الخميس ١ آذار (مارس) ٢٠٠٧
بقلم جميل حمداوي

روايات جرجي زيدان بين التاريخ والتشويق الفني

ألف جرجي زيدان (1861- 1914 م) اثنين و عشرين رواية تاريخية ذات أبعاد اجتماعية و إنسانية وعاطفية ضمن سلسلة تاريخ الإسلام من فترة ما قبل الإسلام مرورا بمرحلة صدر الإسلام و الدولتين: الأموية و العباسية وانتهاء بالعصر الحديث. وهذه الروايات بالترتيب هي: فتاة غسان وأرمانوسة المصرية وعذراء قريش و17 رمضان وغادة كربلاء والحجاج بن يوسف وفتح الأندلس وشارل وعبد الرحمن وأبو مسلم الخراساني والعباسة أخت الرشيد والأمين والمأمون وعروس فرغانة وأحمد بن طولون وعبد الرحمـــن الناصر وفتاة القيروان وصلاح الدين الأيوبي وشجرة الدر والانقلاب العثماني وأسير المتمهدي والمملوك الشارد واستبداد المماليك وجهاد المحبين.

هذا، وتطفح روايات جرجي زيدان التاريخية بعقدتين أساسيتين: عقدة تاريخية وعقدة غرامية أو عقدة اجتماعية إنسانية في إطار صراع تاريخي سياسي وديني مذهبي إلى جانب صراع رومانسي أو اجتماعي. ويعني هذا أن روايات جرجي زيدان يتقاطع فيها جانبان: الجانب التاريخي والجانب القصصي، فالأول هو الأساس والهدف، والثاني هو عبارة عن وسيلة فنية ليس إلا.

ويراد بهذه الروايات تشويق القراء وحثهم على قراءة تاريخ الإسلام عبر فتراته المختلفة لمعرفة الماضي في علاقته بالحاضر. والغرض من هذا الجمع بين التاريخي والسردي أو المزج بين الحقيقة والخيال أو بين التاريخ و الفن هو الإفادة والمتعة أو الجمع بين الوظيفة القصصية (وظيفة الترفيه والتسلية والإمتاع)؛ لذلك أدرج الدكتور عبد المحسن طه بدر روايات جرجي زيدان ضمن الرواية التعليمية ورواية التسلية و الترفيه.

وغالبا ما كان يتشدد زيدان في نقل المعلومات التاريخية، وكان لاينتقي سوى المعلومات القائمة على الصحة واليقين، ذاكرا المراجع والمصادر حتى لو كانت شعبية أو غربية استشراقية مثلما هو الحال في رواية (شجرة الدر) حيث اعتمد على حسن المحاضرة للأسيوطي وسيرة الملوك وتاريخ ابن إياس و الهلال و تاريخ الفخري ومعجم ياقوت وتاريخ ابن جبير وتاريخ مصر الحديث لكاتب الرواية نفسه. وفي رواية (صلاح الدين الأيوبي) نجد تاريخ ابن الأثير وتاريخ التمدن الإسلامي وتاريخ المقريزي وكتاب الروضتين وابن خلكان وتاريخ الدولة السلجوقية وطبقات الأطباء وبور كهاردت (Burckhardt) وتاريخ ابن خلدون وتاريخ المقدسي ومعجم ابن ياقوت في رواية (فتاة القيروان). وهكذا تتنوع الإحالات التاريخية بين ما هو رسمي وشعبي واستشراقي وغربي.

إن الهدف من ذكر المصادر التاريخية هو خدمة التاريخ في حد ذاته وتطويعه جماليا عن طريق التوسل بالفن. إذ القصة هنا في خدمة التسلسل التاريخي وحلقات تاريخ الإسلام، على خلاف كتاب أوروبا الذين يجعلون التاريخ في خدمة الفن و السرد القصصي. و من ثم، فالتعليم هو الهدف الأول و الفن وسيلة ليس إلا. ويقول جرجي زيدان في هذا الصدد "قد رأينا بالاختبار أن نشر التاريخ على أسلوب الرواية أفضل وسيلة لترغيب الناس في مطالعته والاستفادة منه، وخصوصا و أننا نتوخى جهدنا في أن يكون التاريخ حاكما على الرواية، لا هي عليه، كما فعل بعض كتبة الإفرنج ومنهم من جعل غرضه الأول تأليف الرواية و إنما جاء بالحقائق التاريخية لإلباس الرواية ثوب الحقيقة فيجره ذلك إلى التساهل في سرد الحوادث بما يضل القراء.

و أما نحن فالعمدة في روايتنا على التاريخ و إنما نأتي بحوادث الرواية تشويقا للمطالعين. فتبقى الحوادث التاريخية على حالها وندمج في مجالها قصة غرامية تشوق المطالع إلى استتمام قراءتها، فيصبح الاعتماد على ما يجيء في الروايات من حوادث التاريخ: مثل الاعتماد على أي كتاب من كتب التاريخ من حيث الزمان والمكان والأشخاص إلى ما تقتضيه من التوسع في الوصف، مما لا تأثير له على وصف العادات والأخلاق ... إن الروائي المؤرخ لا يكفيه تقرير الحقيقة التاريخية الموجودة، وإنما يوضحها و يزيدها رونقا من آداب العصر وأخلاق أهله وعاداتهم حتى يخيل للقراء أنه عاصر أبطال الرواية و عاشرهم وشهد مجالسهم ومواكبها واحتفالاتهم ، شأن المصور المتفنن في تصوير حادثة يشغل ذكرها في التاريخ سطرا أو سطرين فيشغل هو في تصويرها عاما أو عامين . فمقتل جعفر البرمكي عبر عنه المؤرخ ببعض كلمات ، أما المصور فلا يستطيع تصويره إلا إذا كان مطلعا على عادات ذلك العصر و طبائع أهله و أشكال ملابسهم وألوانها، وضروب الفرس وأشكال الأسلحة ليمثل كلا من القاتل و المقتول بقيافته و شكله و ينبغي له أن يكون عالما بانفعالات النفس و ما يبدو من آثارها على الوجه أو في حركات الجسم ، ليمثل غضب القاتل أو شراسته ، و خوف المقتول و كآبته ، غيرما تقتضيه الصناعة من تصوير مكان الواقع إن كان غرفة أو شارعا أو بادية أو حديقة و الزمان الذي وقعت فيه . و إن كان صباحا أو أصيلا أو عشاء و لكل من هذه الأحوال أشكال و ألوان لا يتم جمال الصورة إلا بإتقانها. و ذلك شأن الروائي بالنظر إلى التاريخ فهو يمثل تلك الأحوال أو يصور أشكالها و ألوانها بالألفاظ من عند نفسه، فيوشح الحادثة التاريخية بخلاصة درسه الطويل في آداب القوم وعاداتهم وأخلاقهم والتفطن لأثار العواطف في مظاهرهم، مع بيان ما يحف بتلك الحادثة المعاصرة ويطابق وضعه نظام الاجتماع و أحوال العائلة و إذا رجع المطالع إلى تحقيق الحوادث التاريخية على جمالها وجدها حقيقة ثابتة و ذلك ما توخيناه في سائر رواياتنا".

و من خلال هذه المقدمة، لا ينظر جرجي زيدان إلى التاريخ على أنه أحداث سياسية فقط، بل ينظر إليه على أنه حضارة وعادات وتقاليد وأخلاق وآداب، أي يسير على خطى الغربيين في تواريخهم حينما يركزون على كل مظاهر المجتمع ونواحيه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والثقافية و دراسة ما هو رسمي في علاقته بما هو شعبي.

وينقسم الموضوع في روايات جرجي زيدان إلى قسمين كما قلنا سلفا: "أحدهما تاريخي مقيد بالشخصيات والحوادث والأماكن التاريخية الرئيسية والثاني غرامي خيالي توضع بين العاشقين الحوائل حتى يشرف الموضوع التاريخي على نهايته فتزول الحوائل ويلتحم شمل العاشقين". ويعني هذا أن الرواية عند جورجي زيدان تستند إلى القسم التاريخي و حوادثه الكبرى بكل شخصياتها و فضاءاتها مطبوعة بهاجس الصحة و اليقين ، و القسم الفني القصصي وحوادثه الموضوعة والخيالية مبنية على الإيهام والخلق. إذاً، هناك صدق وخيال وبالتالي، فالحدث التاريخي رئيسي والقصة ثانوية وتابعة.

وإذا أخذنا على سبيل المثال رواية (استبداد المماليك)، سنجد جرجي زيدان يسرد قصة عبد الرحمـــن وزوجته سالمة وابنه حسن وخادمه علي وما لقيته هذه الأسرة من معاناة وظلم وحيف وتشرد وغربة في ظل استبداد المماليك بمصر إبان علي بك الكبير وخلفه كذلك محمد بك أبو الذهب.

ويتقاطع في هذه الرواية الجانب التاريخي والجانب السردي الفني، فالجانب الأول يكمن في رغبة علي بك – شيخ المماليك – في الخروج عن طاعة الدولة العثمانية والاستقلال بمصر بمساعدة الجيش الروسي الذي دخل في حرب مع هذه الدولة الكبرى . وكان هم علي بك هو التحرر من الخلافة والانطلاق من القاهرة لتحرير الجزيرة كلها بمساعدة حاكم عكا الشيخ ظاهر الزيداني، بيد أن (محمد بك أبو الذهب) خليفة علي بك وصهره لما وصل بقواته الضخمة إلى سوريا، وقّّع على صلح و عهد بألا يكون مواليا إلا للدولة العثمانية وأن يحكم مصر بدلا من علي بك مما أوقعهما في حرب أدت بهما إلى حتفهما.

انطلاقا من هذا الجو التاريخي والسياسي، يدين جرجي زيدان ظاهرة الاستبداد التي تفشت في مصر إبان المجتمع المملوكي من خلال ما لقيته أسرة عبد الرحمـــن باعتبارها نموذجا اجتماعيا فقط من بأس شديد لا قبل لها به. فاغتصبت أملاك عبد الرحمــن الذي يعد من أكبر التجار الصالحين بسبب الخنق على تجارته وإرهاقه بالضرائب غير المشروعة، كما أخذ الجنود الظالمون منه ابنه الوحيد وأرادوا إرساله إلى ساحة الحرب لمواجهة العثمانيين. ودفع أبوه الكثير لعلي بك ليفتديه. وعلى الرغم من ذلك فشلت كل محاولات الهروب من استبداده، مما أوقع الأسرة في مهب التشتت والغربة و الضياع، فافترق الأب عن زوجته وابنه و خادمه ولم يجمع الله شملهم إلا في عكا بعد عدة حوائل وبعد صبر ومعاناة وسفر وارتحال وحسن نية وعطاء و بذل الخير العميم والإحسان إلى الآخرين.

و في رواية ( شجرة الدر) يصور جرجي زيدان صراع التتر بقيادة هولاكو مع العباسيين في عهد المستعصم بالله ، و قضائهم على حكومة بغداد. وتصور كذلك ما كان يجري في مصر من صراعات سياسية حول السلطة بعد نهاية حكم الكبار الأيوبيين، لذلك تولت شجرة الدر حكم مصر وبذلك كانت أول ملكة في الإسلام، إلا أنها خلعت من قبل سلطان بغداد بمكيدة سلافة ليكون الحكم في الأخير لركن الدين بيبرس و الأمير أبي بكر أحمد بعد تراجع الزحف المغولي. وفي خضم هذا الصراع التاريخي نجد صراعا دينيا بين المذهبين: السني الذي تمثله الخلافة العباسية، والمذهب الشيعي الذي يدافع عنه سحبان و مؤيد الدين بن العلقمي وزير المستعصم بالله . و إلى جانب الصراعين: السياسي و الديني نجد صراعا غراميا يشارك فيه من الرجال عز الدين أبيك التركماني قائد الجيش بمصر وركن الدين بيبرس وسحبان، و من النساء شجرة الدر وسلافة والجارية شوكار. و هكذا يتم تبادل الحب بين ركن و شوكار، لكن الموانع السياسية وكثرة المكائد والحوائل ستعرقل زواجها لتكون النهاية سعيدة في آخر المطاف. إذ سيتم جمع شملهما في بغداد بعد أن تخلص ركن الدين من سلافة و كشف زيف حسبان وأطماعه السياسية وولائه الشيعي وكراهيته لخلفاء بني العباس. وهنا نلاحظ تداخل العقدة التاريخية مع العقدة الغرامية بشكل فني محكم.

و في رواية (العباسة أخت الرشيد) يصور جرجي زيدان نكبة البرامكة وأسبابها في عهد هارون الرشيد و زواج جعفر البرمكي من العباسة أخت الرشيد وماجر عليهما من ويلات ومصائب أودت بحياتهما وأولادهما. كما تبين الصراع الحزبي بين بني هاشم والموالي والعلويين و ميل الرشيد إلى مناصرة الفئة الأولى ودفاع وزيره البرمكي عن الفئتين الباقيتين. وتصف الرواية مجالس الخلفاء العباسيين و ملابسهم و مواكبهم وحضارتهم. كما تؤشر على الصراع السياسي حول السلطة بين الأمين والمأمون وجعفر بن الهادي والوزارة بين الفضل بن الربيع و جعفر البرمكي، و صراع زبيدة زوجة الرشيد مع العباسة أخته حول مكانتهما لدى أمير المؤمنين. وقد انتهت الرواية بنهاية مأساوية تتمثل في التخلص من الوزير البرمكي والعباسة وولديهما: الحسن والحسين بدون رحمة ولا شفقة .

و في رواية (17 رمضان) يؤرخ جرجي زيدان لمقتل علي بن أبي طالب من قبل الخارجي عبد الرحمن بن ملجم المرادي وفشل محاولة البرك بن عبد الله التميمي في قتل معاوية بن سفيان في دمشق وفشل عمرو بن بكر في قتل عمرو بن العاص. والرواية كلها تدور حول حيثيات الفتنة الكبرى و الصراع حول الخلافة بين علي ومعاوية وعمرو بن العاص و كيف ستنتقل الخلافة بعد ذلك إلى الأمويين. وإلى جانب ذلك تنقل لنا الرواية قصة كلا من سعيد وأخيه عبد الله. وقد انتهت الرواية بزواج سعيد بخولة بمباركة عمرو بن العاص وأب خولة.

إذا تأملنا بنية الأحداث في روايات جرجي زيدان، سنجدها تركز على الصراع الدرامي سواء أكان تاريخيا أم عاطفيا أم اجتماعيا في ثوب إنساني. ومن ثم، تغلب على رواياته العقدة التاريخية والعقدة الغرامية وهي دائما في خدمة الأولى. وتتشابه هاتان العقدتان في كل رواياته مع نوع من الاستثناء في رواية (استبداد المماليك) حيث نلتقي مع عقدة اجتماعية إنسانية، بينما نجد في رواية (جهاد المحبين) العقدة الغرامية تغلب العقدة التاريخية.

ويتكئ التوتر الدرامي في هذه الروايات التاريخية على الصراع بين مذهبين دينيين (شجرة الدر مثلا)، أو بين مذهبين سياسيين (استبداد المماليك مثلا). وتترابط الأحداث ترابطا منطقيا بحيث يتناوب الخط التاريخي مع الخط القصصي، فعندما ينتهي الكاتب من السرد التاريخي ينتقل إلى السرد القصصي، وبعد ذلك يعود إلى السرد التاريخي، وهكذا دواليك مستعملا تقنيتي: التلخيص والتذكير لمفاصل السرد واسترجاع اللحظات التاريخية السابقة كما في هذا المقطع من بداية الرواية:

"انتهت رواية (فتاة القيروان) بدخول مصر في حوزة الفاطميين... سنة 358هـ على يد القائد جوهر و بادت دولة الإخشيد، و خرجت مصر بذلك من حوزة الدولة العباسية لأنها كانت في زمن الطولونيين والإخشيديين، مع استقلال هاتين الدولتين بالحكومة تحت رعاية الخليفة العباسية في بغداد. وهو يثبتهم على الإمارة، و يبعث إليهم بالخلع أو بكتاب التولية... فلما دخلت مصر في حوزة الفاطميين تغيرت حالتها السياسية، وأصبحت دولة مستقلة بنفسها استقلالا تاما، لا تراجع أحدا و لا تعترف بسيادة أحد غير الخليفة الفاطمي المقيم في القاهرة. وهي أول مرة استقلت فيها مصر بالسيادة بعد الإسلام.

وهكذا تتخذ الروايات التاريخية عند جرجي زيدان بناء كلاسيكيا يتوازى فيه الخط التاريخي مع الخط القصصي ويتعاقب الواحد بعد الأخر ليكمل بعضهما البعض في إطار بناء زمني صاعد من الحاضر نحو المستقبل في حلقات تاريخية و عاطفية متسلسلة الأحداث في نموها و طبيعتها الفجائية في كثير من الأحيان ، لتنتهي هذه الأحداث إما بنهاية سعيدة (17 رمضان – شجرة الدر – استبداد المماليك...)، أو بنهاية حزينة (العباسة أخت الرشيد ...). كما يستهل الكاتب رواياته بتقديم الفضاء المكاني التاريخي أو الفضاء الزمني أو الشخوص التاريخية المحورية في الرواية أو بوصف الإطار الفضائي الذي تجري فيه الأحداث المرجعية والعاطفية أو يستهلها بإبراز الحدث الرئيس الذي سيكون مناط الرواية من البداية إلى النهاية. وبعد تقديم الرواية واستهلالها بمداخل وصفية أو مكانية أو زمنية أو شخوصية أو حدثية يدخل جرجي زيدان إلى صلب الموضوع لعرض العقدتين: التاريخية والعاطفية لينهي روايته إما بحل سعيد يتمثل في جمع الشمل والزواج والانتصار على الشر و القضاء على كل العقبات و إزالة كل الحوائل المانعة ، أو بحل تعيس يقضي على حب العشقين ويبدد أحلامهما وسعادتهما الحقيقية، وهذا ما يقع نادرا في روايات جورجي زيدان كما في رواية (العباسة أخت الرشيد)؛ لأن الحل السعيد هو الغالب على رواياته التاريخية كما أن هدفه أيضا هو إسعاد القارئ وطمأنته وعدم تخييب أفق توقعاته بانتصار الشر على الخير أو الحقد على الحب . و يرى محمد حسين هيكل أن جورجي زيدان يعمد إلى " مجرد نشر التاريخ يصوره تصويرا عاما دون إبراز فلسفة خاصة، فهو يعرض القديم عرضا حديثا، بينما الفنان الذي يستلهم ما حوله و يصوره لم يخلق بعد". ويفسر هذا أن جرجي زيدان إنما ينقل التاريخ بشكل عام و يصوره بطريقة فضفاضة من دون نقله من خلال رؤية فلسفية كما نجد عند بلزاك في رواياته التاريخية أو فيكتور هيجو في (أحدب نوتردام). وبالتالي، يلاحظ غلبة السرد التاريخي على السرد الفني، وتكثيف المختزل في الوصف. وليس هناك تحليل للمواقف الإنسانية و استكناه البواطن الشخصية. فهناك فقط عرض للصراع بين شخصيات تمثل الشر و شخصيات تمثل الخير دون تبيان دوافع هذا الصراع و حيثياته وجوانبها النفسية والإنسانية بطريقة تحليلية وفنية قائمة على الاستقراء الشعوري واللاشعوري. وليس هناك نقد لبعض الشخصيات الدينية مثل: المجاذيب الصوفية ورجال الطرقية ورجال الدين من المسلمين والنصارى. فهؤلاء وصفوا بالمثالية والنموذجية الطاهرة ولاسيما المسيحيين من فئة الرهبان والقسيسين ورجال الدير والكنائس. وهكذا تتشابه شخصيات جرجي زيدان في خطوطها العريضة ونفسياتها وسلوكياتها ومواصفاتها الخارجية و الداخلية، وهي شخصيات تاريخية حقيقية في القسم التاريخي، وشخصيات متخيلة وموضوعة فنيا في الجانب القصصي. فهذه الشخصيات "حين تعبر عن حبها أو عن قلقها تعبر بصورة تكاد تكون متشابهة، فقلق الرشيد على عرشه هو نفسه قلق السلطان عبد الحميد عليه وحب كل سلطة، هو نفسه حب البطلة الأخرى حتى إن مواقف الأبطال وتعبيرهم عن شعورهم وانفعالهم إزاء الإحداث أو الطبيعة يتشابه في روايات جرجي زيدان المختلفة، وجرجي زيدان لا يجد لديه متسعا من الوقت ليحلل نفسيات أبطاله ويتعمقها، وحين يحاول هذا التحليل يلجأ في أحيان كثيرة إلى التحول بالقضية من تحليل لشخصية معينة إلى قضية عامة تنطبق على جماعة كبيرة من الناس".

ويكتفي الكاتب أيضا برؤية سردية واحدة في كل رواياته هي الرؤية من الخلف وضمير الغياب مصورا الشخصيات بأبعادها النفسية و الفيزيائية محركا إياها من منظور علوي ومن خلفية سياسية أو دينية في إطار ثنائية الخير و الشر أو الشقاء والسعادة. ويتكئ كذلك على السرد أسلوبيا ويتبعه بالحوار الذاتي في مواطن أخرى .

ولغة هذه الروايات عربية فصيحة تمتاز بالسهولة والليونة والسلاسة و عذوبة الإيقاع وإنشائية الكلام، تخاطب العقل تارة حين يحضر السرد التاريخي ويعقبه التعليم والإفادة وتخاطب الوجدان والعاطفة تارة أخرى حين يحضر السرد القصصي ويعقبه الترفيه و التسلية والإمتاع. إنها لغة مقالية هذبتها الصحافة ولينتها شروطها المنبرية ورغبات المتلقي الجماهيري ومتطلبات الإرسال التواصلي الحديث. إنها لغة بعيدة عن الركاكة والمحسنات البديعية التي كبلت الكتابات النثرية في عصور الانحطاط والجمود العثماني، كما أنها بعيدة عن العجمة والعامية المبتذلة غير المفهومة. وهكذا نجد أن الطابع المقالي للصحافة كما يتشخص في منبر"الهلال" يسم كتابة هذه الروايات ولغتها الفنية التشويقية الرائعة كأننا أمام مقالات تاريخية أو مواضيع إنشائية في الغرام أو التاريخ .

أما عن معمار الروايات فهو معمار كلاسيكي قائم على البناء المتنامي الصاعد الجدلي والخط المتوتر الذي ينطلق من الحاضر إلى المستقبل من خلال خاصية التوازن واللاتوازن أو خاصية التناوب أو التعاقب بين الخط السردي التاريخي والخط السردي القصصي. كما نتبين بكل وضوح مدى الانفصال بين المتواليات السردية بين الخطين: التاريخي و القصصي، كأن الرواية تنقسم إلى قصص صغرى. فالموضوع – كما يقول محمود شوكت – يقوم "على نطاق واسع، تتخلله صور صغرى من الصراع . وفكرة الصراع فكرة غربية ، تقوم عليها معظم الروايات ، فتصور صورة من صور الصراع الصغرى في "فتاة غسان" على طريقة تصوير و الترسكوت لها في رواياته "إيفنهو" و"الطلسم" ممثلة في تصوير المبارزات على الطريقة الغربية، كذلك تبرز صور الصراع في المؤامرات . و هذه الصورة مرتبطة بالتطور الخارجي للموضوع. و تثير اهتمام القارئ دون أن تتصل اتصالا مباشرا بلوازم الحركة الدقيقة في القصص".

ونستشف من قراءاتنا لروايات جرجي زيدان أن دراسته للتاريخ سطحية على الرغم من تعمقه في الجوانب الحضارية واستقراء للحياة الشعبية وعوائد الناس و ثقافتهم وأعرافهم ومظاهرهم الدينية. كما أن رواياته في حاجة إلى وحدة فنية أو تحليل نفسي منسجم أو ارتباط سببي لحوادث الموضوع وصلة ذلك بالبيئة أو صدق الوصف التاريخي و الجغرافي.

ومناصيا، فروايات زيدان ذات عناوين زمنية (17 رمضان) وحدثية (الانقلاب العثماني – جهاد المحبين – استبداد المماليك)، وعلمية شخوصية (الأمين و المأمون – الحجاج بن يوسف – أحمد بن طولون ...) ووصفية (المملوك الشارد – أسير المتمهدي ...) ،و مكانية (فتاة غسان – عروس فرغانة ....). وهذه العناوين كلها مركبة اسمية وردت بالصيغ التالية:

ا- خبر + مضاف إليه ( فتاة غسان / عروس فرغانة ...)؛

ب - مبتدأ + صفة ( الأرمانوسة المصرية / الانقلاب العثمانية ...)؛

ج - المبتدأ + بدل (الحجاج بن يوسف / أحمد بن طولون ....)؛

د - المبتدأ + عطف (شارل وعبد الرحمن / الأمين و المأمون ...)؛

هـ – المبتدأ + خبر (العباسة أخت الرشيد....).

إذاً، نلاحظ هيمنة الجملة الاسمية والمركب النحوي (خبر + مضاف إليه) والتركيب اللفظي الثنائي على البنية العنوانية لروايات جرجي زيدان، أي يتكون العنوان الروائي الخارجي في العموم من كلمتين ليس إلا. بيد أننا نجد بعض العناوين تتعدى هذه الثنائية اللفظية كما في عنواني (صلاح الدين الأيوبي) و(أحمد بن طولون)....

و قد استعانت روايات جورجي زيدان بحيثيات النشر وملخص عنواني يوضح الجوانب التاريخية التي تبناها في الكتابة . أما العناوين الداخلية فهي موجزة و غالبا ما تتخذ طابع المركبات الاسمية فتلخص أحداث الرواية و توجزها و تعكسها ، و هي إما عناوين مكانية أو حدثيه أو زمنية أو شخوصية أو وصفية .

و هناك من الروايات من أرفقت بلوحات تشكيلية خارجية وداخلية بينما أغلبها اكتفت باللوحة الأيقونية الخارجية التي تقدم صورا لشخوص الرواية أو إشارات لأحداثها التاريخية كما في روايات (صلاح الدين الأيوبي ) و(الأمين و المأمون) . فمن الصنف الأول نجد:

1- صلاح الدين الأيوبي؛

2- عبد الرحمان الناصر؛

3- أبو مسلم الخراساني ؛

4- الانقلاب العثماني ؛

5- فتح الأندلس .....الخ.

وما يلاحظ على روايات جورجي زيدان التاريخية أنها تكرس الفن لخدمة التاريخ، لذلك يصبح الحدث القصصي أداة للتسلية و الترفيه ويبعد عن القصة جانب الإفادة أو الثقافة ليربط ذلك بالتاريخ على حساب الفن. بينما الرواية هي فن المعارف تحوي كل الخطابات والأجناس واللغات وتخاطب العقل والوجدان معا.

كما يلاحظ كذلك تشويه كبير في الحقائق التاريخية و الانحياز إلى بعض الأطراف دون الأخرى كالدفاع مثلا عن الموالي والشيعة ضد بني هاشم أو الدفاع عن القساوسة و الرهبان والاعتماد على أراء مغلوطة للمؤرخين الغربيين أو المستشرقين.

وعليه، فإننا نستشف أن هناك تشابها في البنية السردية في هذه الروايات على مستوى الأحداث و تقاطعا بين ما هو تاريخي وما هو قصصي، ونلمح أيضا تشابها في الاستهلال الروائي والعقد والمصائر والحلول بعد تذليل الحوائل والعوائق المانعة لشخوص الرواية المتصارعة إلى جانب التشابه في الشخوص التاريخية والفنية الموضوعية وتقنيات الوصف العام الحضري والشعبي للموصوف سواء أكان شخوصيا أم مكانيا أم أشياء أم وسائل علاوة على التشابه في الرؤية السردية ذات الراوي العارف بكل شيء والمزاوجة بين السرد و الحوار و تليين اللغة العربية وتفصيحها وتهذيبها بمستلزمات الصحافة و الكتابة المقالية.

وأخيرا، إن النصوص السردية التي كتبها جرجي زيدان تمثل خير تمثيل رواية التشويق الفني للتاريخ؛ لأنها تستقرئ تاريخ الماضي أو الحاضر بلغة سهلة معاصرة من خلال الارتكاز على العقدتين : التاريخية و الفنية . ولكن يبقى جرجي زيدان مخلصا ووفيا للحدث التاريخي مع التصرف الفني في الجانب القصصي والروائي لتحقيق المتعة الفنية والفائدة التاريخية لدى القارئ .


مشاركة منتدى

  • السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
    رجاء أريد الاستفسار عن مسألة أن روايات الكاتب جرجي زيدان مغلوطة ويُنصح بتجنب قراءتها. أنا أحب أسلوب جرجي زيدان يرحمه الله.

  • السلام عليكم ورحمة الله
    روايات الأديب جرجي زيدان من أفضل الروايات من ناحية الجمع بين التاريخ والتشويق
    لكن المشكلة هو أنه ربما قدم الأدب على الرواية التاريخية
    فهناك كثير من الحقائق المغلوطة
    وعلى سبيل المثال
    لديك كتاب أبي مسلم الخراساني
    فقد قال عن الخارجي الأمير مشيب أنه هو الضحاك وأنه هو صالح
    بينما توفي الأمير مشيب أصلا قبل تولي العباسيين الحكم
    وذكره لجلنار وغيرها
    وليعلم من يقرأ الروايات أن هذه الأحداث يجب مراجعتها ، كما يجب عليه أن يستفيد مما يمكن الاستفادة منه سواء في الأسلوب القصصي أو بعض صفات العظماء ، والله أعلم

  • في الحقيقة هناك بعض الأخطاء في هذه المقالة من وجهة نظري
    فقد كشف كبار الأدباء والنقاد أخطاء جرجي زيدان
    فلم يكن يتلمس الحقيقة كما ذكر في المقال
    وإنما كان مجرد كاتب أديب نصراني

    قد زاد بعض النقاد في ذلك إلى أن جعلوه ممن شوه صورة الإسلام
    كتشويهه لصورة عمر بن الخطاب وغيره

    لكن ربما يستفاد من كتبه في النواحي الأدبية وغيرها

    كما أسلفت فبالنسبة للحقائق التاريخية فأكثر الأدباء ممن مضوا
    يذكرون أن كتبه لا تؤخذ منها حقائق تاريخية
    بل هي مجرد روايات وقصص من خيال مؤلفها

  • المثير في قضية جرجي زيدان
    أنه كان يعشق الفرس ويكره العرب مع كونه عربيا

    وربما كان فيه ميلا إلى أقوال الشيعة
    وإن كان نصرانيا
    لكرهه بني أمية وحبه لآل البيت وغير ذلك
    مما يفهمه القارئ في رواياته وكتبه
    والله أعلم

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى