك أن تدلنا على تكريس الفقرقراطية بالمغرب. فمنذ ثمانينات القرن الماضي سعت الدولة إلى إحداث جملة من المؤسسات العمومية و شبه العمومية قصد التصدي- حسب زعمها- للخصاص الصارخ في السكن. و هكذا تم إحداث المؤسسات الجهوية للتجهيز و البناء و الشركة الوطنية للتجهيز و البناء و الوكالة الوطنية لمحاربة السكن غير اللائق و شركة التشارك. إلا أن عمل مختلف هذه المؤسسات تميز بسوء التدبير الشيء الذي أدى بأغلبها إلى حافة الإفلاس. فتراكمت ديونها مما جعل الدولة تتدخل لاتقادها بضخ أموال مقتطعة من الميزانية العامة- أي من أموال الشعب و عرق أوسع فئاته- في ميزانيتها. و في نهاية المطاف لم تؤد دورها, بل ساهمت في المزيد من اتساع إشكالية السكن. و حتى مشروع 200 ألف سكن الذي جاء لانقاد الموقف تميز في عمومه بنقص الجودة و المرافق الضرورية الكفيلة بتحقيق التوازن العادل, كما اصطدم في آخر المطاف بغياب وضوح المفاهيم و الآليات الكفيلة بتنفيذه.

و لعل من بين تجليات الفقرقراطية قي مجال السكن, كمجال حيوي, غياب استراتيجيات واضحة, إذ أن جل المشاريع كانت عبارة عن ردود فعل من طرف الدولة لاحتواء غليان اجتماعي أو أحداث سياسية أو سخط شعبي. و كذلك الضعف البارز لقدرة الدولة على التخطيط الطويل المدى, و ذلك بفعل اختراق المصالح الخاصة و الفئوية الضيقة للسياسات الحضرية المتبعة. و بذلك غابت شروط التنمية الشاملة, لأنه لا يمكن تحقيق أية تنمية في ظل سيادة الفقرقراطية و تكريسها.

و الحالة هته, فهل يمكن إخراج البلاد من بوتقة الفقر من خلال حملات أو تبرعات أو مهرجانات تحسيسية؟

إن التصدي للفقر بالمغرب يمر بالضرورة و حتما عبر التصدي لجذور الفقرقراطية, أي عبر بلورة استراتيجية مستديمة واضحة المرامي و الأهداف, تضع نصب عينيها ثقافة تخليق الحياة العامة و احترام المال العم و اجتثات آليات إنتاج و إعادة إنتاج عوامل و أسباب الفقر و التهميش و وضع حد لمسلسل التفقير الممنهج.

و لعل أول خطوة على درب التصدي للفقرقراطية تكمن في حضور الإرادة السياسية الفعلية لوضع حد, و فورا, لآليات التفاوت في توزيع الدخل و الثروات و مواجهة تهريب الأموال للخارج و التخلص من الصفقات المشبوهة عبر اعتماد الشفافية و التصدي للمحسوبية و الزبونية و محاربة الاغتناء غير المشروع و التفكير في بلورة إصلاحات فعلية و جذرية في الميدان الاجتماعي لاسيما عبر اعتماد آليات جديدة و منقحة في توزيع و إعادة توزيع الثروات الوطنية و تخفيف من عبء الضرائب على المحتاجين و تحسين الأجور و الرواتب و تخفيض الرواتب "الطيطانيكية" و التخلي عن العلاوات و الامتيازات المبلغ فيها و غير المعقولة و اللامبررة لكمشة من كبار الموظفين و المسؤولين السياسيين, لاسيما و أنهم لا حاجة ماسة لهم بها, علاوة أنها لا تتماشى و طبيعة الظرف الذي تجتازه بلادنا حاليا و تعتبر نشازا أمام الخصاص في مختلف الميدان.

إشكالية السكن

هناك عدة عوامل تؤثر على مشكلة السكن، إن مختلف العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبشرية والعمرانية والتشريعية وغيرها تركت تأثيرا مباشرا أو غير مباشر على إشكالية السكن ببلادنا.

لقد توسع نمط السكن المديني وتغيرت العادات والأعراف الاجتماعية المتعلقة بالسكن وعرفت البلاد تزايدا سكانيا بعثه البعض بالانفجار السكاني وارتفعت أسعار الأراضي المعدة للبناء، واستفحلت الهجرة من البادية إلى المدينة وغاب التنظيم المبكر لتوسع المدن وتدبير التراب، وتزايد ضعف السيولة النقدية لدى المواطنين من جراء تدني الدخل وغلاء المعيشة وتأرجح حجم الاستثمارات العمومية المخصصة للسكن، وظل نشاط الجمعيات التعاونية السكنية منحصرا وبقيت التشريعات والقوانين والنصوص المرتبطة بإشكالية السكن دون جدوى إذا لم تكن قد ساهمت في تعميق مدى الأزمة في هذا المجال.
فلا يخفى على أحد أن ارتفاع أسعار الأراضي المعدة للبناء تعد من أبرز العوامل في استفحال مشكلة السكن ببلادنا، لأن هذا الارتفاع يؤدي إلى زيادة كلفه المساكن وأسعارها، فعلا لقد كانت عدة محاولات لخفض أسعار الأراضي عبر بلورة جملة من النصوص المرتبطة بالتشريعات العقارية والعمرانية غير أن النتيجة كانت سلبية في عموميتها بفعل إنعاش المضاربات وتمكين الذين ليسوا في حاجة ماسة من الاستفادة من مختلف التسهيلات عوض تخصيصها للمحتجين فعلا للسكن.
هكذا ظلت الدولة منذ عقود قاصرة عن مواكبة متطلبات المجتمع من المساكن اللازمة للمواطنين، بدلا أن تساهم التشريعات والتدخلات الدولية في حل مشكلة السكن، فقد زادت من حدة أزمتها.

وفي هذا المضمار تعتبر النصوص المرتبطة بالإيجار ذات علاقة وطيدة بالحياة الاقتصادية والاجتماعية، وكم من نص وتشريع احتوى عيوبا كانت لها انعكاسات وخيمة على الواقع الاجتماعي والعمراني، الشيء الذي يدعو إلى ضرورة الاهتمام بقضية إقرار مبادئ العدالة والإنصاف بشكل يتفق مع مصلحة المجتمع وظروفه انطلاقا من الواقع الاقتصادي والاجتماعي والتقدم العمراني بالمغرب، أي السعي إلى تحقيق التوازن بين مصلحة المؤجرين والمستأجرين في إطار اعتماد مبدأ العقد شريعة المتعاقدين، لأنه لا مناص من حماية الحقوق المكتسبة وإقرار مبدأ أحقية المالك في تقاضي إيجار " عادل" وأحقية المستأجر في تقاضي تعويض عادل إنهاء إيجاره السكني.
إن التشريع في الحقيقة يأتي كانعكاس لمعطيات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، وقد يكون في إمكانه أن يلعب دورا رياديا بتقديمه حلول لإشكالات قائمة ومنع وقوعها، غير أنه ليس بإمكانه أن يسبق المجتمع ويتصور مختلف الإشكالات، لاسيما فيما يخص إتيانه بأحكام تساير درجة وسرعة التغيير الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، والأهم من هذا وذاك أن القانون يفقد شرعيته إذا كان مرفوضا من طرف الرأي العام، لأن التشريع من حيث المبدأ هو تعبير عن الإرادة العامة، ومن المهم جدا رضا الرأي العام بالقانون وإحساسه أنه جاء ملبيا لتطلعاته، وهذا ليس هو الحال بالنسبة للتشريعات والنصوص المرتبطة بإشكالية السكن ببلادنا.
ومهما يكن من أمر فإن التحديث التشريعي في أي ميدان من الميادين يعتبر مدخلا ضروريا للإسهام في حل القضايا الاقتصادية والاجتماعية ومنها قضية السكن.

التعامل مع الإشكالية العقارية بمدينة القنيطرة نموذجا
من بين المشاكل التي تعرفها حاليا مدينة القنيطرة غياب رصيد عقاري للدولة وللجماعات المحلية من شأنه احتضان ثلة من المشاريع الاجتماعية والمرافق الأساسية التي مازالت المدينة في أمس الحاجة إليها.

فمن الملاحظ أن التعامل مع الأرض والمجال الترابي بمدينتنا طبعه نوع من الفوضوية وتارة العبثية بامتياز، وقد زادت المشكلة استفحالا من جراء المضاربات العقارية وتنوعها وللإشارة فإن أراضي مدينة القنيطرة في غالبيتها الساحقة كانت ملكا خاصا للدولة من واد سبو إلى غابة المعمورة، وهذا ما يستفاد من الأرشيفات سواء بمديرية الأملاك المخزنية أو مصالح المحافظة على الأملاك المخزنية أو مصالح المحافظة على الأملاك المخزنية أومصالح المحافظة على الأملاك العقارية والرهون والآن وقد تم التفريط بشكل أو بآخر، سواء في تدبير واستعمال الرصيد العقاري للدولة ( الملك الخاص) أو الملك الجماعي الخاص، فإن الحالة الراهنة تستوجب أكثر من أي وقت مضي، وبإلحاح واستعجال، الاهتمام بتكوين رصيد عقاري ( للدولة وللجماعة) بضواحي المدينة حتى لا تتكرر الكارثة عندما يجتاحها البناء والتعمير، إذن يمكن التفكير منذ الآن في إعادة تكوين رصيد عقاري للملك الخاص للدولة وللجماعات بالضواحي قبل فوات الأوان وذلك للتحكم منذ الآن في مجال وآفاق توسيع المدينة، وموازاة مع ذلك التفكير في رؤية متوسطة المدى للتعامل مع استعمال المجال الترابي في أفق تطبيق إطار قانوني من شأنه أن يوجه فعلا وفعليا السياسة العقارية للمدينة.

ومن بين المعضلات الخاصة والغريبة التي تعاني منها المدينة التقطيع الترابي الذي قيل أنه انطلق من مبدأ تقريب الإدارة من المواطنين وجاء خصيصا لتجسيد هذا المبدأ وتوفير الشروط المؤسساتية والإدارية والبشرية لمعالجة قضايا المواطنين والتصدي لمشاكل المدينة لكنه في الحقيقة ساهم فعليا ومبدئيا في المزيد من استفحال المشاكل وتعميق معاناة المواطنين، ومن بين الانعكاسات الوخيمة لذلك التقسيم أنه ضرب وحدة المدينة في الصميم سواء على مستوى الاستفادة من المرافق الاجتماعية المنجزة (على قلتها) أو على مستوى الاستجابة لحاجيات وطلبات وتطلعات المواطنين. كما ساهم كذلك في تجزيء وتشتيت المجهودات وتشجيع تبذير المال العمومي، كما وفر شروط عدم الجدوى لاستثمار المال العمومي والمجهود التنموي. فالتقطيع الجماعي المجدي. هو التقطيع الذي يخدم التنمية عموما وليس في إطار عقلية وزارة الداخلية والمتمحورة حول النظرة الأمنية وخلفيات تمتيع المجال السياسي ببلادنا. وتقطيع جعل من جماعة الساكنية جماعة تفتقر لأبسط الوسائل لإيجاد الحلول المناسبة والمباشرة للمشاكل التي تتخبط فيها والتي هي مرتبطة بحياة المواطنين اليومية.

وهذا ما جعل المدينة لا تستفيد من إمكانياتها ومؤهلاتها وأطرها وكفاءاتها، كما جعل منها مدينة " الأزمة" بامتياز حيث أنها تعرف حاليا تراجعا مهولا في مختلف المجالات بدون استثناء، ولعل القسط الكبير من المسؤولية، في هذا الباب، اعتبارا للواقع الحالي للمدينة، تتحمل قسطا مهما منه المؤسسات التمثيلية للسكان لأنها بكل بساطة، رغم كثرة المعيقات لم تكن ذات فعالية حقيقية حتى لم تكن ذات فعالية حقيقية إن على الصعيد الجهوي وعلى الصعيد المحلي. وعلاوة على المعوقات، كالتقطيع الترابي، غياب رصيد عقاري فإن هناك معوق ذاتي مرتبط بممثلي السكان، الذين هم في أغلبيتهم لا يتوفرون على الكفاءة اللازمة للقيام بمهامهم على أحسن وجه، وهذا يدعو أكثر من أي وقت، إلى إعادة النظر في شروط تحمل المسؤولية لكي تكون شروطا تتماشى والمفهوم الجديد للسلطة وتستجيب لضخامة المجهود التنموي المنتظر.
قروض السكن هدفها اجتماعي
من المفروض أن تكون القروض المخصصة للسكن هي قروض تهدف إلى قيام بعمل اجتماعي بامتياز لأنها مرصودة لحل إشكالية اجتماعية ضاربة أطنابها بمجتمعنا : أزمة السكن. ورغم ذلك فإن القيمة المضافة مفروضة على هذه القروض وما ذلك إلا نتيجة من نتائج تطبيق المبدأ الذي أصبح عزيزا على وزير المالية ألا وهو : يجب أن لا يتجاوز الميزانية 3 % علما أن أول خطوة في تحفيز المقاولة الخاصة للقيام بدورها هو إلزامية مراجعة النظام الضريبي المفروض عليها ولعل مجال السكن، لاسيما الشعبي والاقتصادي، من المجالات التي من الخزي " الطمع فيها من طرف الخزينة العامة ومالية الدولة فحرام أن تكون قروض المضافة بنسبة 7 % .
ولا يمكن فهم هذه الوضعية إلا بوضعها في دائرة الأطروحة المقدسة " للصندوق الدولي " عجز الميزانية لا يجب أن يتجاوز 3 % والتي أصبح وزير المالية والاقتصاد من المدافعين عليه بشدة بعد أن كان من ألد خصومها بالأمس القريب وهذا ليس غريب إنه بدل الفيستة " وأصبح من دعاة النهج المالي الصرف القائم على التصدي للعجز المالي مهما كلف الثمن.

فحرام أن يخضع قطاع السكن الشعبي والاقتصادي لأعباء ضريبية وأزمة السكن مستفحلة بشكل فضيع إلى حد أنها أصبحت تمس حتى الفئات المتوسطة للمجتمع المغربي. إن أزمة السكن بادية للعيان هناك 49 % من الأسر المغربية تملك سكنها من ضمنهم أكثر من ثلثها تعد بنايات عشوائية ومساكن غير لائقة و 3 % يقيمون في مساكن وظيفية 48 % يقيمون في مساكن مكرية أو في مدن الصفيح.
إن غلاء كلفة السكن، سواء تعلق الأمر بالتمليك أو الكراء يشكل عائقا من المعيقات الأساسية لتحسين ظروف العيش ببلادنا.
الأراضي الفلاحية المخزنية
مثال للتسيير والتدبير " الاستهتاري " ووصمة عار في جبين مغرب اليوم.
إن الأراضي الفلاحية المخزنية هي تلك الأراضي الواقعة خارج المدار الحضري والداخلة ضمن الملك الخاص للدولة الذي تسيره وتدير أموره بالأساس مديرية الأملاك المخزنية أو بعض الشركات الفلاحية العمومية أو الشبهة العمومية مثل " صوديا" و " سوجيطا" و " موماكري" التي استفادت بتوقيت عدة أراضي مخزنية إليها طبق مسطرة منصوص في قانون موروث عن الاستعمار في مجمله.

علما أن تلك الأراضي كان المعمرون الفرنسيون والإسبان قد سلبوها بقوة الحديد والنار مالكيها الأصليين ـ سواء كانوا أفرادا أو جماعات ـ وبعد الاستقلال استرجعتها الدولة المغربية وفوتتها لبعض الشركات لتنميتها والمساهمة في النهوض بالعالم الفلاحي، لاسيما وأن كافة تلك الأراضي تعتبر من أخصب وأجود أراضينا الفلاحية، كما تم تفويت جزءا من تلك الأراضي للخواص المحظوظين.

إلا أن تلك الأراضي التي تم تفويتها للشركات المذكورة، سرعان ما أصبحت مرتعا لاستفادة بعض المحظوظين المعروفين والمعلومين ـ وهم قلة قليلة بطبيعة الحال لا تكاد تبين وسط جيوش الفلاحين الفقراء الذين لا أرض لهم ـ كما أن تلك الأراضي كانت مرتعا للقائمين على أمور الشركات الفلاحية العمومية أو الشبه العمومية والمتصرفين فيها إلى أ، أوصلوها إلى مشارف الجرف الهاري وأسقطوها في الهاوية بعد أن أنفقت عليها الدولة، من مال الشعب، ملايير الدراهم على امتداد سنوات. هذه الملايير التي كانت في واقع الأمر تقتطع من جوع الفئات الواسعة للشعب المغربي ومن قوتهم اليومي، كانت توظف توظيفا لخدمة وتنمية المصالح الخاصة والفئوية الضيقة على حساب الصالح العام وضد مصلحة الأجيال القادمة.

وبعد أن صرفت أموال الشعب على تلك الأراضي تم تفويت أغلبها لكمشة من المحظوظين، وكلهم بدون استثناء في غير حالها، يف وقت تحتضن فيه بلادنا فئات واسعة من الفلاحين الفقراء ذوي العائلات المتعددة الأفراد لا يملكون أرضا يحرثونها ويرتبطون بها ما دامت كل الأراضي أهديت على طبق من ذهب لمن يرتعون فيها على مرأى أعينهم. يرون فيهم أناسا استولوا على أرض أجدادهم بجرة قلم أو بأوامر وتعليمات، وهي ذات الأراضي والتي اغتصبها الاستعمار الغاشم. وذهب الاستعمار وظلت الأراضي مغتصبة لا يستفيد منها أهالي المنطقة في وقت كثر فيه اللغط عن التنمية الاقتصادية والاجتماعية علما أن هذه التنمية مرتبطة بالأرض ومن يحرثها وتنمية العالم القروي لها سبيل واحد لا ثاني له وهو ربط وارتباط الفلاح بالأرض التي يحرثها، وما دامت الأغلبية الساحقة الفلاحين لا أرض لهم، فإن الحديث عن مثل هذه التنمية، والحالة هاته، سيظل مجرد در الرماد على العيون ليس إلا.

فهل لنا الشجاعة الكافية لاعتماد مبدأ الإنصاف وإرجاع الأرض لذويها الحقيقيين، لاسيما وأن الذين استفادوا منها بواسطة التعليمات والوساطة قد استفادوا منها كفاية وزيادة ؟.
الأملاك المخزنية آلية من آليات هدر الرصيد العقاري للدولة.
الأملاك المخزنية، إدارة من الإداراتالمغربيةالتي حامت حولها عدة تساؤلات حول جدوى استمرار وجودها ما دام أن الرصيد العقاري للدولة ( الملك الخاص)، عرف تقلصا مروعا لم يعد يستجيب لوجود إدارة خاصة، وما دامت أن هذه الإدارة لم تعمل يوما فعلا وفعليا على تجسيد المهمة التي وجدت من أجلها. وهي تدبير وتسيير الملك الخاص للدولة، وتمكين الدولة من رصيد عقاري من شأنه الاستجابة لمتطلبات الصيرورة التنموية الاقتصادية والاجتماعية. إن الأملاك المخزنية بالأساس وجدت لتنمية الرصيد العقاري للدولة وتدبيره بطريقة والاجتماعي للبلاد. إلا أن مسار التطور الاقتصادي والاجتماعي للبلاد. إلا أن ما وقع هو مخالف لذلك تماما إذا أن أغلب هذا الرصيد قد تم تفويته باثمنة بخسة جدا أو بالدرهم الرمزي لذوي النفوذ وأباطرة اقتصاد الريع، فأخصب الضيعات الفلاحية أهديت أو سلمت لغير الفلاحين أهل المنطقة، والأراضي الحضرية فوتت بأبخس الأثمان، الشيء الذي جعل إدارة الأملاك المخزنية لا تقو نهائيا على تعويض الرصيد العقاري ( الملك الخاص) للدولة الذي هدر هدرا لخدمة الصالح الخاص أكثر منه الصالح العام، إلى أن تقلص رصيد ويعد يبين. فكيف كان يمكنها تعويض الأراضي المهدورة، وهي تباع بأثمنة بخسة لذوي النفوذ، أثمنة بعيدة كل البعد عن تلك المطبقة في السوق، الشيء الذي استحال معه تعويض الأراضي المفوتة باقتناء أراضي جديدة.

والمضحك حقا، هو أنه مؤخرا تم اللجوء إلى القيام بدراسة حول مديرية الأملاك المخزنية عملا بتوصية البنك الدولي، وهي دراسة في واقع الأمر أتت بعد فوات الأوان، لأن " كعكة" ( الملك الخاص للدولة) قد وزعت ولم يبق إلا الفتات. وقد قام بهذه الدراسة مكتب أجنبي، مكتب EDEF .

فإذا كانت المهمة الأساسية المسطرة في النصوص بالنسبة لإدارة الأملاك المخزنية هي تكوين وتطوير الرصيد العقاري للدولة، فإن ممارستها على امتداد أكثر من 4 عقود هي هدر هذا الرصيد وتقديمه على طبق من ذهب لذوي النفوذ. ولعل أبرز مثال على ذلك توفيت الضيعات الشاسعة بالدراهم الرمزية والأراضي الحضرية والبنايات بأبخس الأثمان الشيء الذي أدى إلى إفلاس الرصيد العقاري للدولة. فهل ينفع البكاء وراء الميت ؟

لقد كان يصرف على إدارة الأملاك المخزنية أكثر من 24 مليون درهما سنويا (12 مليون للتسيير و 12 مليون للاستثمار) للقيام بهذه المهمة، مهمة هدر الرصيد العقاري عوض الحرص على تنميته وتطويره واستدامة تجديده قصد الاستجابة لمتطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

منظومة الرواتب والأجور إلى متى هذا الحيف ؟

ما زالت منظومة الرواتب والأجور بالمغرب يعاني من انعدام الواقعية والإنصاف، ولا زالت تعيش اختلالا تجعلها تساهم في تكريس الحيف الاجتماعي في مجال توزيع الثروات، بدلا من أن تكون حافزا للإنتاج والابتكار، علاوة على أنها منظومة لا تتسم بدرجة الشفافية المطلوبة في وقت تعيش فيه بلادنا مرحلة انتقالية، لاسيما فيما يتعلق بالدخول الإضافية التي هي الأساس في خلق الفوارق الهائلة بين مختلف فئات الموظفين والعاملين.

ولعل أبسط منطق في هذا المجال يقول أن القاعدة هي دفع أجر مقابل العمل، وأن يكون الراتب الأساسي هو الدخل الرئيسي للموظف أو العامل، وأن لا تتجاوزه الدخول الإضافية، وذلك لدعم وتقوية استقلالية الموظف وولائه لعمله وليس لرئيسه الذي غالبا ما يتحكم في الدخول الإضافية. كما أن هذا المنطق يقول بضرورة أن يكون الراتب أو الأجر كافيا لضمان حياة كريمة. إلا أن منظومة الرواتب وأجور ببلادنا، في الواقع المعيش تخالف هذه الأسس الأبجدية، وبذلك تعتبر أحد العوامل البارزة الكامنة وراء انتشار الفساد والمحسوبية والظلم الاجتماعي. فهل يمكن للموظف العادي (البسيط والمتوسط) أن يعيش بكرامة معتمدا على راتبه الشهري ؟ إنه تساؤل يزعزع كيان المرء الصادق مع نفسه.

فمازال موظفون و عمال و مستخدمون يتقاضون أجور تقل بكثير عن حاجياتهم الضرورية الملحة للحياة و آخرون * قلة لا تكاد تبين مقارنة مع الأولين* تجاوزوا حاجز الصوت و يتقاضون مرتبات طيطانيكية تصل إلى 200 و 300 ألف درهم = 20 و 30 ألف دولار= شهريا. و هده الأجور تؤدى من ضرائب يدفعها المواطنون البسطاء و هده مجرد صورة لما يسمى التغيير الذي تعرفه البلاد
عموما ، يعتبر الراتب الأساسي مجرد جزء، يكاد يكون هامشيا ، من الدخول وهذا من شأنه إضعاف استقلالية الموظف ويحول ولاءه من عمله وظيفته إلى ولاء لرئيسه ، المتحكم في جزء مهم من دخله . علاوة على أن هيكل الرواتب والأجور الأساسية المحددة بالنسبة لأغلب الفئات ( الأغلبية الساحقة للموظفين) لا يمكن أن يكون كافيا، فعلا وفعليا، لضمان الحد الأدنى الحقيقي لحياة كريمة. في حين نجد فئة قليلة جدا من موظفي الدولة تنعم بدخول ضخمة " طيطانيكية " تتجاوز أحيانا كثيرة الراتب الأساسي لأغلب الموظفين مئات الأضعاف.
وفي واقع الأمر من الممكن حاليا مضاعفة الرواتب الهزيلة دون تكلفة إضافية من خلال العدالة في توزيع مخصصات الرواتب والحوافز والمكافآت، وذلك بحضور الإرادة الفعلية لتغيير الوضع الراهن الذي يمكن " حفنة " من الأفراد من الحصول على أضعاف ما يحصل عليه مئات بل آلاف العاملين بالإدارة. وكذلك اعتماد الشفافية، بدلا من النظام الباطني أحيانا والسري أحيانا أخرى، المعمول به حاليا فيما يخص الدخول الإضافية والمكافآت الضخمة غير المبررة لا عمليا ولا منطقيا ولا اقتصاديا ولا اجتماعيا.

زيادة تعويضات النواب بالمغرب قرار حكومي يتذمر له الرأي العام

في وقت مازال الفقر يضرب أطنابه وسط أوسع فئات الشعب المغربي
و في وقت أضحت البطالة معششة في أوساط خريجي الجامعات و المعاهد العليا
و في وقت مازالت فئات واسعة و عريضة من الموظفين و المستخدمين لا يتقاضون ما يكفيهم لسد رمقهم، و من ضمن هؤلاء الموظفين المحسوبين على مديرية التعاون الوطني و الذي قضى أكثرهم نصف حياته في الخدمة
في هذا الوقت بالذات قيل أنه تقررت زيادة في تعويضات البرلمانيين. و بالطبع هذه الزيادة من تشريع الحكومة التي في واقع الأمر تشرع بالمغرب أكثر من البرلمان. فهي صاحبة الأغلبية الساحقة من مقترحات القوانين التي يصادق عليها البرلمان،
و ها هي الآن تلوح بزيادة تعويضات البرلمانيين لاسيما و أن الوزير الأول هو صاحب السلطة في هذا المجال و هو الذي يوقع مرسوم الزيادة التي ستضيف 6000 درهم إلى التعويض الرسمي الذي سيصل إلى 36000 درهم شهريا. في ذات الوقت رفضت الحكومة النظر في الوضعية المزرية التي مازال يعيشها، على سبيل المثال لا الحصر، العاملون بالتعاون الوطني و الذين لا راتب أغلبهم الحد الأدنى للأجور رغم أن أغلبهم عمل أكثر من عشرين سنة خلت. علما أن قضية هؤلاء "بروليتاريا الإدارة المغربية" ظلت مطروحة بدون منذ عهد عبد الرحمان اليوسفي.

فما هو الداعي لهذه الزيادة و هناك قضايا ذات أولوية و حيوية أكثر تهم حياة فئات واسعة من المواطنين؟ أم أن "الخير فاض3 على الحكومة لتوزعه بالبندير كما يقول المثل المغربي على نواب الأمة الذين اختاروا و بمحض إرادتهم تكريس جهودهم و وقتهم للدفاع على قضايا المواطنين؟
لقد قال البعض ألم يكفي الحكومة الفيل فزادت الفيلة بهذا الإجراء الذي لا يتناسب بالمرة و متطلبات الظرف و لا مع الأوضاع التي تعيشها البلاد و لا مع سلم الأولويات المسطرة من طرفها هي على علتها و لا حتى مع المنظور السوي لنهج تخليق الحياة العامة و الإقرار بدولة الحق و القانون بمعناها الحقيقي و ليس بمفهومها الدعائي و الاشهاري.
فهل تسعى الحكومة من وراء هذا الإجراء إلى التخفيف من الانتقادات التي سيوجهها البرلمان و التخفيف من ضغوطه؟
و قبل هذا و ذاك، فهل النواب في حاجة إلى هذه الزيادة المرتقبة في وقت كل المقارنات مع الدول الأخرى في هذا المجال تأكد بما لا يدعو للشك، و هذا في وقت مازالت فيه آليات اقتصاد البلاد لم تأكد بعد انطلاقتها لإنتاج ثروات مضافة، و في وقت لم يعد للمغرب ما يخوصصه أو يخصخصه لإدخال مبالغ مالية لتبذيرها في الاستعمالات غير المؤدية إلى تدعيم و تفعيل آليات إنتاج و إعادة إنتاج ثروات مضافة؟
انه تساؤل يجعل المرء يتصبب عرقا باردا بفعل عدم تلاؤم هذا الإجراء مع طبيعة الظرف و طامة المشاكل التي مازالت تعيشها البلاد. انه إجراء يدفع المرء دفعا إلى التساؤل هل سياسة المكر مكر السياسة مازال نهجا سائدا بالبلاد؟ أم أن الأمر يتعلق باستمرار سيادة عقلية و سياسة الامتنيازات التي أوصلت المغرب إلى ما هو عليه الآن من المعضلات المستعصية الحل؟

ففي السابق كان الحديث ليس على زيادة تعويضات البرلمانيين و إنما على توفير مصاريف الدائرة الانتخابية للبرلماني قصد توفير مداومة و كراء مكتب كأن البرلماني سقط من السماء لا حزب له و لا مقر لحزبه بمدينته. المهم مادامت هناك أولويات أكثر حيوية من زيادة تعويضات البرلمانيين و التي هي أصلا تعويضات سبق انتقادها بشدة استنادا على أكثر من معطى، حتى مقارنة بالدول الأخرى الأغنى من المغرب، فانه إجراء يظل نشازا في الواقع الحالي و بمختلف المقاييس، و هذا كاف و زيادة لإفقادها الطابع المشروع و العقلاني حاليا، لأنها في آخر المطاف ستكون مقتطعة اقتطاعا على حساب حاجيات أساسية لجملة من الفئات و مثال ذلك العاملين بالتعاون الوطني و دون أخذ رأيها في الموضوع.

و في هذا الصدد حتى إذا كان لابد من الزيادة لتغطية مصاريف اقترح البعض اقتطاعها من تعويض النواب الذين لا مردودية لهم تذكر بالمجلس.

و عموما يأتي هذا الإجراء في وقت بدأ فيه الحديث الواضح بدون لف و لا دوران حول المطالبة بضرورة إعادة النظر في الأجور و المرتبات "الطيطانيكية" لبعض الفئات من الموظفين باعتباره من المطالب العادلة في ظل دولة الحق و القانون رغم أنه يبدو من المستحيل تحقيقه حاليا ببلادنا، و رغم أن الوضعية ليست على ما يرام و ذلك منذ سنوات على الصعيد المالي و الاقتصادي. فالدين الخارجي مازال يجثم بثقله على الميزانية العامة و مازالت البلاد تحتل المرتبة 126 في الترتيب العالمي و هذا إن دل على شيء فإنما يدل على وضعية لا داعي لوصفها. و لعل المظاهر اليومية للواقع المتأزم بادية للعيان، بطالة تتراكم حتى وسط المتعلمين و المؤهلين و الشوق للهجرة بأي ثمن يزداد كل يوم بل كل ثانية و فرار الأدمغة أضحى في واضحة النهار و بشكل لم يسبق له مثيل. أليست هذه الوضعية تدعو إلى التضامن عوض تبذير الميزانية التي هي أصلا غير كافية للتصدي للمتطلبات الأكثر إلحاحا، ناهيك عن الملحة و الضرورية منها؟ أليس هذه، و الحالة هاته يعتبر استفزازا صارخا لشعور أوسع فئات الشعب المغربي الذي طال انتظاره منذ عقود لمعاينه إقرار شروط عيش الكفاف، و في وقت يظل الفقر ضاربا أطنابه بالمجتمع و تتسع فيه دوائر الإقصاء و التهميش يوميا بفعل هذا الفقر المستشري؟

فكيف يعقل تكريس هذا التفكير في وقت مازال فيه أغلب المغاربة يتساءلون بعمق عن دور البرلمانيين بالمغرب و مردوديتهم الفعلية، العملية و الفكرية و السلوكية في مجال قيامهم بالدور الموكول إليهم ؟

لقد كانت هناك عدة ردود فعل حول زيادة تعويضات البرلمانيين بالمغرب و التي قد تبلغ 43 ألف درهم مع الإقرار في نظام المعاش بمبلغ 1000 درهم عن كل سنة من العضوية بالبرلمان، و هو إجراء إن تم تطبيقه سيستفيد منه النواب ابتداءا من سنة 2004 و عددهم 595 (325 من النواب و 325 من المستشارين)، و هذا إضافة و علاوة على تمتيع أعضاء المكتب و رؤساء الفرق و رؤساء اللجن بسيارات خاصة من أجل التنقل. و فيم يخص المعاش فسيبلغ 6000 درهم شهريا للولاية الأولى و 7000 درهم للولاية الثانية و 9000 درهم إذا تمكن المعني بالأمر من الولاية الثالثة. و هذا علاوة على امتيازات أخرى منها ما هو مرئي و منها ما هو مخفي، كمجانية تذكرة القطار بالدرجة الأولى و خصم 50 في المائة من تذكرة الطائرة. و كل هذه الامتيازات تهدى للنائب ليتمكن من الدفاع على حقوق المواطنين و تمكين المعطلين من مكان تحت شمس وطنهم و توفير العيش الكريم لأغلب المغاربة الذين لازالوا يعيشون في البأس، و توفير لهم ولو النذر اليسير من متطلبات العيش الكريم.

و يقول البعض أنه يمكن تفسير رفع تعويضات النواب استنادا على عاملين، و أولهما أن بعض الأحزاب السياسية ( و هي كثيرة) كانت وسيلة لصنع نخبة مدجنة و قامت بوظيفة التدجين الشيء الذي يقتضي اللجوء إلى الامتيازات و المزيد منها. و ثانيهما ضغوطات مجلس النواب و المستشارين على الحكومة من أجل الرفع من تعويضاتهم و معاشاتهم وصلت إلى حد التلويح بالتهديد بعدم التصويت على القانون المالي المقبل.
و ربما هذا ما يفسر عدم التعامل مع هذه الإشكالية بمسؤولية و مصداقية اعتبارا لكون الأمر، أولا و قبل كل شيء، يستدعي الالتفات إلى الأجور الدنيا للعمال و الموظفين الصغار التي هي في حاجة ماسة أكثر من غيرها إلى المراجعة حتى تكون قادرة على تحمل تكاليف ضروريات الحياة قبل النظر في الأول و التعويضات "الطيطانيكية" التي أثقلت و لازالت تثقل على امتداد عقود كاهل المالية العامة و خزينة الدولة علما أنها في غالبيتها تقتطع اقتطاعا من جوع أوسع الفئات كضرائب.
و في هذا الصدد و من أجل التقليل من وطأة الكارثة التي ستحدثها لا محالة زيادة تعويضات البرلمانيين بالمغرب، اقترح البعض تخصيص ميزانية لكل فريق نيابي للقيام بمهامه عوض اعتماد نظام الامتيازات و التعويضات. خصوصا و أن هناك مطالب أكيدة من طرف أكثر من جهة و منذ أمد طويل بضرورة مراجعة نظام الأجور بالمغرب و إعادة النظر في رواتب الوزراء و مديري المؤسسات العمومية و الموظفين السامين.
و قال قائل، عوض الزيادة في تعويضات النواب، كان من الأولى تخصيص ذلك الغلاف المالي أو بعضه لتجهيز النواب دوي المردودية بالكاتب و وسائل التجهيز كالطبع و الحواسيب و الموظفين، و هذا إجراء من شأن لن يحدث تذمرا بين أوسع فئات الشعب المغربي التي مازالت تلهث وراء سد رمق العيش. و ذلك لأن الظرف الذي تجتازه البلاد لا يستوجب نوابا يعتمدون على الامتيازات أو كم سوف يتقاضون و إنما يستوجب أولا و قبل كل شيء نوابا أكفاء مستعدين للتضحية و تحمل المسؤولية تمثيل الشعب دون الدخول في حسابات كم سيربحون و كم هم خاسرون، و إلا عليهم تنحية أنفسهم من القيام بهذه المهة حاليا و انتظار ظرفا آخر.

و يرى البعض أن طبيعة الامتيازات المخولة للبرلماني، بالنظر إلى حجم العمل المقدم تبدو جد مرتفعة و غير مستحقة، في حين يرى البعض الآخر أن تكاليف البرلماني تستلزم رفع تعويضاته. لا سيما و أن بعض البرلمانيين ينتخبون بطرق غير ديموقراطية و غير مؤطرين من قبل أحزابهم، علاوة على عدم الانضباط و ضعف الثقافة الديموقراطية و المواطنة.
و يزداد تذمر الرأي العام عند سماعه بزيادة تعويضات البرلمانيين لاسيما و قد جرت العادة على معاينة جملة من النواب من الذين لا يحضرون إلا لماما، بل منهم من لا يزور قبة البرلمان إلا مرة واحدة في السنة بمناسبة افتتاح السنة التشريعية ثم يختفي لينتظر السنة القادمة. و هناك جملة منهم من يحضرون كزوار و ضيوف لا يناقشون و لا يساهمون و لا يشاركون و لا يقترحون و لا يعارضون. و هذا لا ينفي أن هناك فئة – قليلة جدا مع الأسف الشديد- من النواب تعمل بكل ما أوتيت من قوة لتضطلع بالأمانة التي على عاتقها بإخلاص و مصداقية و نزاهة و مسؤولية.

و الذي يحز في القلب فعلا هو أن فكرة المطالبة بالزيادة ليست وليدة اليوم و إنما جاءت في مرحلة كانت فيها الحكومة تنادي و لازالت بإقرار سياسة ترشيد النفقات و التخفيف من عجز الميزانية و التقليص من المديونية الخارجية للتحكم في التوازنات المالية الكبرى، و كأن برلمانيي المغرب الذين مهمتهم صنع القانون، لا تهمهم وضعية البلاد و ضائقتها المالية، إذ آنذاك كانت المؤسسات المالية الدولية تلح على تقليص الأجور و التعويضات و تقريب الهوة بين فئات مسؤولي و موظفي الدولة في هذا المجال.

و الآن كذلك فان إشكالية رفع تعويضات النواب تأتي في ظرفية لا يقهم فيها الرأي العام المغربي مدى مصداقية هذا القرار و معقوليته لا سيما و أن هناك فئات واسعة من الموظفين و الشغيلة مازالوا لم يتمكنوا حتى من ضمان أجور توفر لهم الحد الأدنى الفعلي لمواجهة الضروريات الحيوية للحياة. و ذلك علاوة على أن القرار يأتي في ظرف ترتفع فيه الحركات الاحتجاجية للمعطلين حملة الشهادات. و بالتالي فكيف يمكن للرأي العام أن يفهم مثل هذه القرارات العبثية في نظر الكثيرين، ما دامت الحكومة غير قادرة على إيجاد مناصب شغل للمعطلين في القوانين المالية المعاقبة، لكنها في قدرتها إضافة تعويضات ل 325 نائب و نائبة و 270 مستشارا هم في غنى عنه لأن الوكالة النيابية و التمثيل السياسي بين الناخب و المنتخب يدخل في إطار علاقة دستورية تتأسس أولا وقبل كل شيء على المصلحة العامة و الشأن العام. و الغريب هو أن هذه الزيادة تأتي بالتمام و الكمال في وقت تنادي فيه الحكومة – صاحبة هذا القرار- بالتقشف و ترشيد النفقات. فكيف و الحالة هاته يمكن للرأي العام أن يجد تفسيرا موضوعيا و معقولا لذلك القرار و كيف ينظر إلى مصداقية الحكومة و نزاهتها بعد اتخاذه؟

كما أن تلك الزيادة تأتي في وقت تأكد فيه الجميع استمرار تفشي الإشكالات البنيوية داخل البرلمان من تغيب و ترحال و عدم توفر جملة من الفرق البرلمانية على مرجعية إيديولوجية واضحة المعالم أو قواعد تنظيمية تعمل بها. و فوق هذا وذاك فان قرار الزيادة لم يشمل موظفي البرلمان رغم دورهم الهام في العمل البرلماني.

و خلاصة القول أن هذه الزيادة المرصودة ستبلغ شهريا ما يفوق 3.400.000 درهم ( أي 340 مليون سنتيما شهريا) هذا دون احتساب المعاشات و ما أكثرها، فكم من فرصة يا ترى يمكن لهذا المبلغ إحداثها؟ و هل لا يمكنه حل إشكالية العاملين بالتعاون الوطني و التي سبق أن وصفها البعض بوصمة عار على جبهة الحكومة؟ و يمكن الاسترسال في مثل هذه التساؤلات اعتبارا لكثرة المشاكل التي لا زال يتخبط فيها العباد و البلاد بالمغرب و كلها ذات أولوية أكيدة مقارنة مع إشكالية زيادة تعويضات النواب المحترمين.

قضايا حقوقية

 حول مصداقية المنظمات الحقوقية
 حقوق الانسان و التربية عليها
 من أجل إعدام عقوبة الاعدام
 الحقيقة أولا...الحقيقة دائما
 حق تقرير المصير في نظر الجمعية المغربية لحقوق الانسان

حول مصداقية المنظمات الحقوقية

كيف يرى المواطن مصداقية الجمعيات والمنظمات الحقوقية ؟ إنه سؤال أضحى من الضروري محاولة الإجابة عليه ، لاسيما وأن أغلب هذه التنظيمات تجاوزت مرحلة النشأة منذ مدة.
وعموما يمكن رصد تأثير أي جمعية وفي أي مجال على أرض الواقع الفعلي، وهذا رصد خارجي، أو رصد عملها الداخلي وهما معا.

ففي الظاهر كل جمعية تدعي أن لها أجندة، لكن هل تعمل بها فعلا ؟.

ولعل أول مؤشر في هذا المجال هو الشفافية، رغم أن عنصر الشفافية لا يمثل إلا جزء من مكونات المصداقية. فمن المفروض أن تكون الشفافية حاضرة في مختلف تنظيمات المجتمع المدني.

فمن المؤشرات الأخرى للمصداقية، هناك دقة المعلومات وصحتها، وهذا أمر لا يمكن ضمانه إلا إذا توفرت الجمعية أو المنظمة على هيكلة مضبوطة.

وفي هذا المقام يمكن التساؤل: كيف يمكن خدمة مصداقية جمعية أو منظمة حقوقية في حالة عدم تمييزها بين انتهاك وخرق وجريمة ؟ قد تبدو هذه الإشكالية بسيطة لكنها ذات تأثيرالحقوقي. خدمة المصداقية من عدمها، لأن الخلط بين تلك الأمور من شأنه أن ينال بصفة مباشرة من مصداقية الجمعية أو التنشيط الحقوقي . كما أن المصداقية غالبا ما ترتبط بالمفارقات القائمة بين الأدبيات والخطابات من جهة والسلوك اليومي لأعضاء الجمعية بارزة على أكثر من مستوى وتساهم بدرجة كبيرة في التأثير البالغ على المصداقية.

كما أنه من أهم مؤشرات المصداقية التجدر أو التواجد في أوسع الجماهير أو في جزء مهم من الرأي العام، وكذلك يمكن تقالمجتمع.اقية من خلال علاقات الجمعية مع مختلف المؤسسات والتنظيمات (الإعلام، البرلمان، القضاة، الخبراء، الهيئات المهنية، مجموعات الضغط...) فهناك علاقة وثيقة بين المصداقية وبين قدرة الجمعية أو المنظمة على خلق جسور وشبكة علاقات مع مختلف الفاعلين في المجتمع.
ومن مؤشرات المصداقية صيرورة توسيع صفوف الجمعية أو المنظمة وتكاثر منخرطيها والمتعاطفين معها، فلا زلنا إلى حد الآن نلاحظ نفس الحضور ونفس الوجوه في كل مناسبة أو نشاط، بل هناك دائما بعض الأشخاص القلائل الذين يضمنون استمرارية الجمعية أو المنظمة وحال غيابهم يبدو التأثير بارزا، وهذا يضر كثيرا بالمصداقية. وفي الواقع هذا أمر مرتبط بتكوين أطر الخلف. وفي هذا المضمار هناك مفارقة غريبة من العسير جدا فهمها، وهي: كيف أن جمعية أو منظمة تدعي تكوين الآخرين ولا تقوى على تكوين أعضائها كسبيل من سبل ضمان استمراريتها؟

وهناك كذلك مؤشر آخر للمصداقية وهو الصلاحية. فإذا كانت جمعية أو منظمة تهتم بكل الحقوق يصعب عليها أن تكون مجدية في عملها، لكنها إذا تخصصت في مجال معين، فإن مصداقيتها تتأكد، لاسيما وأنها ستفرض نفسها كطرف لابد من اللجوء إليه في نطاق اهتمامه اعتبارا لتخصصه فيه ولدرايته به أكثر من أي طرف آخر وهنا تتجلى صفة الخبرة في ميدان ما وهي أعلى مرحلة لتثبيت المصداقية.

كما أن هذا التخصص من شأنه أن يكون من العناصر التي تسهل الحصول على التمويل من أجل إنجاز البرامج المعتمدة.
ومن المؤشرات المهمة للمصداقية هناك الحرفية. فكلما كانت جمعية أو منظمة تعمل بشروط الحرفية فإن مصداقيتها تتقوى وتتأكد، في حين نلاحظ أن العمل التطوعي في مجال النشاط الحقوقي لازال غالبا ببلادنا بل لا وجود للحرفية في هذا المجال عندنا.

تعليم حقوق الإنسان والتربية عليها

أضحت ثقافة حقوق الإنسان في نظر الجميع معيارا حقيقيا لكل تقدم واستراتيجية تنموية. إن تعزيز هذه الحقوق يعتبر الهدف العام لكل المجتمع الدولي، وبالتالي لا يمكن ترك أي وسيلة سلمية لمواجهة انتهاكاتها.

إن تعليم ونشر حقوق الإنسان، في واقع الأمر، يشكل حقا أصيلا من حقوق الناس، وتعتبر مسؤولية الحكومة في هذا الصدد مسؤولية كبرى في الترويج والتعريف بمبادئ حقوق الإنسان وآليات حمايتها ونشر ثقافتها.
إن قيم حقوق الإنسان هي ثمرة تفاعل وتواصل الحضارات والثقافات عبر التاريخ وحصاد كفاح كافة الشعوب ضد كافة أشكال الظلم والقهر الداخلي والخارجي. وبهذا المعنى فهي ملك للبشرية جمعاء. وفي هذا الإطار لا عالمية مبادئ حقوق الإنسان وعلى الترابط الوثيق بين الحقوق المدنية والسياسة والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحقوق التضامنية، وعلى اعتمادها المتبادل على بعضها البعض وعدم قابليتها للتجزئة، وأن حقوق المرأة هي جزء أصيل من منظومة حقوق الإنسان. كما أن الخصوصية الثقافية والحضارية التي ينبغي الاحتفاء بها باعتبارها حقا من حقوق الإنسان ـ هي تلك التي ترسخ شعور الإنسان بالكرامة والمساواة، وتعزز مشاركته في إدارة شؤون بلاده، وتنمي لديه الإحساس والوعي بوحدة المصير مع الإنسان في كل مكان ولا تتخذ ذريعة لتهميش المرأة وتكريس الوضع المتدني لها، وإقصاء الآخر بسبب أي اعتبارات دينية أو ثقافية أو سياسية أو التملص من الالتزام بالمواثيق الدولية.
والتعليم والتربية على حقوق الإنسان مازال في بدايته ببلادنا، إذ ما زلنا في بداية الدرب وطور بلورة استراتيجية في هذا الصدد وإعداد البنية التشريعية والقانونية والتنظيمية والهيكلية لهذا النوع من التعليم والتربية لذا يكتسي موضوع التعليم والتربية على حقوق الإنسان أهمية بالغة بالنسبة لكافة المواطنين ولمستقبل الأجيال في الظروف الراهنة التي أصبحت فيها حقوق الإنسان ركنا أساسيا في بناء المجتمع وديمومته.
لكن ماذا نعني بتعليم حقوق الإنسان ؟

إن تعبير تعليم حقوق الإنسان يعني كل سبل التعلم التي تؤدي إلى تطوير معرفة ومهارات وقيم حقوق الإنسان. ويتناول تعليم حقوق الإنسان تقديم المتعلم وفهمه لهذه الحقوق ومبادئها التي يشكل عدم مراعاتها مشكلة للمجتمع . ويعني هذا التعليم بالجمع بين النظر إلى المحيط، ويركز بالضرورة على الفرد من منظور اكتسابه المعرفة والقيم والمهارات التي تتعلق بتطبيق وتكريس قيم حقوق الإنسان في علاقة الشخص مع أفراد عائلته ومجتمعه مع اعتبار المضامين الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية.

وفي هذا الإطار تتجلى أهمية الدورات التدريبية والفضاءات الإعلامية الخاصة بحقوق الإنسان والأنشطة الحقوقية عموما.
إن التربية على حقوق الإنسان هو فعل تربوي يومي طويل النفس وعلى واجهات مختلفة. إنها تهدف بالأساس إلى تكوين مواطني الغد واعين بحقوقهم وقادرين على الدفاع عنها وممارستها. وبذلك فهي مسؤولية الجميع بدون استثناء. إن التربية على حقوق الإنسان هي في الواقع حركة مدنية واسعة النطاق.

إنها في الجوهر مشروع تمكين الناس من الإلمام بالمعارف الأساسية اللازمة لتحررهم من كافة صور القمع والاضطهاد وغرس الشعور بالمسؤولية تجاه حقوق الأفراد والجماعات والمصالح العامة.

وتشمل ثقافة حقوق الإنسان القيم والبنى الذهنية والسلوكية والتراث الثقافي والتقاليد والأعراف المنسجمة مع مبادئ حقوق الإنسان ووسائل التنشئة التي تنقل هذه الثقافة في البيت والمدرسة والعمل والهيئات الوسيطة ووسائل الإعلام.
إن احترام حقوق الإنسان هو مصلحة عليا لكل فرد وجماعة وشعب والإنسانية جمعاء، باعتبار أن تمتع كل فرد بالكرامة والحرية والمساواة هو عامل حاسم في ازدهار الشخصية الإنسانية وفي النهوض بالأوطان وتنمية ثرواتها المادية والبشرية وفي تعزيز الشعور بالمواطنة كاملة غير منقوصة.
فلا يكفي ترديد مبادئ حقوق الإنسان وانتظار من الناس أن تتبناها، بل يجب ربط هذه المبادئ بالحياة اليومية والثقافات المحلية لتبيان أن تبنيها سيساعد في تحسين التواصل والتفاهم والتسامح والمساواة والاستقامة. فلا يمكن تعليم حقوق الإنسان في فراغ، بل لا مناص من تعليمها من خلال تطبيقها وتكريسها مباشرة على أرض الواقع وفي هذا الصدد إن تعليم حقوق الإنسان في فراغ دون ربطه بالواقع المعيش من شأنه أن يؤدي إلى التعرف السطحي على حقوق لا يمكن تحقيقها حاليا الشيء الذي قد يؤدي بدوره إلى عكس المنتظر.
وهناك عدة مناهج يمكن اعتمادها لتكريس حقوق الإنسان ونشرها. ومن ضمنها الأخلاق والتربية الوطنية والتربية على المواطنة والتربية ذات البعد العالمي والتربية على التعامل مع وسائل الإعلام والارتقاء بحقوق الإنسان والدفاع عنها والمنهج المعتمد على الثقافة العامة.

ومنهج الأخلاق والتربية الوطنية يعتمد على إعداد الأطفال للعب دور المواطن عبر تعليمه الحقوق والواجبات، واعتبار لكون الأخلاق والتربية الوطنية تؤسس للتربية على المواطنة.
أما التربية على المواطنة فتعتمد حقوق الإنسان السياسية وثقافة الديموقراطية والتنمية والتسامح والسلم الاجتماعي.
وفيما يخص التربية ذات البعد العالمي، فإنها تعتمد على فهم التعاون والسلام العالمي ومبادئ حقوق الإنسان والحريات الأساسية.

في حين تسعى التربية على التعامل مع وسائل الإعلام لتطوير قدرة الطفل أو الشاب على فرز وتحليل المعلومات التي تبثها وسائل الإعلام وتدريبه على بلورة تفكير نقدي في المناقشة والبحث على الوقائع والدلائل وتثمين وتقييم عواقب مختلف الإعلانات المذاعة والأعمال المنجزة.

والارتقاء بحقوق الإنسان والدفاع عنها، فإنه نهج يعنى باحترام حقوق الإنسان والاهتمام بالمطالبة بها والدفاع عنها. وهذا نهج يعطي بعدا آخر للتربية على حقوق الإنسان، أي إعداد المتلقي لتكريسها والاهتمام بالدفاع عنها ونشرها في بيئته.
أما المنهج المعتمد على الثقافة العامة، أنه يسعى إلى استعمال الثقافة الشعبية والمسرح والأمثال والحاكيات لفهم فحوى حقوق الإنسان. علما أن هذه الحقوق لا يمكن استيعابها إلا عبر مختلف مكونات الثقافة السائدة في المجتمع.

ونموذج " القيم والوعي " يرتكز بالأساس على نشر المعرفة الأساسية لقضايا حقوق الإنسان وتعزيز اندماجها بالقيم العامة والهدف هو إدراك والتزام الأهداف لمعيارية التي يتضمنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق والعهود الدولية المرتبطة به. والاستراتيجية التربوية المتبعة في هذا النموذج هي المشاركة لاجتذاب اهتمام الأشخاص المراد تعليمهم، والمقصود هو الدعم الجماهيري لحقوق الإنسان للضغط على السلطات لحمايتها.

إن ما يتوخاه تعليم حقوق الإنسان في نهاية المطاف هو العمل على إشاعة ثقافة حقوق الإنسان في مجتمعنا، وبالتالي تبني هذه الحقوق والدفاع عنها. إلا أنه يجب أن يكون تعليم حقوق الإنسان مصمما ضمن استراتيجية واضحة المقاصد، ما دام يتعدى مجرد التعرف عن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق والعهود المرتبطة بتلك الحقوق إلى التعرف على آليات تفعيل الحقوق وآليات الحماية المتصلة بها وكيفية استخدامها.

كما أن تعليم حقوق الإنسان عليه أن ينطبق على حياة الناس اليومية وعلى استخدام أساليب تضمن اكتساب مهارات التعبير عن المواقف ومهارات تطوير المعارف في مجال تلك الحقوق أكثر ما يتصل بمجرد إلقاء محاضرات وتنظيم مناظرات أو ندوات. ويمكن إجمال أهداف التربية على حقوق الإنسان في تنمية الشخصية تجدير الإحساس بالكرامة والحرية والمساواة والعدل الاجتماعي والممارسة الديموقراطية. وذلك عبر تعزيز وعي المواطنين بحقوقهم قصد تمكينهم من تحويل مبادئ حقوق الإنسان إلى حقيقة اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية ورفع قدرتهم على الدفاع عنها وصيانتها.

فلا مندوحة إذن عن بلورة استراتيجية خاصة بتعليم حقوق الإنسان والتربية عليها، وعلى هذه الاستراتيجية تبيان كيفية تجدير مبادئ حقوق الإنسان وسط المجتمع على المدى القصير والوسائل المعتمدة الموصلة لذلك. ولعل أول ما يجب الإقرار به هو اعتماد حقوق الإنسان كمادة وتحديد نسبة زمنية مخصصة لها ضمن استعمال الزمن الإجمالي للبرامج، لكن كمادة مصممة لتتداخل مع جميع المناهج الدراسية وأن لا تبقى كمادة ثانوية للديكور فحسب. وهذا هو الإطار العام والحد الأدنى من الشروط الكفيلة بتحويل مادة حقوق الإنسان إلى مادة لها خصوصيتها وقيمتها شأنها شأن المواد الدراسية الأخرى.

كما أن لوسائل الإعلام دورا حيويا وجوهريا في هذا الصدد إذ عليها أن تساهم فعلا وفعليا في خدمة التربية والتثقيف في مجال التربية على حقوق الإنسان والديموقراطية، وذلك عبر منهجية شاملة تربط بين المعرفة والوجدان والأداء.

وبهذا المنظور يمكن لتعليم حقوق الإنسان والتربية عليها أن يتطور ليصبح حقلا تربويا كاملا ونهجا لدراسة أوضاع المجتمع وبنائه، لاسيما وأن هناك علاقة وثيقة بين عدم احترام حقوق الإنسان وتفشي الفقر والفساد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى