الثلاثاء ١٣ شباط (فبراير) ٢٠٠٧
بقلم جميل حمداوي

عبد الله المتقي والقصة القصيرة جدا

عبد الله المتقي من أهم كتاب القصة القصيرة جدا بالمغرب إلى جانب قيدومها حسن برطال وروادها المبدعين كفاطمة بوزيان وسعيد منتسب ومصطفى لغريتي وعز الدين الماعزي....ويتميز عبد الله المتقي بالجرأة في طرح المواضيع الحساسة والالتزام بقضايا الواقع والتسلح بخطاب السخرية والباروديا لتعرية تناقضات المجتمع والثورة على مواضعاته المتردية بكتابة حبلى بالإيجاز والإدهاش والترميز والتخييل كما في مجموعته القصصية" الكرسي الأزرق". إذا فما سماتها المناصية والدلالية والفنية والمرجعية؟

1- المستوى المناصي:

صدرت مجموعة عبد الله المتقي" الكرسي الأزرق" في طبعتها الأولى سنة 2005م في إطار منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب التي تنشط باستمرار وبكل حيوية داخل كلية الآداب والعلوم الإنسانية بن مسيك بالدار البيضاء. وقد تزينت المجموعة بلوحة تجريدية في الواجهة الأمامية رسمها آن يورو. وتقع المجموعة في ثمان وستين صفحة من الحجم المتوسط بمقاس(20 سم/13سم). وتضم المجموعة ثماني وخمسين قصة قصيرة جدا أصغرها قصة " فوطوكوبي" في أربعة أسطر وأكبرها قصة "غرفة للذكريات فقط" في صفحتين تقريبا.
وإذا كان عزالدين الماعزي يؤشر قصصه بمصطلح" قصص قصيرة جدا"، فإن عبد الله المتقي يسمي ما يكتبه " قصصا". وهذا يعني أن هذا الجنس الأدبي الجديد مازال يعرف اضطرابا اصطلاحيا في العالم العربي ولم يتحدد بعد باعتباره فنا له قواعده وضوابطه التجنيسية ؛ لذلك كثرت أسماؤه ومصطلحاته ومفاهيمه وتعددت ألوانه من كاتب لآخر.
هذا، ويتسم العنوان الخارجي بالخاصية الفانطاستيكية إذا ربطناه بالسياق النصي ، إذ تتحول الشخصيات في النص القصصي الذي يحيل على العنوان الخارجي إلى شخصيات ممسوخة تعبر عن صراع الأزواج أو العشاق وسوء تفاهمهم على مستوى التواصل الإنساني. ومن هنا فإن انقلاب الكرسي عند مدخل المنزل هو تعبير صادق عن انقلاب المعايير والقيم الاجتماعية والأخلاقية:" الكرسي الذي يقف على رجليه، يبدو الآن مستلقيا على قفاه قرب الباب، يتأمل تلك المرأة التي تتصبب عرقا مالحا وعطرا، وذلك الرجل الذي يلهث تباعا وسراعا.
الكرسي الأزرق يقطب جبينه الآن، لأن هذه المرأة التي تجفف جسدها، كانت تموء كهرة قبل قليل، وتنشب أظافرها بين كتفيه."(ص: 67).

وإذا كانت العناوين الداخلية للمجموعة القصصية تتأرجح بين التقريرية والرمزية، فثمة عناوين تطفح بالتناصية على غرار عناوين القصة القصيرة جدا في أمريكا اللاتينية. ومن العناوين التي تحمل طاقة إحالية نذكر: طوق حمامة، و بروميثيوس ، وتوم وجيري، وتفاحة نيوتن، وكابتشينو، وشيموس هيني..... و ثمة عناوين لا علاقة لها بالنصوص إلا من باب المفارقة والسخرية والترميز والإحالة التناصية كما في ( طوق حمامة) و( غشت)....
ويستند الإهداء إلى الميثاق الفني بين المبدع عبد الله المتقي والفنان المغربي المشهور سعيد الفاضلي. كما اعتمد الكاتب على مقتبس نصي لطاهر جاووت يربط فيه الكاتب الكتابة بالموت وجودا وعدما" ستموت إن كتبت، وستموت إن لم تكتب...فاكتب ومت...".

2- المستــــوى الدلالـــــي:

تعالج مجموعة عبد الله المتقي " الكرسي الأزرق" مجموعة من التيمات و الموضوعات والقضايا التي تناولتها حتى المجموعات القصصية لكتاب أمريكا اللاتينية كإشكالية الكتابة والإبداع ، والطفولة ، والصراع الاجتماعي، والمرأة ، والجنس، والأحوال الشخصية، والجريمة،والموت، والحرب والسلام، والقحط والمطر،والمجون والاستهتار، والفقر والحرمان، والامتساخ والتحول، والحب والجسد، والوحدة والكآبة، و الهجرة السرية، والاستغلال والاستلاب الاجتماعي، و الإنسان والعالم الرقمي، والانجذاب الروحي والعرفاني.
وعليه، فلقد صور عبد الله المتقي في مجموعته خصوصيات الأنثى والجسد بطريقة بورنوغرافية تتداخل فيها الغواية والافتتان واللذة الشبقية ، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على انحطاط القيم في المجتمع المغربي وتردي المرأة في مهاوي الرذيلة و تفسخ المجتمع أخلاقيا:" ارتدت فستانا عاريا، هيأت المائدة، وتمددت فوق السرير.
الساعة التاسعة، ولا أحد بالباب.
تأملت المرود وقارورة الكحول، وتنصلت من تبانها.
تأملت طبق الفستق، والقنينتين، ثم ترنحت كاللبؤة فوق السرير.
العاشرة ليلا
ولا...لا أحد بالباب
و...
ورن هاتفها الخلوي:
أعتذر... مداومة طارئة."(ص:36).

ويحضر المطر كثيرا في قصص عبد الله المتقي للتأشير على الحياة والخصوبة والطفولة والدفء مقابل الجفاف والقحط الذين يحيلان على الموت والجدب وتوحش الإنسان وقسوة الطبيعة والواقع. وغالبا ما تمتزج صورة المطر عند الكاتب بصورة الطفولة كما في ( نكهة المطر):" كان للمطر في قلوبنا الصغيرة مكانة الحلوى المغموسة في عسل السكر، كان يبلل وجوهنا، يعطر الجو برائحة التراب، ويدغدغ مسامنا الصغيرة التي نشفت من القحط.
كنا نخرج لاستقباله كما لو كان عائدا من الطاليان، ينقط باردا فوق جلودنا العارية، يتسلل عبر ثقوب السقف، وينام معنا في الفراش...
وكان للمطر في قلوبنا الصغيرة، نكهة الشاي والخبز الحافي."(ص:40).

وفي قصة أخرى يربط الكاتب الطفولة بالمطر من خلال ترديد موال احتفالي لاستنزال المطر واستقطاره . ولكن تجري الرياح بما لاتشتهي السفن:" تحرك الهواء رذاذا، وسقط المطر،
نظر الأطفال إلى السماء ببهجة، وصاحوا بمرح:
أشتاتا تاتا...أولاد الحراثة.
ثم توقف المطر، وكأن قطرات لم تكن.
ظل الأطفال يراقبون السماء بدهشة وإعجاب.
بعد فترة، أشرقت الشمس، وعاد الأطفال لدائرة البلي."(ص:24)

وقد توفق عبد الله المتقي في تصوير غريزة الحب والتغلغل في نفسيات اللاشعور البشري من خلال استقراء العواطف الإنسانية والانجذاب نحو الأنثى والسمو بعاطفة الحب ورصد التواصل الوجداني بين العشاق كما يتجسد ذلك بكل صدق وانفعال شعوري متدفق بالنبضات الداخلية أثناء السفر كما في قصة( نافذة القطار):
" صعد سويا...
هي..
وضعت حقيبتها فوق الكرسي المقابل، ثم تحرك القطار.
هو
رمى جريدته برفق فوق حقيبتها وكان القطار قد بدأ يتحرك.
هي
أمعنت النظر في تقاسيم وجهه، كان شاربه متناسقا، وكانت عجلات القطار تداهم القضبان الحديدية بنهم، محدثة أصواتا صاخبة ومتناغمة، و...أغمضت عينيها.
هو
يتأمل شفتيها البنيتين، صدرها المنتفخ، وكانت عجلات القطار تدور بسرعة الضوء.
في محطة ما، توقف القطار، ونزل هو.
قبل المحطة الأخيرة بدقائق، استيقظت هي فزعة، تلفتت يمينا وشمالا، لم يكن هناك.
  لقد ن ز ل، همست لنفسها وتنهدت."(ص:42-43),

كما يستدعي الكاتب سياق مدونة الأحوال الشخصية المغربية ليبرز الصراعات الاجتماعية والنفسية والجنسية بين الذكورة/القوامة والأنوثة/ الجسد داخل المجتمع الذي بدأت فيه المرأة تستعيد أنفاسها وحقوقها الشخصية وتساويها بين الرجل بعد سنوات الاستلاب والتهميش والاستعباد :" هو
كان مستلقيا فوق السرير، يلاعب لحيته المشتعلة شيبا.
هي
كانت في المطبخ تغسل مخلاته من بقايا العلف.
هو
يتنصل من ملابسه ... يكح ليذكرها بالسرير.
هي
توغلت الكحة فيها كما السكين، وتحركت صوب الغرفة بكثييييير من القرف"(ص:48)

ويتغنى الشاعر بالسلام ويلعن الحرب والعنف والإرهاب والظلم ويشيد بالطفولة والبراءة الإنسانية. وبمجرد أن يحل السلام والأمن في العالم سرعان ما يعقبهما الحرب والخوف. :" حمامتان رشيقتان، تهذلان، ترفرفان، وطفل يكاد يطير فرحا.
لعب الطفل حتى شبع، ثم نام بهدوء في السطح، يحلم بحديقة للحمام.
حمام يرفرف فوق رأسه، وحمام يمشي رشيقا فوق العشب، وأكسترا من الهذيل..و...
يمر سرب من الطائرات الحربية.
يختفي الحمام
و..
يفتح الطفل عينيه خائفا.(ص: 10).

كما يطرح الكاتب في قصصه إشكالية الكتابة السردية أو الشعرية فيتحول الشاعر إلى زير النساء تارة، أو إلى مجنون تارة أخرى، كما يمجد الكاتب القصيدة الشعرية التي تقضي أويقاتها الماجنة بين الاستهتار واقتناص اللذات و يصورها الكاتب في صورة أنثى متسكعة في الشوارع عربيدة في ممشاها ومتعها:" نهضت القصيدة مبكرا إلى الواجبات التي عليها، رغم سهرها البارحة حد الأرق، صحبة شاعر مجنون، وقنينة نبيذ، وعلبة سجائر شقراء.
نزلت درج العمارة، تركت الباب مفتوحا على مصراعيه، لأنها تعرف مسبقا أن اللصوص لا يهتمون بدواوين الشعر ومسودات القصائد.
ودونما حاجة إلى سائق، يفتح لها باب سيارة فاخرة، مشت على الرصيف خببا"(ص:18).

ويصور الكاتب الفقر والجوع في كثير من قصصه القصيرة جدا بطريقة كاريكاتورية ساخرة أسّها المحاكاة الانتقادية والباروديا الموحية:" عاد الطفل على البيت جذلانا
بماله وملابسه
وقبل أن تضع أمه مائدة العشاء
يلاحقه صوتها:
هيا...اخلع ملابسك للعيد الماجي"( ص:16).

هذا، وتنقل لنا القصص عالم المجون والخلوات الليلة الموبقة والعبث الوجودي والمعاناة من الوحدة والسأم والانغماس في اللذات الأبيقورية و السهرات الشبقية كما في قصة( الديفان):" بعيدا في تجاعيد الذاكرة...
كانت القنينة بيني وبين حميد، وطبق الزيتون الأسود.
نجلس دوما قريبا من البئر وشجرة التين، نمضغ أيامنا الشاحبة، نتماس، نتقاطع، وقد تمضي بنا الكحوليات حتى عتبات الفجر.
  أنا أحتسي البحر.
  يقول حميد بكلام خاتر، وينسحب، و... يتركني وحيدا مع البئر وشجرة التين."( ص:21).

ويتناول الكاتب موضوع الهجرة السرية بتصوير مجموعة من الهاربين نحو الضفة الأخرى، سينتهي بهم المآل إلى الغرق والموت التراجيدي. وقد رسم هذا العالم المأساوي الأطفال الصغار في كراساتهم ومخيلاتهم الشعورية واللاشعورية وهذا ما تبينه قصة (غرقى). ولكن هذه القصة ترمز أيضا إلى ثورة التلميذ على المدرسة ورغبته في التمرد والهروب من هذا الفضاء المسيج بالروتين والملل والعنف إلى فضاء أكثر تحررا وانبساطا:" المعلم يطل من النافذة، والتلاميذ يكتبون على الدفتر ملخص "كان وأخواتها".
خلسة يخرج الطفل أقلامه الملونة، يرسم بحرا وقاربا مكتظا بالهاربين؛ ثم ريثما يستغفله المعلم، يلكمه على قفاه، وكاد القسم يموت من الضحك.
غضب البحر.
انقلب القارب.
و..
غرق المعلم
والأطفال."(ص23).

وينفتح الكاتب على العالم الرقمي ليستعير بعض تقنياته ووسائطه وما تتركه من آثار إيجابية آو سلبية على الإنسان كالمسنجير أو الحاسوب وخاصة على مستوى التواصل والتفاعل الذهني والوجداني والحركي:" بعد المساء بكثير، بين محطة وحافلة، يحدث أن يلتقي رجل وامرأة، وسط العابرين والمسرعين والمشردين، يتعانقان بحرارة، يتبادلان كثيرا من الشوق وكأنهما لم يكاتبا البارحة في المسنجير،ثم يتخاصران ويمشيان على الأحزام جهة السيارة تماما، كما لو كانا بطلين في قصة مساء"(ص: 32).
ويجعل الكاتب من الوسيط الرقمي أداة للاستلاب والإرهاق العصبي والنفسي:" صعد أبو حيان درج العمارة كالسنجاب، أو صد الباب خلفه، وظل يحدق في كتبه وجرائده المبعثرة، ثم انسابت على ذاكرته المرهقة صورة الكتب والنار والدخان.
نام أبو حيان...
واستيقظ فزعا كمن لسعته نحلة، ومشى سريعا جهة المطبخ.
عاد إلى غرفته،
نتف الفأرة الإلكترونية بعصبية مفرطة،
قذف الجهاز بقدم عصبي،
ثم أضرم فيه النار.
حينها اختلطت صورة الكتب والدخان والجهاز،
فقط كان يسخر من منخريه،
وكانت أصابعه تلاعب علبة الكبريت
التي قبل قليل جلبها من المطبخ."( ص:29).

3- مستوى التجنيس في المجموعة:

تمتاز قصص عبد الله المتقي بمجموعة من الخاصيات الفنية والأسلوبية ، يمكن اختزالها في السمات التجنيسية التالية:

1- الحذف والإضمار اللغوي:

من أهم سمات التجنيس في مجموعة عبد الله المتقي الاقتصاد والتكثيف والإدهاش والإضمار والإيجاز عن طريق الإكثار من علامات الحذف الثلاثة وتوظيف علامة الاستفهام قصد دفع القارئ إلى التخييل وتدبر الجواب وملء الفراغات بأجوبته الافتراضية والممكنة كما في قصته التي تدور حول السينما التي يهرب إليها الشباب والكبار على حد سواء للتنفيس عن مكبوتاتهم والالتحام مع الخطاب الجسدي الذي يجسده الفيلم السينمائي، وهنا تتحول قاعة السينما إلى فضاء الاستهتار والاستمناء:" أطفئت مصابيح القاعة....خيم الصمت....وبدأت أحداث الشريط الفاحشة....الأجساد العارية....القبل....مايشبه اللهاث....و.... سقطت نقطة ساخنة على حافة صلعته...تحسسها بأصابعه...كانت لزجة ودافئة...
  تفو!
  وانسحب من القاعة....
  فقط، كان يشعر بتفاهته"(35),

2- الإيقاع المتوازي:

يلتجئ الكاتب إلى خاصية التكرار قصد خلق شاعرية إيقاعية داخل النص السردي:" في الصباح، سمع الشيخ عبد الباقي طرقا على الباب( الباب قفله صدئ، وكثيرا ما يتعطل المفتاح)، مشى يلهث بطيئا، ثم فتح الباب، كان ساعي البريد( ساعي البريد بدوره يحمل وراء ظهره ستة عقود من الرسائل وحقيبة قديمة)، يسلمه رسالة مضمونة ويمحي وئيدا.
انتظر الشيخ عبد الباقي كثيرا من الاستنشاق والاستنثار،ثم فتح الرسالة وقرأ لنفسه في نفسه:" السيد عبد الباقي، احزم حقائبك هذا المساء، فلم يبق من الحلم إلا ساعات".
في صباح اليوم الثاني، لم يسمع الشيخ عبد الباقي طرقا على الباب، لم يعد قادرا على الحياة، تعطلت كل الحواس( الحواس جثة جافة)(ص:7).
وقد يحول التكرار الصوتي واللفظي والتركيبي القصة إلى قصيدة شعرية ذات إيقاع داخلي وخارجي يقوم بترديد نفس الأصوات المتوازية والكلمات المتماثلة والجمل المتوازنة كما في قصة(كرز):" أنا أحب الكرز...أنا أتلمظ الكرز
وكانت طامو تحكي لي كثيرا عن الكرز...
حتى صرت أراها كرزا...
لذيذة وطرية
في عينيها كرز..
في فمها كرز..
وأحيانا كنت أتذوق الكرز"(ص:31).

ويلاحظ أن هذه القصة/ القصيدة تعتمد على التخريف الحكائي أثناء سرد حكاية الكرز الذي كان يتلذذ به الكاتب عشقا ومجونا وجسدا. كما يشغل الكاتب الامتساخ الفانطاستيكي ولغة التحولات العجيبة حيث يرى الكاتب مقومات جسد طامو كلها كرزا في كرز. وهذه الخاصية الخرافية الفانطاستيكية موجودة عند الكثير من كتاب أمريكا اللاتينية وخاصة لويس بورخيس و الكاتب المغربي أحمد بوزفور و السوري زكريا تامر.
ويبحث الكاتب عن الإيقاع الداخلي لقصصه ليخلق منها قصائد نثرية تتقطر نغما وموسيقا عن طريق تشغيل تقنية الإتباع والتجانس اللفظي والتآلف التكراري:" ولكي يبرر جنونه بالبحر، راح يحدثها عن العرق المالح، والفول المالح، والماء المالح، وعن جدته التي كانت تنهي العالم بالدود في قارورة الملح. وكعادتها لم تجادله في جنونه، فقط، اكتفت بإبداء اندهاشها، وبتهريبه جهة البحر"(ص:33)

3- التنويع في التركيب القصصي:

يشغل الكاتب مجموعة من الأبنية الخطابية داخل مجموعته القصصية، إذ يستعمل القصة السردية العادية بحبكتها السردية القائمة على التوازن واللاتوازن أو المبنية على معيار الانحطاط والتحسن بمفهوم كلود بريموند Claude Bremond ، و الحكاية الخرافية كما في قصة" رقية لفقيه" وقصة( كرز)، والقصة الفانطاستيكية كما في قصة" غرقى"، والنص المسرحي القصير كما في قصة" تفاحة نيوتن"، والرسالة كما في قصة " رسالة حب".
وهكذا تتحول القصة عند الكاتب إلى قصيدة شعرية درامية تعرف الاسترسال والانسياب كما في قصيدته( بروميثيوس) التي يجسد فيها معاناة الشاعر وما يكابده من وحدة وضياع وهستيريا الكتابة والتدخين:

" الشاعر فوق المكتب
يكتب بروميثيوس في وحدته مثلا،
يدخن القنب المغربي،
يشرب قهوته،
ويفكر في شيء ما؛
قصيدة مثلا أو سرطان. " (ص:12).

4- الإيجاز في الوصف:

يجتنب الكاتب الأوصاف المسهبة والوقفات المملة في التصوير ومحاكاة الواقع، ويعوض ذلك بالأوصاف الموجزة والاقتصاد في النعوت والأحوال والصور البلاغية وخاصة صورة المشابهة القائمة على التشبيه والاستعارة وصورة المجاورة المبنية على المجاز المرسل والكناية كما في قصة (عرس الذئب) الذي يصور فيها الكاتب انتقام المرأة من عشيقها الخائن المحتال بعد سنوات عجاف من المماطلة والفراق والخديعة والتلاعب.:" أشعة الشمس دافئة...
السماء تتصبب مطرا خفيفا...
والمرأة القاحلة تمشي متمهلة، فوق رأسها مظلة مثقوبة، ولا أحد على الرصيف، سوى طفلين مندهشين.
المطر يتسلل إلى صدر المرأة، القطرات تمضي باردة، دافئة، وبعيدة إلى أماكن ملغومة، وقابلة للانفجار في أي لحظة.
وترمي المرأة بالمظلة... وتستسلم لعرس الذئب الذي تنتظره من سنين عجاف"( ص: 37).

5- الاسترسال في الأفعال واستعمال الجمل البسيطة:

وتمتاز قصص الكاتب بتعاقب الأفعال وانسيابها استرسالا وانثيالا كما في قصة " منسج":" كعادته، يستيقظ جدي باكرا، يغسل تعب المساء، يغلق خلفه باب الدار القديمة، ثم يبتلعه الحقل في كل الأحوال.
و..تذوب الشمس، و... يتكور جدي، يرتعش، و...ينام.
وكعادتها، جدتي، تنكب خلف المنسج كي تصنع جلبابا لجدي الذي يؤوب عيانا كل مساء.
ويتكور،و...يرتعش من البرد و...
يخبئ يديه بين فخذيه بحثا عن دفء لذيذ..."(ص:46).

و على مستوى التركيب، تهيمن على قصص الكاتب الجمل البسيطة الموجزة التي تستهدف الوصف والسرد والتصوير والإيحاء والإسراع من حركية الأحداث والتوتر الدرامي على الرغم من وجود الجمل المركبة الموصولية والمعطوفة والحالية والوصفية والمقترنة بالزمن التي يحاول الكاتب من خلالها الشروع في السرد أو إحداث بعض الوقفات الوصفية التصويرية الموجزة جدا. .

6- بلاغة التشخيص والترميز:

وإذا كانت مواضيع عبد الله المتقي تستوجب أساليب التقرير والتعيين والإخبار المرجعي لإضفاء الواقعية على النص، إلا أنه يلتجئ إلى استخدام صور الانزياح وصور التنكيت والتلغيز مع استثمار الاستعارة والمجاز و صور التشخيص والأنسنة والترميز والإيحاء والتضمين لخلق عوالم تخييلية فانطاستيكية وأسطورية وأجواء كاريكاتورية قوامها السخرية والاستهزاء بما هوكائن والتنديد بالواقع السائد. .

7- التناص والخلفية المعرفية:

يتفاعل الكاتب عبد الله المتقي تناصيا عن وعي أو عن غير وعي مع الكثير من كتاب أمريكا اللاتينية الذين كانوا من السباقين إلى كتابة القصة القصير جدا إن شكلا و إن مضمونا كلويس بورخيس وراوول براسكا ولويس بريتو گارسيا وخوليو كورتثار وماركو دينيبي وخوان أرماندو إﯧلي وليون فابريس كورديرو وإدواردو گاليانو وگابرييل گارسيا ماركيث وأوگوستو مونتيروسو وأندريس نيومان وبيرخليو ﯧنييرا وإدنوديو كينتيرو وخوان سابيا وگييرمو سامـﯧيرييو وأرماندو خوصي صيكييرا و آنا ماريا شوا وخوليو طوري وبابلو أورباني ولويزا بلينثويلا وفابيان بيكي...
و يستعمل الكاتب الكثير من الإحالات والمستنسخات التناصية والمرجعية في مجموعته القصصية . وتعود هذه المستنسخات التناصية إلى مرجعيات ثقافية متنوعة: يونانية، وعربية إسلامية،، وغربية، وأمريكية، وشعبية،( بروميثيوس، الغول، أحديدان، نيوتن، أبو حيان، سبنسر... ).

8- النزعة القصصية:

من يتأمل نصوص عبد الله المتقي في مجال القصة القصيرة جدا، فإنه سيجدها مسيجة بمقومات الحبكة الحكائية ومرتكزات الخطاب السردي من أحداث وشخصيات وفضاء زمكاني ومنظور سردي وتنويع الأساليب السردية والتفنن في زمن السرد. و نلاحظ أيضا أن الكاتب يستهل قصصه بمتعلقات زمانية وفضاءات مكانية، ثم يحرك العقدة والصراع والشخصيات في تمسرح درامي أو قصصي متوتر، ريثما يتم الانتقال إلى محطتي الحل والنهاية. ولكن هناك من القصص التي تم اختتامها بنهاية مغلقة، وهناك من القصص التي انتهت بخاتمة مفتوحة متعلقة بسؤال يدفع المتلقي ليستعمل خياله قصد إيجاد الجواب المحتمل للقضية/اللغز أو الموضوع/ المشكل. وهنا تتحول كثير من القصص إلى وضعيات ومشاكل مستعصية وفوازير تحتاج إلى ذكاء خارق لإيجاد الحلول المناسبة أو تصور وضعياتها المعقدة مثل قصة( عفوا) أو تصبح بعض القصص تحصيل حاصل كما في قصة( غشت) و( علبة زرقاء).

9- تهجين الأساليب:

يهجن الكاتب أساليبه السردية منتقلا من السرد إلى الحوار ، ومن الحوار إلى المناجاة الداخلية، كما ينتقل من الأسلوب السامي إلى الأسلوب العامي المنحط الدوني الذي يختلط بألفاظ سوقية وأساليب عامية شعبية والإكثار من صيغ القدح والباروديا والمحاكاة الساخرة وألفاظ الجنس ودوال الجسد والعهارة كما في قصة ( خنز) و(السوليما).

10- الإثراء اللغوي:

يستند الكاتب في قصصه إلى لغة رمزية موحية قائمة على الأقنعة الرمزية والتلميح والتنكيت والتلغيز، ولكن هذه اللغة قريبة من الواقع والدليل على ذلك اللهجة العامية وبساطة المعاجم واستعمال اللغة الساخرة البسيطة ببساطة أهلها والواضحة بوضوح وعي متكلميها الذين ينتمون إلى الطبقة الاجتماعية الكادحة المسحوقة التي تدخل في صراع اجتماعي ولغوي مع الطبقات الحاكمة السائدة ذات الثراء والعز والجاه. وتطفح هذه اللغة كذلك بالميسم البورنوغرافي الذي يعتمد على معجمي الجسد والجنس. أي إن لغة عبد الله المتقي هي لغة العري والفضح وكشف المستور وتجاوز الخطوط الحمراء والتمرد عن الطابو الأخلاقي والجنسي. ومن ثم تنزل اللغة من مكانتها السامية الفصيحة إلى مكانتها الدونية الشعبية العامية. وهنا أنصح عبد الله المتقي بأن يبتعد قدر الإمكان عن اللغة الجنسية والخطاب البورنوغرافي وأن يبحث عن الأسباب الحقيقية وراء انتشار ظاهرة الجنس والمجون والاستهتار وأن يشخصها بكل صدق وموضوعية. وعليه أن يهذب مجموعته القصصية وأن ينقيها من شوائب الخطاب الجسدي المقرف الذي حول مجموعته إلى" خبز حاف" ثان، وأن يسير على منوال عزالدين الماعزي في التهذيب اللغوي و اختيار القناة المناسبة في التواصل الإبداعي، والابتعاد عن الإباحية السردية والرؤية الوجودية العابثة. لأن كل من سيقرأ المجموعة القصصية سيخرج يتصور واحد وهو هيمنة الخطاب الإباحي الماجن على هذا العمل، وهذا سيخلق انفصالا بين الكاتب والقارئ على مستوى التقبل والقراءة والتفاعل البناء.

تركيــــب نهائـــي:

وحاصل القول: يدشن عبد الله المتقي في مجموعته القصصية"الكرسي الأزرق" تجربة قصصية جديدة قوامها تنويع المضامين والتيمات والاقتصاد في اللغة و تسريع وتيرة السرد القصصي مع تنويع أبنيته التركيبية واللغوية والأسلوبية . كما يوظف الخطاب الفانطاستيكي والخطاب البورنوغرافي والسخرية المهّجنة بالواقع وأقنعة التخييل الرمزي والإيحائي والاستعانة بالمستنسخات التناصية في تشويه الواقع وتعريته قصد بنائه في صورة أفضل من خلال استشراف مستقبل أحسن يسمو فيه الإنسان وتعلو فيه القيم الكيفية على القيم المادية. ونقول بكل موضوعية: إن عبد الله المتقي قد نجح في إرساء شعرية القصة القصيرة جدا من الناحية الفنية نجاحا كبيرا، ولكن كان هذا النجاح الفني في كثير من الأحيان حلى حساب الأخلاق والقيم الإسلامية الفاضلة. كما يعد عبد الله المتقي من السباقين الأوائل في المغرب الذين أخرجوا فن القصة القصيرة إلى ساحة الوجود عن طريق النشر والطبع الورقي والرقمي إلى جانب سعيد المنتسب وعز الدين الماعزي. ولكن أنبه عبد الله المتقي بأن يكون مسؤولا في قصصه ومصلحا في كتاباته المستقبلية، و أن يتجنب الخوض في تجسيد لوحات البورنو وتصوير المشاهد الجنسية الخليعة التي لاتتلاءم مع أخلاقيات الإنسان المغربي المسلم. فثمة مواضيع أكثر جرأة من الجنس كقضايا الاستبداد والتسلط والاستغلال والبطالة واحتكار السلطة وتوريثها ومحاربة التهميش والإقصاء والدعوة إلى توحيد المجتمع المغربي وتجنيب البلاد كل انقسام طائفي أو لغوي أو جهوي محتمل......

ملاحظة:
جميل حمداوي، صندوق البريد 5021 أولاد ميمون، الناظور، المغرب
jamilhamdaoui@yahoo.fr
www.jamilhamdaoui.com


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى