الأربعاء ٢١ شباط (فبراير) ٢٠٠٧
بقلم حسن الشيخ

الراحلون عن المدينة

حسن الشيخ

فتح عينين مغبوشتين على جموع الظاعنين من المدينة ، بصخب خفي ، هامس ، يثير الدهشة والفضول. لكنه لم يسأل. بل رحل مع الراحلين.

إنها المأساة السعيدة ، التي تعاود التكرار ، في مواسم خارجة على خريطة الزمن والتوقع. الظاعنون من مدن الصفيح ، من المدينة ، وأبنيتها المتعالية ، وزحامها المرير ، بدت عليهم علامات غامضة. من الصعب تفسيرها ، أو التعامل معها. إلا أن ملامح الجموع ، والتي تبدو غامضة ، كالمواسم ، تتفجر أحياناً بلا وداعة ، ودون مقدمات منطقية ، يمكن التنبؤ بها.

لم تكن لديه أمتعة يمكن حملها. إلا أنه حمل بعضاً من كتبه الأثيرة ، وأقلاماً ، وبعضاً من الورق الأبيض. وانظم إلى الحشود ، في صمت محيّر. لا يدري لماذا هو راحل! ولا يعرف هو إلى أين راحل ، بعيداً عن هذه المدينة المتحجرة! إلا أن همساً ما ، اقتحم صمته ، أشعره بأن الهجرة ستكون إلى الصحراء البعيدة ، أي صحراء يعنون! وكم سيمكثون! ولماذا يرحلون! وأسئلة أخرى عديدة ، لم تخطر في الذهن .. ولم يسألها.
كل ما يعرفه أن موسماً من تلك المواسم المتمردة على قوانين الزمن. قد حلّ الآن ، ولا بد من الرحيل. في ذلك اليوم ، الموسم ، تقاربت غيوم الفضاء ، بشكل حميمي. ثم بدأت تأخذ من خوف الرجال ، ودهشة الصغار ، ألواناً لها. أما الظاعنون ، فملأوا ميادين المدينة الكبرى ، وشوارعها ، وراحوا يذرعونها دونما تعليل مقنع.

حينما يحل الموسم فجأة ، يحرك الجموع بهدوء أقرب إلى السكينة في بادئ الأمر. ثم تتحول الجموع ، وبلا مقدمات محسوسة ، في بعض الأحيان ، إلى سيل هادر ، يقتحم الأشياء بغدر. حينها فقط لا يترك الرحيل فرداً إلا ويخلف في داخله حسرة ممزوجة بالمرارة. ولا يدع منزلاً إلا ويجرفه بغباوة متحيرة. وإذا كانت الجموع قد ألفت منذ القدم ، منذ أن بدأت المواسم التي تأتي دون رسل نذر ، على دمارها الذي تتركه بعد الرحيل. فإن الكثير من الجموع الساكنة ، الجموع المتراصة في الأقبية ، والمرتعدة من غير برد ، لا تستطيع مواجهة الدمار بالنسيان والتجاهل ، ولا تستطيع إزدراءه كما يفعل هو.

التفت على نداءات بدت مألوفة أول الأمر ، ثم غاصت في ذاكرة بئر دون قرار :
 أبي .. أبي .. إنه أبي يا أمي.
 هيا يا مريم ، أوقفي أباك عن الرحيل.
تعلّقت الطفلة بساقيه ، نادته ، ضحكت في وجهه ، تدلّت كعنقود كرم حان قطافه. قالت له كلاماً طفولياً ساذجاً. بكت. ذكرته بوعوده القديمة لها ، ذكرّته بعلاقة وشيجة ، قديمة ، تربطهما. إلا أنه لم يجب. حدّق في عينيها ثم تابع رحيله.
قالت الأم لطفلتها يوماً :
 إنه جاء من بعيد ، من زمان ومكان سحيقين ، موغلين في القدم. ومشى ، ومنذ ذلك الزمن ، في دروب لا نهايات لها ، دروب دون علامات ترشد سالكيها. ذرع سهولاً ، وأودية جليدية مقفرة. نام ملتحفاً السماء ، وراضعاً الغيم. أعرف يا ابنتي ، إنه عبر بحاراً شاسعة ، مليئة بالحيتان وأسماك القرش القاتلة. اجتاز صحراوات مأهولة بالسراب والخيام المهترئة.

ولكن صدقيني يا ابنتي ، لم أكن متأكدة .. إذا ما كان يسير ، أم الدروب هي التي تدور من تحت قدميه مهرولة بجزع. كيف لي أن أعرف يا ابنتي ، وأنا امرأة وحيدة وضعيفة.

جلس على مقهى في أطراف المدينة. حدّث الأصدقاء الذين رآهم لأول مرة. قال كلاماً كثيراً ، غير مفهوم عن الظاعنين ، عن الرحلة البعيدة اللا مجدية للصحراء. أما حين صمت لكي يصطاخ إلى الإجابات المتقافزة من الأفواه الواسعة ، فإنه بدا كعجوز قد هدَّته الأمراض والسنون.

تحدث عن القطارات الفارة من عاصفة لم تأت بعد. القطارات التي لا وجود لها في مدينة الرعب. واستمع إجابات من طيور مهاجرة هي أيضاً. لقنته طيور الحبارى والأوز وأسراب أخرى من الكركي المتوحش ، خيبة المدينة. وحثته على المسير. الرحيل البعيد.

تسائل عند أطراف المدينة. تسائل ولأول مرة. لماذا يرحل؟ لماذا هذا الهروب الجماعي المربك؟ هل يهرب من عنادها ، نسيانها ، حبها الطاغي على كل الوجوه التي يراها؟ تخيلها أماً. فإذا هي تقول إنها ترتضيه كأخ وليس كحبيب. حقاً إنها علاقة مربكة أيضاً كرحيل الجموع.

أما الآن. فلا شيء له معنى. المدينة التي خلفها وراءه. المدينة الموحشة التي خلفتها الجموع ، قد فارقتها براءة طفولتها الملتصقة بها كغبار ، بلون الرماد على واجهة محلاتها الزجاجية.

لا دواء لهذا اللا معنى. تفاخر الأسلاف الفج. إنها بضاعات الوهم والتعاسة. مجلبة لألم بارق. يحط بعنف على نهايات الشوارع الممتدة ، كأحجار هضاب مدببة. أما حينما يحل الفراغ الذي لم يرحل مع الراحلين. فإنه يتداخل في الصمت .. كتداخل اللهب بحرقته ، والماء بغرقه.

الأبناء يتحدثون. مفاخر الأسلاف. يتحدثون عن جمال المدينة والآباء يهمهمون ، بكلام غير مفهوم ، عن بهاء الصحراء وروعتها.

لا شيء مهم. لا شيء مثير. والراحلون ليسوا من أبناء المدينة على كل حال. والقاطنون بها ليسوا من زوارها.

إنها معادلة مقلوبة. إنه الزمن الذي ولى .. الزمان السحيق ، الذي يعاود المجيء من آن لآخر بلا أسماء تذكر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى