الأربعاء ٢٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧
بقلم
عبد اللطيف لن يحضر ليلة الدخلة
السماء غائمة والشمس مازالت كعهدي بها منذ خمسين عاما ,تخجل من الظهور وفق مدارنا الصفيحي ,كل يوم أفتح الكوة المطلة على المزبلة ,فلا أجد التراكم إلا متناسلا أكثر,يتحلق حوله السخرة من الأطفال, بحثا عما يحولونه قطعا نقدية في المساء , غير مبالين برائحة تزكم أنوفهم أو نفايات تهرق بقاياها على صدورهم ,تماما كما كنت تفعل قبل ارتحالك إلى خالك في القرية ,أحاول أن أتذكر العمر الذي تركتني فيه ,أُفكِّر كثيرا في اللحظة التي ودَّعتَني فيها , وأمُّك تنتظر خلف الباب ,من فرط الضّرّ الذي مسَّني بعد ارتحالك ,أظلمتْ في عينيَّ الدنيا , تاركة للنسيان مساحة كبيرة بداخلي ,أظن أن سنك ساعتها لم يجاوز العشر , سمعت في المذياع عن حادث محاولة الانقلاب الفاشلة , وأنت في الطريق لم تبلغ رأس الحارة ,ثم سمعت لسنوات بعد ذلك عن تاريخ الحادث , فربطتك به ,صرت إذا سألني أحد عنك , أذرف دمعة ساخنة ,ثم أُذكِّر سائلي بحرقة الشوق إلى رؤيتك ,يزْوَرُّ عنِّي ,كأنِّي به يريد أن أفرح معه بذكرى الدم ,بينما لم يكن يشغلني منها غير ندوب ما زالت تحفر في الوجدان ,ساد الهرج والمرج في الحارة , وغلقت المنافذ إلى كل المدن الكبرى ,قيل لي بأن المناسبة كانت فرصة للانتقام وتصفية الحسابات باسم الدفاع عن السلطة , أبيحت كل المحرمات , ما ظهر منها وما بطن,أما أنا , فلم يتحرَّك فـيَّ ساكن , كان انشغالي برحيلك وحده همِّيَ الأكبر ,بعدما طالت الغيبة وأخذت تتلاشى الصورة , بلغ إلى علم " القايد " ما أُحدِّث الناس به في شأن رحيلك يوم الانقلاب ,طلبني على عجل ,رغم عجزي عن الحركة بغير عكاز , لم يمهلني " المقدم " دقيقة واحدة ,سعيت إلى جر لسانه لمعرفة سبب الاستدعاء , غير أنه ظل واجما طول الطريق ,لم يزد على جملة واحدة حرفا :القضية عندك حامضةالحقيقة ,ابتسمت بقدر انفتاح شفتيَّ المتعبتين ,لكنني وجدتني بسرعة أحاول تذكر ما حدث لي مع العالم منذ أسبوع , لم أقبض إلا على الريح ,وحين فاجأني " السيد القايد " بالسؤال عن حكايتي مع الانقلاب , ظننته يسألني عن ذلك اليوم , أين كنت ؟ ومع من كنت ؟تصور يا ولدي أنه وضع يده على خده وهو يستمع إلي بإمعان ,رجل السلطة بقده وقامته يصغي لروايتي عن موقع تواجدي ونشاطي ذلك اليوم ,حدثه عن مجيئ أمك رفقة خالك " الفقيه " , من أجل انتزاعك مني بالقوة , بدعوى الإهمال الذي لحقك , بعدما توقفت عن العمل بسبب العجز ,يمر عليَّ الزبائن في " الموقف " دون انتباه لوجودي , لم أعد أصلح لشيء ,يعودني بعض الأصحاب في " البراكة " التي تأويني , تاركين خلفهم بعض الزاد من الخبز والحليب ,وأثناء أحاديثنا , لا يحضرني إلا خيالك مقرونا بذلك اليوم ,هذا ما قلته ,لكنه لم يصدق حكايتي في البداية , و لم تنفرج أساريره إلا بعد تبادل نظرات مع " المقدم" الذي يبدو أنه زكى كلامي ,و عدت مع الظهيرة , أخترق نفس الرائحة الكريهة , والشمس ما زالت تتأبى عن الكرم ولو بوميض شعاع يدفئ البرودة في أوصالي,ليتك تأتي يا " عبد اللطيف ",فلديَّ كثير من الحكايا عن الوطن الذي تركتني فيه ,كم أتمنَّى أن تعود ,إن لم يكن لإنقاذي من الغربة التي تمزِّقني ,فلْيكن من أجل رؤية وجهك مرة واحدة قبل مماتي.أبوكعبد الله