الاثنين ٥ آذار (مارس) ٢٠٠٧
بقلم جميل حمداوي

" الرحلة الأصعب" لفدوى طوقان سيرة الأدب والمقاومة والصمود

تمهيـــــد:

تعتبر سيرة فدوى طوقان" الرحلة الأصعب" خير نص أدبي وثائقي يعكس ماعرفته الأمة العربية بصفة عامة وفلسطين بصفة خاصة من نكسات متكررة ونكبات تراجيدية في ظل الانتداب البريطاني والاحتلال الصهيوني. كما يعتبر هذا النص أيضا أقرب وثيقة إلى الصدق الموضوعي في تحديد ملابسات بعض الكتابات النثرية والقصائد الشعرية التي كتبنها فدوى طوقان؛ لأنه يبرز لنا السياقات والحيثيات المرجعية والتاريخية التي كانت وراء إبداعها وسجالها السياسي والأدبي والفكري . علاوة على كون هذه السيرة النصية تسعفنا كثيرا في فهم دواوين فدوى طوقان وتفسيرها على ضوء بواعثها ومقصدياتها التداولية. إذاً، ماهي خصائص فن السيرة كما يجسدها النص الذي بين أيدينا " الرحلة الأصعب" بناء ودلالة ووظيفة؟ وما هي أبعاد هذه السيرة المرجعية وقيمتها الأدبية والفنية؟

1- المستـــــــــــــوى المناصــــي:

ولدت فدوى طوقان الكاتبة الفلسطينية المشهورة في مدينة نابلس سنة 1917م. وهي من أسرة مثقفة وغنية لها حظوة كبيرة في المجتمع الفلسطيني ومكانة محترمة لدى القيادات السياسية والعسكرية في الحكومة المحتلة. أشرف أخوها الشاعر المقاوم إبراهيم طوقان على تعليمها وتثقيفها وتوجيهها لتستكمل بعد وفاته دراساتها لمدة سنتين في أكسفورد ببريطانيا. وقد امتزج في مذكراتها كثير من صور التشريد والطرد والنفي والرعب والمجازر التي ارتكبت في حق الشعب الفلسطيني. وعايشت الشاعرة مجموعة من النكسات والنكبات والحروب والهزائم كنكبة 1948م، ونكسة 1967م وحرب أكتوبر 1973م ومعاهدة الصلح لسنة 1978م وانتفاضة الشعب الفلسطيني وثورة أطفال الحجارة وانبثاق حركة فتح لتحرير فلسطين.
وقد جمعت فدوى طوقان في شعرها بين المنزع الرومانسي والتحدي الثوري الملتزم بالقضية و الدفاع عن الإنسان الفلسطيني على غرار الشواعر الفلسطينيات الأخريات كسلمى خضراء الجيوسي ودعد الكيالي وسميرة أبو غزالة وأسمى طوبى. وتوفيت المبدعة الشاعرة سنة 2003م بعد تكريمها في كثير من الملتقيات الأدبية والشعرية داخل الوطن المحتل وخارجه.
وصدرت لفدوى طوقان دواوين عدة منها:" وحدي مع الأيام" سنة 1952م، وديوان " وجدتها " سنة 1959م، وديوان" اعطنا حبا" سنة 1961 م، وديوان "الليل والفرسان" سنة 1969م ، و ديوان "على قمة الدنيا وحيدا "، وديوان " تموز والشيء الآخر"، وديوان" اللحن الأخير" الذي صدر سنة 2000 م. وكتبت سيرتين ذاتيتين وهما: ( رحلة صعبة- رحلة جبلية)، و( الرحلة الأصعب) سنة 1993م.

وعليه، فقد صدرت سيرة فدوى طوقان (الرحلة الأصعب) في طبعتها الأولى سنة 1993م عن دار الشروق للنشر والتوزيع بعمان الأردنية، ويندرج هذا العمل ضمن السيرة الذاتية التي تجمع بين التوثيق التاريخي والكتابة الأدبية ذات الطابعين: الإبداعي والنقدي.

وتحيل صورة الغلاف الخارجي على المرأة الفلسطينية التي تحب السلم والأمان والتعايش مع الآخر، وفي نفس الوقت هي قادرة على النضال والمقاومة والاستشهاد في سبيل الوطن بالنفس والنفيس. وتحضر الأم في الصورة الأيقونية رمزا للوطن والهوية القومية الفلسطينية. أما صورة الغلاف الخارجي الخلفي فتشير إلى صورة فدوى طوقان المبدعة الشابة سنة 1967م بصورتها الهادئة المعبرة عن البركان الذاتي الداخلي الذي يمكن أن ينفجر في أي وقت تحتك فيه المبدعة بالعدو الصهيوني الحاقد. وتدل كلمات الغلاف الخلفي على رفض الشاعرة فكرة الهروب والفرار خارج الأرض المحتلة وإصرارها على التحدي والصمود والنضال والتمسك بأهداب الأرض وجذورها إلى آخر نفس من أنفاس صيرورة حياتها.

2- المستــــوى الدلالــــــــــي:

ترصد فدوى طوقان في سيرتها" الرحلة الأصعب" معاناة الشعب الفلسطيني في ظل الاحتلال الإسرائيلي والغطرسة الصهيونية منذ نكبة 1948 م مرورا بمجموعة من المآسي والنكسات ومن أسوئها هزيمة حزيران 1967م التي أثرت سلبا على الأمة العربية بصفة عامة وفلسطين بصفة خاصة.

وتبدأ السيرة بتصوير ذلك اليوم المشؤوم الذي ستعلن فيه حرب ستة أيام التي حققت فيها إسرائيل انتصارا كبيرا على مصر بقيادة جمال عبد الناصر، إذ استولى جيش العدو على منطقة سيناء، وضم كثيرا من الأراضي الفلسطينية، وانتزع الجولان من سوريا، وتوسع في كثير من أراضي البلدان المجاورة. وكانت لهذه الحرب آثار وخيمة على نفسية فدوى طوقان وأسرتها الصغيرة والكبيرة . وأشارت الكاتبة في مظان سيرتها الروائية إلى ما كانت تستوجبه هذه الحرب الحزيرانية من إعداد مسبق وتموين مدعم وما تفرضه من قسوة المعايشة والبقاء والاضطرار إلى الهجرة والهروب والارتحال أوالصمود والمقاومة ضد العدو المتغطرس.

وتستحضر الكاتبة في بداية سيرتها صديقها الغريب الذي أخبرها بالاستعداد للحرب عن طريق التموين والهروب، ولكن فدوى اختارت الصمود والبقاء في أرضها وخاصة في مدينتها العتيدة نابلس مع رجالها ونسائها وأطفالها. وفي هذه الفترة كتبت قصيدتها " إلى الصديق الغريب" وتمنت لو كتبتها تحت عنوان" لو". وفي تلك الفترة تضاربت الأنباء حول نتائج الحرب، ومن الظافر فيها؟! وأذيعت أخبار عسكرية عربية مبالغ فيها لتنكشف الهزيمة في اليوم الأخير، وتظهر خيانة المشير عبد الحكيم عامر الصديق المقرب إلى جمال عبد الناصر ورئيس القوات الحربية المصرية.

وبعد ذلك ، شد الصهاينة الخناق على جميع المدن الفلسطينية وحوصرت الجبهات والحدود والممرات، وكان من الصعب الانتقال داخل الأرض المحتلة من مدينة إلى أخرى بدون مراقبة ومحاسبة وإذلال وتفتيش مخافة من رد الفعل العربي والفلسطيني. وعقب الهزيمة، ساد فلسطين السليبة حزن داخلي عميق وتآكل ذاتي وحالة هستيرية جنائزية وتمزق مأساوي فظيع، ترتب عن ذلك مباشرة احتلال الضفة الغربية والمدن الأخرى قصد تهجير اليهود للاستيطان فيها مع طرد سكانها الأصليين خارج الأرض المحتلة نحو الملاجئ ونفيهم خارج الحدود.

وقد نشرت إسرائيل الهلع بين السكان وعاثت في الأرض فسادا وأثارت الرعب وارتكبت المجازر وقنبلت المنازل وجوبهت المقاومة بعنف وقتل وإرهاب شديد للقضاء على كل شرارات الانتفاضة ورموزالصمود في كل أراضي فلسطين المحتلة.
وعلى الرغم من هذا الحصار السياسي والعسكري الإسرائيلي، استطاعت فدوى طوقان أن تقيم نوعا من التواصل وترسي حبال المودة والصداقة مع مجموعة من الكتاب الفلسطينيين قصد إثراء حركة الشعر والأدب كما هو الحال مع القاص توفيق فياض والشاعرين محمود درويش وسميح القاسم. وقد أعجبت الشاعرة برموز المقاومة والهوية الفلسطينية وروح التضحية والاستبسال كما عند سالم جبران وتوفيق زياد. ومن ثم، أصبحت حرب حزيران شعلة لتوهج الشعر الفلسطيني وانطلاق شرارة أدب الكفاح والمقاومة الذي كان يدعو القارئ إلى التشبث بالأرض وعدم التفريط فها ولو في شبر واحد مع اختيار سبيل المقاومة والنضال قصد تحرير فلسطين من قبضة العدو الصهيوني المستبد. وبدأت الصحف التقدمية في الانتشار والذيوع ولاسيما في الضفة الغربية والقطاع. وعادت جريدة "الاتحاد" ومجلتي "الجديد" و"الغد" إلى الصدور على الرغم من الحظر المضروب على هذه المطبوعات الصحفية . و تعرفت فدوى طوقان عبر صفحاتها مجموعة من الأدباء والمفكرين الفلسطينيين الذين يكتبون في مختلف الأجناس الأدبية كإميل حبيبي والدكتور إميل توما والأستاذ صليبا خميس والأستاذ علي عاشور وسواهم كثير...

وفي هذه الفترة بالذات، نشرت فدوى طوقان خمس قصائد ثورية في جريدة "الاتحاد" وهي: مدينتي الحزينة، والطاعون، وإلى صديق غريب، والطوفان والشجرة، وحي أبدا، و حررت هذه القصائد في هذه الجريدة بتاريخ22 أيلول 1967م. وتعرضت الشاعرة بعد ذلك أثناء تنقلاتها داخل الأرض المحتلة لكثير من المضايقات والمراقبة الشديدة والمحاسبة الصارمة، وأحست من جراء تلك المعاملة اللاإنسانية القاسية بالاغتراب الذاتي والمكاني والشجا الدامي. وفي هذا الموقف العصيب أبدعت قريحتها قصيدة" لن أبكي" للتعبير عن صبرها وصمودها وتمسكها بجذور وطنها و عزمها على مقاومة العدو المحتل. كما نظمت الشاعرة قصيدتها"الفدائي والأرض" على إثر استشهاد البطل الفلسطيني مازن أبو غزالة في معركة طوباس، تلك المعركة التي قامت بين رجال المقاومة والجيش الإسرائيلي بعد مرور شهور قليلة على الاحتلال الصهيوني للوطن. وقد توطدت علاقة الشاعرة بشعراء الرفض وتكررت زياراتها لشعراء الهوية القومية كسميح القاسم ومحمود درويش على الرغم من المراقبة الشديدة والتسجيل يوميا لدى مركز البوليس.

ولقد كان هذا التواصل بداية " التفاعل الحيوي المثمر الذي ظل محافظا على استمراريته من جراء التحام كتاب الضفة والقطاع بالكتاب والشعراء الفلسطينيين المقيمين في الجزء المحتل من فلسطين منذ العام 1948، بالرغم من حرص السلطات العسكرية على إقامة حواجز المنع وعرقلة نشوء أي تفاعل أدبي أو تلاحم فكري بين أبناء الشعب الواحد الذي شطرته المأساة سنة 1948. فكم من مرة، حين أدعى- تقول فدوى طوقان- إلى المشاركة في مناسبة أدبية وطنية في الناصرة أو القدس مثلا، كانت ولا تزال- توجه إلي الأوامر العسكرية بعدم مغادرة نابلس في ذلك اليوم بالذات".( ص:23 من الكتاب)

وقد ساهم الاحتلال مدة سنتين بعد الهزيمة في خلق فراغ ثقافي في الساحة الأدبية والنقدية في الضفة والقطاع بسبب الإرهاب الصهيوني العسكري وغياب الصحافة الوطنية والمجلات الصادرة عن البلاد العربية، ناهيك عن غياب المؤسسات الوطنية والكوادر الثقافية. وفي هذه الفترة ستنشر الشاعرة سيرتها الأولى" رحلة صعبة- رحلة جبلية " في شكل حلقات متسلسلة في مجلة "الجديد" ما بين العامين1977و 1978 م حين كان يرأس تحريرها الشاعرالقديروالمتميز سميح القاسم. و كانت فدوى قد نشرتها سابقا في باب صفحات من مفكرة في مجلة "الجديد" الذي أصبح رئيس تحريرها الجديد الشاعر الكبير محمود درويش.

هذا، وقد عانى المثقفون الفلسطينيون من الحصار الثقافي منذ عام 1948م إذ كانت السلطات العسكرية تمارس مصادرة الكتب من المكتبات الخاصة والعامة مهما كانت طبيعة هذه الكتب. ومن هنا، صار الكتاب بمثابة عملة نادرة يصعب الحصول عليه أو استعارته أو رده إلى صاحبه. و توصلت فدوى طوقان إلى الحصول على مجلتي "الآداب" التي كان سهيل إدريس رئيس تحريرها، ومجلة " مواقف" التي كان يشرف عليها الشاعر أدونيس، بمشقة الأنفس وبمساعدة واحد من جماعة الكويكرز الأمريكيين أثناء زيارته للشاعرة في نابلس حيث وعدها بأن يزودها بما تحتاجها من الكتب والمجلات والصحف بعد أن اشتكت إليه بما يمارسه المحتل من ضغوطات ومضايقات على المثقفين الفلسطينيين وحرمانهم من الاطلاع على إنتاجات الآخرين وإبداعات المفكرين العرب.

وقامت الشاعرة بزيارات إلى مصر حيث التقت برئيسها جمال عبد الناصر في القاهرة وصورت له معاناة الفلسطينيين ومايكابده المثقفون والمبدعون من ويلات الظلم والقهر من جراء الاحتلال الغاشم. وأثناء عودتها إلى وطنها، دافعت كثيرا عن محمود درويش الذي اتهم بمهادنته لإسرائيل وخيانته لمبادئ وطنه كما جسدت ذلك رسالتها التي كتبتها إلى غسان كنفاني الذي نشر ذلك الهراء في جريدته "الأنوار" في بيروت دون أن يطلع على فحواها الإخباري.

وقد صورت فدوى في سيرتها الأطبيوغرافية الذاتية الأيام الكالحة بعد الهزيمة التي انتهت بتهويد القدس وضمها إلى الكيان الصهيوني ومعاقبة الوطنيين وتتبع المقاومين الشرفاء والضغط على المثقفين وطرد العناصر الوطنية وإلقائهم وراء النهر إلى الضفة الشرقية ومصادرة الأراضي والإكثار من المعتقلات والتحقيق والتعذيب الرهيب والزج بالمناضلين والأبرياء في الزنازين المخيفة ونسف البيوت وهدمها على أصحابها. وكانت فدوى تتدخل مرارا وتكرارا لدى القيادة الإسرائيلية لإيقاف النسف أو الهدم أو إطلاق الأسرى والمعتقلين والمعتقلات الموجودين في سجون الاحتلال نظرا لمكانة الشاعرة لدى السلطات العليا و موقعها الثقافي في المجتمع الفلسطيني وتأثيرها الكبير على إثارة مشاعر الانتفاض والمقاومة.

وشاركت الشاعرة في لقات شعرية سرية وعلنية في كثير من المدن الفلسطينية كالقدس ورام الله والبيرة وبيت لحم وغزة وبيت جالا؛ مما أهلها للاندماج بكل سرعة في المجتمع والاحتكاك بالجماهير الشعبية. كما كانت للشاعرة لقاءات مع موشي دايان وزير الدفاع الإسرائيلي في عهد گولدا مايير حول أوضاع فلسطين ونابلس وحاجيات المثقفين وسبب كراهيتهم للإسرائيليين وكيفية البحث عن أحسن السبل للسلام الدائم بين الشعبين. كما التقت الشاعرة أثناء نزولها في القاهرة بأنوار السادات وقد صورت له معاناة الشعب الفلسطيني وما يعانيه في ظل الاحتلال مع التطرق إلى حلول التفاوض وإقامة السلام العادل.

وأصبحت فدوى سفيرة مفوضة بدون حقيبة بين الرؤساء والقيادات العليا وممثلي الشعب ومنتخبي السكان من أجل إيجاد صيغ التفاهم والتعايش والتوسط لإيجاد الحلول لكل المشاكل الفردية والجماعية ، و البحث عن المخرج الحقيقي لتحقيق الحياة الكريمة والاستقلال المشرف للشعب الفلسطيني. وكم كانت فدوى حزينة لما سمعت بموت الكاتبة الفلسطينية المرموقة سميرة عزام أثناء انتقالها من عمان عبر دمشق مسرعة إلى مدينتها عكا لمعانقة الوطن السليب بعد غربة طويلة مشحونة بالشوق والحنين!
وقد أثارت قصيدة فدوى " آهات أمام شباك التصاريح" ضجة كبيرة في إسرائيل وتناقلتها وسائل الإعلام والصحافة ؛ لأن تلك القصيدة الثائرة تدعو إلى كراهية إسرائيل ومقاومتها بشراسة وحشية. بيد أن هذه القصيدة كتبتها فدوى أثناء الحصار المفروض على ممرات والحدود الفاصلة بين المدن الفلسطينية، والتي تظهر الإنسان الفلسطيني كأنه أجنبي مغترب في أرضه مجسدة إياه في صورة مذلولة مشوهة يسود فيها الانتظار الطويل لما يأتي ولا يأتي، والعذاب المحترق الذي يعيشه الإنسان الفلسطيني وهو مصطف مع إخوانه من أبناء فلسطين في طوابير تنتظر الإفراج والإذن بالمغادرة لرؤية أحبابهم وأسرهم وأهاليهم. ولم تكن الشاعرة بمعزل عن هذا العذاب السيزيفي القاهر، وهذا ما دفعها لتكتب هذه القصيدة الشعرية التي تحرض فيها على الرفض والمقاومة والنضال ومقاتلة الأعداء الصهاينة . وعقدت الحكومة الإسرائيلية والصحافة الصهيونية لقاءات مع فدوى لمعرفة أسباب هذه الكراهية و مبررات الحقد العربي للإنسان الإسرائيلي، وقدمت فدوى كل الإجابات المنطقية المقنعة التي دفعتها للكتابة، وحملت الصهاينة المسؤولية في توليد هذا الحقد الدفين وإشعاله من فينة إلى أخرى. وربما يعود هذا الحقد الإسرائيلي الدفين إلى عهود مضت خاصة أن كثيرا من الشعراء الصهاينة كانوا يدعون شعوبهم إلى مقاتلة أعدائهم وأكل لحومهم كما فعل الشاعر اليهودي الحاقد مناحيم بيالك في قصيدته" أناشيد باركوخبا" الذي يدعو فيها اليهود إلى أن يكونوا حيوانات مفترسة للانقضاض على أعدائهم الأشرار.

و كانت لفدوى أيضا لقاءات واتصالات عن طريق المكاتبة والمراسلة مع مجموعة من اليهود الحاقدين أو المعتدلين لشرح وجهة نظرها وموقفها الرافض لكل احتلال لأرضها ورغبتها في التعايش الحميمي مع اليهود كما كان ذلك في السابق. وعايشت فدوى عن كثب كثيرا من المشاهد الدامية والجرائم المروعة في الجبل كنسف بيوت المناضلين ونفي المجاهدين وقتل الوطنيين ومداهمة المنازل لتفتيشها، ولم ينج حتى بيت فدوى طوقان من هذه المداهمة للتأكد من وجود الأسلحة داخل بيتها.
وعلى الرغم من انتصار أكتوبر 1973 م الذي أعاد نوعا من التوازن العسكري في المنطقة العربية، كما أعاد الاعتبار للإنسان العربي، وأعاد نوعا من التفاؤل للأمة العربية، فمازالت إسرائيل تنشر الرعب وتعمل على الفتك بالأرواح ونفوس الضحايا وسفك دماء الفلسطينيين الأبرياء. وعاشت فدوى قبل حرب رمضان فترات مريرة يشوبها الحزن اليائس والبكاء الصاخب بعد وفاة جمال عبد الناصر واغتيال وائل عادل زعيتر ممثل حركة التحرير الفلسطينية في روما، تلك الحركة التي قررت خوض النضال العسكري ضد العدو المحتل بقيادة ياسر عرفات، وكانت لها مناوشات كثيرة مع العدو على مشارف الحدود وقد أقضت مضجع القادة الصهاينة بضرباتها المفاجئة ومباغتاتها المتكررة. وكانت الحركة ترفض أي تصالح مع العدو وأي تفاوض حول السلام على الرغم من محاولات فدوى لإخبار عرفات برسالة موشي ديان ونواياه في إقامة السلم وتوفير الأمن والاستقرار. وقد كتبت فدوى قصيدة لرثاء وائل زعيتر وتبيان صموده وتكذيب ادعاءات الصهاينة الذين اغتالوه ظلما وافتراء للتخلص منه ومن منظمة التحرير الفلسطينية. وقد اكتسبت القضية الفلسطينية بعد اغتيال وائل زعيتر من قبل مخابرات إسرائيل كثيرا من المؤيدين والمتعاونين والمتعاطفين مع الشعب الفلسطيني المناضل، ومن هؤلاء المتعاطفين مثقفو إيطاليا وخاصة الروائي الكبير ألبرتو مورافيا . كما ساهمت زيارة الفيلسوف الأمريكي الكبير هربرت ماركوز لفدوى طوقان في تعزيز القضية الفلسطينية وتأكيد مشروعية هذه القضية ودعم الفلسطينيين في المطالبة بحقهم العادل والصائب. وانتهت الزيارة بمراسلات ثنائية بين الشاعرة وماركوز، وبين الشاعرة وزوجته حول حيثيات الصراع الفلسطيني /الإسرائيلي.
وتستحضر فدوى طوقان في سيرتها كذلك مساهمة المرأة الفلسطينية في حركة المقاومة والنضال والكفاح من أحل الحرية منذ انطلاق هذه الحركة بعد سنة 1967م مع استشهاد الشاعرة شادية أبو غزالة وصمود رندة النابلسي التي دفعت الشاعرة إلى نظم قصيدة شعرية في حقها.

وقد حصلت فدوى طوقان على جائزة "الزيتونة الفضية " التي كانت تمنحها اللجنة الثقافية الإيطالية لعدد من الشعراء والكتاب من إيطاليا ومن بلدان البحر الأبيض المتوسط. ومن المثقفين العرب الذين حصلوا على هذه الحائزة توفيق الحكيم ونزار قباني وعيسى الناعوري وفدوى طوقان على أساس ( شاعرة لها قضية). وبعد ما أن تدوول مفهوم الأرض في كتابات المبدعين والمثقفين الفلسطينيين، تدخل كلمة الانتفاضة إلى القاموس الثقافي الفلسطيني لتشير إلى المقاومة والثورة الشعبية، بعد أن تغطرست إسرائيل كثيرا وعاثت في البلد فسادا ونشرت الرعب والهلع بطائراتها ودباباتها المصفحة واستخدام قوتها المتجبرة الظالمة. ولكن الحكومة المعتدية لم تنجح في إسكات الانتفاضة التي دامت سنوات عدة والتي أعطت كثيرا من الشهداء والأبرياء، وهذا مادفع فدوى طوقان لتنظم كثيرا من القصائد في رثاء الشهداء وتحريض الشعب الفلسطيني على المقاومة والنضال المستميت حتى الحصول على الحرية وطرد المستعمر الغاشم.

هذا، وينتهي مؤتمر مدريد بخيبة الأمل وتمادي العدو في الاحتلال، ويقدم المفكر اليهودي الإنساني ديفيد كروسمان في كتابه "الهواء الأصفر" الحل الإنساني اعتمادا على آراء فيلسوف الوجودية المبدع ألبير كامو.

وفي الأخير، كانت لفدوى مجموعة من اللقاءات مع أسماء ذائعة الصيت في مجال الفكر والثقافة والنضال السياسي كالشاعر الكبير محمود درويش الذي أقام مهرجانات شعرية كثيرة في الدول العربية للتعريف بمعاناة الإنسان الفلسطيني والتعريف بالقضية الفلسطينية والدعوة إلى مقاومة العدو الغاشم كما في قصيدته المشهورة "عابرون في كلام عابر"،والكاتبة الفلسطينية المناضلة باسمة حلاوة التي اهتمت كثيرا بالقضايا الوطنية والسياسية والاجتماعية ، وقضت حياتها في القاهرة تناضل وتكافح فخرجت بعمل فكري وأدبي وجدت صعوبة كبرى في طبعه ونشره إلى أن توفيت وأعيدت إلى بلدها لتدفن في مدينتها نابلس . و كان للشاعرة لقاء آخر مع داليا ربيكوفيتش التي كتبت كثيرا عن مسار حياة فدوى طوقان في مجال الأدب والنضال السياسي مشيدة بعلاقتها معها باعتبارها شاعرة فلسطينية محبوبة في العالم العربي تسكن مدينة نابلس وهي من أسرة مثقفة محترمة غادرت مدينتها للدراسة بأكسفورد لمدة سنتين لتعود إلى وطنها لمتابعة الكفاح ضد الاحتلال عبر كتابة الشعر والتحريض السياسي.

ويتبين لنا من خلال هذه المفكرة أن فدوى كانت تؤرخ للمقاومة الفلسطينية وحركية النضال والمواجهة منذ 1948م إلى غاية 1978م مشيرة إلى عواقب النكبات والنكسات والحروب العربية الإسرائيلية وخاصة حرب حزيران 1967م وحرب أكتوبر 1973م وما تبعهما من انتفضات جماهيرية ومظاهرات شعبية ومقاومات وطنية وعسكرية وخاصة مقاومة منظمة التحرير الفلسطينية و تضحيات شهداء فلسطين ومثقفيها المناضلين الأشاوس الغيورين على البلاد.

وتعتبر سيرة فدوى طوقان خير وثيقة مرجعية نعود إليها لمعرفة تاريخ نضال المرأة الفلسطينية وانطلاق الحركة الثقافية والإبداعية في الساحة الفلسطينية ولاسيما بعد هزيمة 1967م، وطبيعة هذه الحركة وإسهاماتها الفكرية وذكر أنشطتها ومساهماتها في إثراء الساحة الثقافية والنقدية. كما أن هذه السيرة تؤرخ لرجال الفكر وتوثق قصائد فدوى طوقان وسياقاتها وخلفياتها الظرفية لفهمها جيدا في أبعادها المناصية و التاريخية والإحالية. ومن هنا، يمكن القول: إن سيرة فدوى طوقان سيرة الأدب والشعر والمقاومة والصمود والكفاح في وجه العدو المحتل للأراضي الفلسطينية.

3- الخطـــاب الســردي:

تندرج " الرحلة الأصعب" لفدوى طوقان ضمن جنس السيرة الذاتية الذهنية؛ لأنها ترصد حياتها الإبداعية و الثقافية والفكرية ومسارها الحيوي في المقاومة والكفاح والنضال المستميت من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل. وتعتمد فدوى طوقان على الذاكرة لاسترجاع الأحداث مع العلم أن زمن الكتابة والطبع و النشر هو 1993م وهو يشكل حاضر الكاتبة وواقعها الراهن. ومن ثم تعود الكاتبة بذاكرتها إلى الماضي لاستقراء سنوات الهزيمة ومأساة حزيران 1967م وآثارها على الإنسان العربي بصفة عامة والإنسان الفلسطيني بصفة خاصة. ومن هنا، فالزمن هابط في استقراء الذاكرة واستنطاقها القصصي والسردي، وإن كان الزمن داخل المتن تعاقبيا كرونولوجيا يخضع للترتيب والتداخل ويبدأ من فترة 1967م إلى سنة 1978م مع الرجوع إلى فترة 1948 لاستحضارها كنقطة لبداية المأساة والاقتتال الدموي بين الفلسطينيين والإسرائيليين حول الأرض والقدس الموعودة.

ويتميز الإيقاع السردي بالسرعة في إيراد الأحداث والقفز على مجموعة من الحوليات والسنوات داخل عقد الستين والسبعين نظرا لعدم أهميتها لدى الكاتبة أو ربما لفراغها ثقافيا وأدبيا وخمودها نضاليا بسبب الرعب الصهيوني وعمله على إسكات المناضلين والمثقفين الغيورين على بلدهم الحبيب.

ويستند المنظور السردي إلى المنظور الداخلي الذاتي والرؤية "مع" في نقل الأحداث وروايتها، وبذلك تتداخل الساردة مع الكاتبة فدوى طوقان في المعرفة المتساوية وتذويت المسرود. ويمتزج في السيرة الجانبان : التاريخي والأدبي، أو الجانب السياسي والجانب الإبداعي. وتحصر وظائف الساردة في التوثيق والتأريخ والتصوير والتعبير والتنبيه وتبليغ أطروحة المقاومة والنضال ضد الأجنبي الصهيوني المحتل. ويحضر ضمير المتكلم باعتباره ضميرا بؤريا أساسيا يتحكم في الضمائر الأخرى التفاتا وإرصادا وإضاءة وتوجيها.

وتتسم كتابة فدوى طوقان بالمزج بين السرد والحوار واستخدام الأسلوب التقريري المباشر في نقل الأحداث التاريخية والصحفية وتوثيقها وتشغيل الأسلوب الأدبي البياني الشاعري أثناء عرض النصوص الشعرية. كما يحضر الأسلوب الوصفي الموضوعي العلمي أثناء ذكر مناسبات القصائد وسياقاتها الحدثية والمرجعية وممارسة النقد تحليلا وتقويما وتوجيها. أي إن الكاتبة تجمع بين الوظيفة المرجعية أثناء التوثيق التاريخي والوظيفة الشعرية أثناء استعراض النصوص الشعرية وتذوقها ، والوظيفة الوصفية أثناء قراءة النصوص الإبداعية ونقد كتابات المبدعين وتقويمها دلالة وصياغة ووظيفة.

وقد ضمنت الكاتبة في سيرتها مجموعة من الأجناس الفرعية والخطابات التناصية كالقصة والرسالة والحوار الصحفي والشعر والكتابة النثرية والكتابة النقدية والتقرير الصحفي والأطبيوغرافيا... ويعني هذا أن سيرة فدوى طوقان عبارة عن نص مفتوح على الخطابات الفوقية والواقع المرجعي. وتتخلل هذا الكتاب نوعان من السيرة: السيرة الذاتية الإخبارية العادية التي تقوم على اليوميات والمذكرات واللوحات الحياتية المستقلة والسيرة الذهنية الثقافية التي تشير إلى المرجع الأدبي والثقافي للشاعرة.

وتعتمد الكاتبة في وصفها الأطبيوغرافي على تصوير لوحات سوداء ومشاهد مثيرة ولاسيما لقطات النسف لمنازل الشهداء هدما وتخريبا ولوحات الحصار والمضايقات إبان لحظات تفتيش البيوت بحثا عن الرصاص علاوة على لقطات وصفية لبعض الشخصيات كلوحة فدوى طوقان مثلا.

وقد وصفت الأماكن بطريقة موجزة وموحية مبنية على التكثيف والتلخيص دون استعمال الإطناب والتوسيع والاستطراد الذي نراه عند طه حسين مثلا في سيرتيه "الأيام" و"أديب". وهذه الفضاءات التي رصدتها الكاتبة هي فضاءات مرتبطة كلها بالوطن والأرض في تقابلها مع فضاء الاحتلال مصورة بذلك ثنائية الاسترقاق والرغبة في الحرية، وثنائية الألم والأمل دون أن ننسى رصد الكاتبة لفضاءات مصر بالتصوير عبر مجموعة من النعوت والأحوال والأوصاف الموجزة والدقيقة في التعبير والإيحاء.

استنتاج تركيبي:

نستنتج مما سبق ذكره أن نص فدوى طوقان " الرحلة الأصعب" هي سيرة ذاتية ذهنية يختلط فيها التاريخ بالأدب، والتوثيق المرجعي بالمعطى الأدبي والنقدي. كما أن هذه السيرة هي سيرة المقاومة والصمود والنضال والتوثيق للكتابة الأدبية بفلسطين المحتلة بعد نكسة حزيران 1967م. وتسعفنا هذه السيرة الأوطوبيوغرافية الثرية المنفتحة تناصيا وأجناسيا وإحاليا على تبين سياقات مجموعة من قصائد الشاعرة فدوى طوقان وتفسير كتاباتها الإبداعية والنقدية ، والتعرف كذلك على حيثيات النضال والمقاومة و جدلية الصراع العربي الإسرائيلي، والاطلاع على الوضعية المزرية المأساوية التي كان يتخبط فيها المثقفون الفلسطينيون ويعيشها أدباء الأرض المحتلة.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى