الخميس ٨ آذار (مارس) ٢٠٠٧
بقلم ورود الموسوي

ليسَ يُنجيكَ المسير...

هو العنوان الذي اختاره الشاعر سعد الياسري لمجموعته الشعريه الثانية .. الصادرة مؤخراً عن دار الخيال للطباعة والنشر ..

تضم المجموعة 28 قصيدة ختمها بقصيدة مهداة الى عبقري الشعر العربي الحديث الراحل بدر شاكر السياب بعنوان (الموتُ مُنْذُكَ شرَّعك) التي جاءت عمودية فالعظماء – على حد قول الياسري- لا يصح أن تخاطبهم بقصيدة نثر أو تفعيلة لذا جاءت عمودية كي تزيد من عظمة المخاطَب .

لكن ماذا عن باقي القصاائد أو لنقل هل نجى الياسري من عثرته الأولى كما قال البعض عن ديوانه الأول ( منسأتي)؟ هل غيّر الياسري لون لغته التي عُرف به؟ هل سينصفه النقاد هذه المرة أم سيطعنون ظهره في المسير فلا ينجيه الأخير كما تنبأ؟

وهذا ما سأحاول النظر اليه بايجاز ربما ..
لست متطرفة لو قلتُ أن مَن يدعي تقديم قراءة كاملة عن أي مجموعة ما هو الا هاوٍ في الشعر أو في النقد أو في القراءة .. فمن الصعب جداً أن يُقرأ عمل أيا كان عبر قراءة واحدة ادعاءً انها كاملة مستوفاة .. ناظرة الى الكتاب والكاتب... الا لو كان بصدد تقديم دراسة عن الشاعر ونتاجه فهنا سيكون المسرح واسعاً للتحرك باتجاهات عدة .. قادرة على خلق تماسك تام بين النقد والطرح.

لذا وحفاظاً على الأمانة الشعرية والنقدية .. لن أرفع شعار قراءة كاملة للمجموعة .. للسبب أعلاه.. وعليه سأكتفي بتسليط الضوء على القصيدة الأولى التي زينت الديوان والتي حملت عنوان (المزامير / أناشيدُ الشك والحب والأغتراب ).

ليس ينجيك المسير .. تميزت بطرح اسئلة كونية .. عالمية .. ناظرة للأنسان مرة وللكون اخرى .. هذه المجوعة حملت روحاً قلقة محاطة بالشكوك .. فتحت باب الأسئلة على مصراعيه منذ القصيدة الاولى .. لتتحول الى سؤال كبير ..! مالذي يريد أن يطرحه الشاعر من خلال رؤيته للعالم .. لذاته.. للآخر القابع فيها .. واخيراً للمرأة التي تعددت أشكالها / ألوانها .. حيزها في المجموعة .

ولأن النقد يتخذ شكلين عادة .. أحدهما ناظر لعلاقة الشاعر بنصه والأخر ناظراً للنص بعيداً عن شاعره ... رأيت أن لا بأس باستخدام الأثنين معاً هذا لو اتفقنا على أن النص لا يولد من فراغ وخالفنا باختين في نظريته الداعية لموت الؤلف وقلنا أن لا موت لمؤلف داخل نصه .. هذا ربما سيفتح لنا مساحات من الضوء نلقيها على النص مبتعدين عن الذات تارة . ملامسينها اخرى .. آملة أن لا أُسهب في قراءتي .

المزامير

أناشيد الشك و الحب و الاغتراب

تحتوي هذه القصيدة على ثلاث مزامير مختلفة في الثيمة التي تعالجها متفقة في التسلسل والعدد واسلوب المعالجه المطروحة .. ربما لم أجد معالجة تذكر لكنها اسئلة كما أسلفت تلقي ظلالها على عقل المتلقي تتركه في لجة يبحث عن أجوبة .. تحمله معها كي يردد ذات الأسئلة وربما سينتشي لحظة العودة بلا جواب .. فالعملية جلها تحريك للساكن فينا .. لا لخلق حلول .

ربما ما شدني للمزامير أكثر هو تعامل الشاعر مع الحواس .. السمع والشم واللمس والذوق والبصر .. ففي المزمور الاول على سبيل المثال تختلط كل الحواس لأن الموضوع ( هي ) لها ما تيسر من شهوة الضد .. الأضداد تختلط فنرى حاسة السمع قائمة في السطر الأول .. ( صوت كنبرة حزن الهديل ) ثم حاسة الذوق والشم ( لها سم افعى وعطر البنفسج) .. ثم تأتي حاسة اللمس ( لها حضن امي ....الخ) وفوق هذا كله هو يستخدم بصيرة البصر لو صح التعبير للتدليل على ما تكتنهه من صفات ..!
أضف الى مادة الحواس التي سأدلل عليها بأكثر من موضع .. أرى أن المزامير اعتمدت على (دائرية المعنى) .. بمعنى أن موضوعين أو أكثر يخلقهم الشاعر داخل النص ليتحرك بينهم ذهاباً وإياباً دون خلق روابط واضحة بينهما لكنها جلية للباحث في عمق النص .. ولنرى اولاً :

المقطع الأول من المزمور الأول :

لها ما تيسّر من شهوة الضدّ
صوت كنبرة حزن الهديل
لها سم افعى , وعطر البنفسج
لها حضن امي
رؤوماً يلملم ( سعداً) برحمة
لها نية الطهر عند الوضوء
ورجس الخيانة
وديباج سندس
واسمال زهدِ
لها نشوة الخمر حين العناق
وقول علقم
لها حلم انثى , وتحليق عشق, ورغبة غيم يؤاخي الهطول
لها اغنيات الرعاة الجزيلة
ولذة حب الاله بفطرة
لها صدق (مريم) , بغي ( سجاح)..!!
لها منطق الشعر حين العتاب
وسورة غيظ
واشياء طفلة
لها كل هذا .. فكيف تراني اعرّف فكرة..؟!

المقطع الاول ( لها ما تيسر من شهوة الضد) هي الفاتحة لكل هذه التضادات التي اوردها الشاعر .. والتي تنتهي بكشف الكشف عن ( الفكرة) .. وهذا يرجعني الى النقطة التي أثرتها اولاً .. ان من ضمن الأسئلة التي تطرحها المجموعة هو السؤال عن ( المرأة) العالم المتجلي بوضوح في هذه المجموعة لكنها لا تجيء واحدة .. بمعنى أننا لا نرى وجهاً واحداً يتكرر بل نرى ظلاً يتكرر نراه يميناً وشمالاً .. مرة يجي بوجه امومي .. ومرة يجيء بوجه حبيبة خانت .. أو ماتت .. واخرى يجيء رمزاً الى قصيدة أو فكرة .. فالاشياء حوله مؤنثة معانيها وإن تكررت بوجوه مختلفة .. يتعامل مع هذه الوجوه بحواسه الخمسه .. فتارة يسمع واخرى يتذوق وهكذا حتى يكتمل التعامل مع ماحوله بحس عال واع لما يدور بل مستخدم بإتقان حتى في لحظة اللا وعي..!

وعوداً على ما طرحته اولا حول الأسئلة التي يجيء النص محملاً بها فكما هو ملاحظ هنا هذا التضاد الذي خلقه النص جاء مختوماً بسؤال لا جواب له ( لها كل هذا .. فكيف تراني أعرّف فكرة..؟!)

هذه الفكرة تتصاعد بنجاح لتخلق صورها من داخل النص بمعنى أن الصور التي مرت في المقطع الأول من المزمور الاول هي صور بنائية أي بنائها صوري لا تراكمي بل تصاعدي .. بمعنى أن التضادات كانت أسباباَ لطبيعة مسببها ( الفكرة) وهذا ما سيتصاعد أكثر في المقطع الثاني من المزمور الاول:

وشيّعتُ نبضي على آلة الحلم
قلت القصيدة تُلغي المُحال..
فلا جاء معنى
ولا صال وصفٌ
ولا سار نجم , ولا جال بدرٌ
ولا فرّ نهدٌ ولا احمرّ خد..!!
وقلتُ كثيراً عن ( الفيض) إذ ما تلاقح سراً بسرب الغيوم
وقلت النبي ينام الظهيرة
بعد الظهيرة يهبط وحي ويخضرُّ حرف
وقلت القصيدة تفشي
وأنتم جنود الوشاية
لا تفضحون ..!!

لغة التساؤل ما زالت قائمة .. تتضح المعاني اكثر باتضاح معنى الحلم والفكرة .. الفكرة هي القصيدة هي كل ما يتحصل عليه الشاعر .. ربما اسمح لنفسي بالذهاب ابعد كي لا ألصق المعاني بالذات أكثر بل أدعها تتنفس بمتسع آخر .. ساعتبر الحلم هو رمز لكل البدايات الشعرية ليس بالضرورة للشاعر نفسه فقط بل هي ناظرة لكل البدايات حتى وإن جاءت بصيغة منولوج داخلي ( وقلت القصيدة تفشي / وانتم جنود الوشاية لا تفضحون ) الجنود هنا سأطلق عليهم صفة الأصدقاء أو المناوئين ربما وهذا ما سيفضحه الياسري اكثر في المقطع الثالث من المزمور الأول إذ يكمل شكوكه وتساءلاته اذ يجعل هذا المقطع بمثابة مدخل الى اسئلة كبرى عن القصيدة ومعناها .. عن النقد بحد ذاته .. عن الشعر حين يطفو ويرسب .. عن الحداثة بفهمومها اللا واضح عند اغلب الشعراء .. وايضاً عن المرأة في كل هذا !

أيا ليت شعري بماذا نثقّف نصل المعاني
وحد المجاز..؟
وليست بدار القصيدة إلا بقايا الطلول
وماذا نقول:
 
عن الحلم حين اخضرار السرير..؟
عن النار في جسد العاشقين ..؟
عن النبت في اصص الباذرين..؟
عن الماء اهرقه العابثون ..؟
عن الحرف أرضى شعور الامومة عند الدواة..؟
عن الحبر في نزق الكاتبين..؟
عن الشعر في هذر الناثرين ..؟
عن الطهر ضيع بعهر الغواة ..؟
وماذا القصيدة غير ارتعاش الحروف ..
ونقش بصدر الفتاة ..؟!
وماذا الجنون ..
سوى أن يكون الجنون حياة ..؟!

هذا المقطع بُني على أكثر من مفهوم .. أحد هذه المفاهيم هو وجود العناصر الاربعه التي يتكون منها الوجود .. النار.. التراب.. الماء.. الهواء.. وهذا ما يخرج الاسئله عن محليتها لتصبح كونية بمحض ارادتها ..
المقطع الاول هو المدخل الى كل تلك التساؤلات .. وهذا يجبرني على القول أن المقاطع الأولى عند الياسري دائما تجيء بما بعدها من شرح وتفصيل .. وكأنها تكون اختزالاً للتفصيل الذي يعقبها .

في الأسئلة التي لامسها الشاعر نجد موضوعين استحوذا على النص الأول متمثلا بالكتابة . التي جسدتها العبارات التالية الحبر .. الدواة .. القصيدة ..النثر واخيرا الحروف .. والموضوع الثاني هو الجنون بمعنييه الأول متمثلا بالاوصاف الأولى .. السرير .. جسد العاشقين .. الماء ..النبت والباذرين .. والمعنى الاخر الذي ختم به المقطع هو أن الجنون هو الحياة وهذا ما وحّد أركان المقطع .. أن الحياة هي الجنون في كل هذه التساؤلات وأكثر.. بل ربما سأذهب لأبعد من هذا لأقول أن معنى الكتابة هنا هو تجلٍ وخفاء بمعنى أن السرير وجسد العاشقين والماء والنبت والاصص كلها ناظرة الى معنى الكتابة الحسي وهذا هو التجلي الظاهري في المعنى.. والمعنى الخفي او الباطني لسر الكتابة هو حالة الخلق التي ينتجها الكاتب بصف حروفه ولدينا مقطع واحد يشمل المعنيين معاً (عن الحرف أرضى شعور الامومة عند الدواة..؟) الدواة هي رمز المرأة هنا اعطاها رمزية عالية المعنى للتدليل على المعنى الحسي في التلاقح وتخلق الأجنة .. وهذا المعنى يتجلى بوضوح ناظراً الى تخلق الحروف كما الجنة من الدواة كما المرأة.

وهذا ما منح المقطع قوة اكبر لجعله قائما على الدوران.. أن يبدأ برمز ومعنى ثم الانتقال الى اخر ثم العودة الى ذات الرمز والمعنى وختم البدء به . وهذا ما حدث تماماً في هذا المقطع إذ اعطى الجنون ثلاث دلالات ودلالة متفردة .. الأول كما ذكرت هو معنى الكتابه بمفهومها العام بطرح تساؤلات عن مفهومها ودلالاتها .. والاخر هو الجنون بمعناه الحسي .. متمثلا بجسد العاشقين .. والثالث جاء موحداً بين المعنيين معنى الكتابة ومعنى الجنون .. اذا جعلها تجلٍ وخفاء .. والمعنى الاخير الذي ختم به هو مساواة الحياة بالجنون . ( وماذا الجنون ..؟ سوى أن يكون الجنون حياة ..!!)

المقطع الرابع من المزمور الأول هو تصاعد درامي لأحداث الحياة التي مر ذكرها قبل قليل .. وهنا استعدادٌ لتبيان الاصدقاء .. وربما هم خاذلوه لاحقاً حين يدخل في المقطع الاخير ..

أما المقطع الرابع يتحدث بشكل عام عن اصدقاائه الذين كانوا كما الطيف وكان لهم كحدق ( كانوا كطيفٍ وكنتُ الحدق) هؤلاء هم عالمه المقرّب إذ (كانوا حقولاَ من الضوء) يمنحونه الشعور بالأمان ويثيرون فيه ولعه الدائم بالشك والأسئله (و كانوا ارتيابي .. ولجة شك ..!!).

وفي المقطع الخامس ينتقل الى القصيدة مرة اخرى كي تكون المدخل ( كما العادة) الى المقطع الأكثر اثارة وتوجعاً وصدقاً في المزمور الأول .. وهنا لا مناص من توحد الشاعر بكلماته وما استقر في ذاكرته من قول الكثير حول المنسأة .. حول الود .. حول الفيض ... والمتابع لما يكتبه الياسري سيجد أن هذه الكلمات تتقاطع روحياً معه إذ أصبحت جزء من حياته اليومية علاوة على كونها من أهم المفردات التي يعتمدها في الكتابة .. بل أبعد من ذلك حمّل ديوانه الأول عنوان (منسأتي) .

والى المقطع السادس من المزمور الأول:

وحين وقفتُ على مفرق الحق عند الأصيل
تجلَّت دلالة معنى الوصول
وقُدّت بخبثٍ ثياب المسافر
قيل سترجع كيما تصلي على الامنيات صلاة أخيرة..
وقيل بأن الأرومة تنأى
وانت كجذع يوآخي الهواء
فعد الى جذرك..!!
قيل بأن أزاميل حرفك تكشط وجهاً ليبدو في غمرة الهتك آخر
وقيل عبرت بزادٍ , وسفر
ورفقة معراجك الأقربين
فكانوا ( الهيولى) وكنتَ ( العبور)
وقيل عن ( الود) قول كثير
عن ( الفيض) عن سجدة ( المنسأة)
وقيل الكثيرُ وأنت صموتٌ
وما قلتَ الا مقالة من قال يوماً
(سقوني ...)
وما جبت إلا
معاني الوقوف بكنه ( المواقف)
ما كنت الا كمن ضاق ذرعاً بزيف العقول
ففرج عنك بماء السؤال:
- - على من ستتلو مزامير شعرك...
- أنت وحيدٌ لقومٍ أُبيدوا..؟!

هذه الــــ ( قيل) المتكرره في النص ماهي الا اسئلة .. أجوبتها وصلتنا سلفاً .. هذا المقطع يتقاطع جدا مع مسيرة الشاعر .. بل يوحد بينهما فيظهر جلياً ما مر على الياسري .. وهو ( صموت) لم يجب الا بالوقوف .. وهذا ما يختتم به جوابه الأخير الذي لا اعتبره جواباً بل سؤالاً أجاب عليه هذا الديوان .. ( على مَن ستتلو مزامير شعرك ..) هذا السؤال سيجيب عنه كل مَن سيقرأ هذا الديوان.

وبهذا يختتم المزمور الاول لينتقل الى موضوع آخر يتحد مع الموضوع الاول شكلاً .. بمضامين مختلفة.

في المزمور الثاني .. وجه الحبيبة هو الأبرز وكما ضمنه في العنوان أناشيد الشك والحب والاغتراب

في المزمورالاول من المزمور الثاني ( هي) محركة الكلام .. هنا (دايلوغ ) بينهما .. يبتدأ الحدث بصوتها لتسدل الستارة على صوته .. هي نظرة الى الماضي .. وتصوير دقيق التفاصيل لواقعة طافت رؤاها في زمن متجمد الحركة الآن.. لكنه فاعل في ما مضى ..!
ليس بعيداً عن تفاصيلها الاولى الي تابعناها في المزمور الاول .. هناك كان هو من يرتب الصفات المتضاده ...وهنا هي من تقول وترتب اشيائه .. ولنرى ماذا تقول وماذا اختتم :

المزمور الأول من المزمور الثاني:

وقالت: (فديتك)
كان انهماري كعربون طلٍّ
وقلتُ الإله يحب الرعية
يصبغ وجه الحزين بفرح
وقالت: (أحبك)
أنت الغريب الذي سوف يجدل شع الأميرة
أنت الشريك بحلمي وصحوي
وأنت التشهد فوق لساني
وانت الصلاة , صِِِلات تشدُّ السماء لأرضي
وانت اتجاهي الى ضوء ربي
وأنت التنسك
أنت الرسول , وانت الرسالة
قالت وقالت , وما قلت إلا:
 
- أحبك أكثر ..!!

فكيف استوى وجه الغريب غريبا على ليل تلك الجديلة
سألت كثيرا تجاويف حرفي وأرزاء شعري:

علام وكيف وهلا وأين وأنّى وعمّ ..؟

سألت كثيرا
وسالت على صخر صبري أجابة:

على غفلة من جفول بنبضي , أتيتِ , عشقتِ , غدرتِ , فغبتِ ...!!

هنا دراما تصاعدية الحدث .. ليس شعراً فحسب بل بــ دايلوغ ومونولوغ داخلي يغلف هذه المقطوعة الشعرية لتتحول الى مسرح وممثلين وألوان وأدوار تؤدى ببراعة وتصاعد الى الوصول الى الذروة وهي الكشف عن الغامض بعد الحدث .. الصوت هو صوت المؤلف .. هو مَن يلعب دور المتحدث الأول ( هي) وهو من يلعب دور المتحدث الثاني (هو) وهو من يلعب دور الحضور .. وأخيراً هو مَن يعلن انتهاء اللعبة فوق المسرح وسدل الستارة ( أتيتِ .. عشقتِ .. غدرتِ .. فغبتِ ..!!) تفاصيل المجيء والعشق والغدر والغياب غائبة .. لمنح المتلقي حالة من مشاركة .. رغم أن المؤلف أطلق الحكم على غياب او موت البطله وتحميلها الذنب كاملاً .. لكنه لا يلغي دور المتلقي بالسؤال .. لماذا ؟ وعلام وكيف وأين ومتى ...؟ وهي ذات الاسئلة التي شغلت ذهن الشاعر والمتلقي معاً .. هي ذاتها الاسئلة الكونية التي توحد الحالات البشريه .. في الحب والغدر والغياب والموت احيانا .. هي ذاتها الاسئلة التي تتصاعد كي تعرض المشهد الثاني من المسرحية ... او من اللعبة كما أود تسميتها ..!

في المشهد الأول كانت خلاصة حدث .. وكأنه استباق للوقائع .. وفي المشهد الثاني نجد التفاصيل اكثر .. وهذا ما لم يود قوله لولا الذاكرة .. بمعنى انه في المشهد الاول كان تحت وقع الحديث والقول والانصات .. وفي المشهد الثاني وهو مشهد ما بعد الغياب لا شيء الا العودة الى التذكر كما يشير هو بقوله ( وأنى البقاء .. وخوفٌ يعس خلال الوريد نذيراً .. إذا جاش رسم ,, تهاوى كثيب على فادحات التذكر )

هذا التذكر الذي يعود به اليها في ( داجيات الليالي ) يفتح كوة على السؤال مرة اخرى حيث يهزها بقوله ( فأينَ رحلتِ..؟ .. تُرى هل دفنتُكِ دون انتباه ..؟!)

من أقسى الصور التي مرت امام عيني وأنا أقرأ .. ( تُرى هل دفنتك دون انتباه..؟) هنا اوبرا كاملة .. ولا اراني اتطرف أو ابالغ بقولي .. ملحمة من الحب .. العذاب .. الغدر .. التضحية .. الغياب .. القسوة .. كلها اختزلت في هذه الكلمات ..!!
في المشهد الثاني تسدل الستارة على البطل بين خيط من الضوء والظلام وخيال بعيد يلوح وصوته يشق العتمة .. ( تُرى هل دفنتك دون انتباه!!)

في المشهد الثالث والاخير .. الى تفاصيل أكثر الى حلم يقظة .. الى فضح اكبر وكشف اخر .. في المشهد الثالث .. البطلان معاً .. لا ننسى أن مَن خلق المشهد هو ( التذكر ) لا البطل / الشاعر .. هنا ربما سأصمت لأترك التفاصيل تتحدث :

جفلتُ من الحلم غير قليل
وأنت الشريكة دوماً لراءٍ ..!
خَلقنا سوياً:
كمين الوداد , جزيل العناق
مسيرة قلب , مشيئة حب
نفخنا بصلصال ذاك الطموح
وقلنا سننمو
سنكبرُ حتماً
سننجو برحمة
سنمشي على الماء خلف( المسيح)
يشار الينا:
أولئك قوم أحبوا فكانوا االهداة لمن ضل ..
قلنا سنخلق بعض البراءة
كان الجنون حفيَاً , يلبي
هجسنا بماذا نسمي قدوم البشارة
قلتُ : ( علياً)
وقلتِ: أراني أتوق لـــ ( خالد )
أصررتُ دوماً فكان الوفاق
وكان ( عليٌّ) ..!!
تناثر حلمي على روضتيك
نثرت السنين وقلتُ:
إليكِ سآوي فأُعصَــمُ
بذرتُ اليقين
وما خلت يوما بأن الثمار نقيضٌ لبذري
غرستُ بقلبي طهارة امي , وحبك أنتِ
وشيئاً كثيراً بحجم ( العراق)
دسستك عمقاً بصدري ..
عشقتكِ انتِ, عشقتكِ يوماً
وما ظلّ في القلب إلا التذكّر ..
حسبي الووفاء الى بعض ذكركِ
كوني كما شئت دوماً ..
لأني ارتحلتُ ولستِ المآب ..!

الى هنا يسدل الستار على المزمور الثاني .. مزمور الخيبة في الحب .. الرحيل دون مآب .. والى الرحلة الأخيرة ( المزمور الثالث ) أو ( الأغتراب)

ما يميز المزمور الثالث هو الحدث التصاعدي في النص .. يمسك الشاعر يد القاريء ليسيران معاً برفقة الاحداث التي يشرحها الناص للمتلقي ..

تآخيتُ يوماً بنصف احتمالٍ
وحزن ( العراق)
فقلتُ لشعري:
 
- كن لي بلاداً ..!!

هذه العبارة هي اعلان مسبق للغربة .. بل هي المدخل الى التفاصيل الأخرى تماما كما رأينا في المزمورين الأول والثاني .. لكن ما يميز المزمور الثالث .. ليس فقط ولوج الناص في معنى الغربة او كيف وصل الى الاغتراب بالمعنى الحسي الظاهر وبالمعنى الخفي الباطن .. لكن بالتعامل مع الرمز .. هنا التعامل يتجسد في رمزين الرمز الاول هو البلاد ( العراق) بين قوسين .. والرمز الاخرالغربة بكل ما تعنيه للعالم عامة وللعراقي خاصة .

وهنا يتجسد التعامل مع الرمز الاول:

وكانت بلادي ..
كوشمٍ على كف راع فقير
كنخل ترجل للنهر يغسل جور السنين
كطوفان(نوح) , كفلك النجاة
كــ ( موسى) بلا تيه أو احجيات
كـــ (عيسى) يئن عليه الصليب
كقرآن ( أحمد) صيغت بلادي
كسيف ( علي) , ورأس (الحسين)
كناقة (صالح) دون (قُدار)
كحبس الذكاء بصبح (يشوع)
كمزمور (داود)حين الترنم
كالمعجزات
ككل المقدس صارت بلادي
وأكثر ..!!

لا شك ان وجه العراق حاضر في كل المجموعة وإن لم يُذكر صراحة .. كما في ( لو كان لي وطن) وقصيدة ( ايضا) و ( في عتمة الماخور يرتاح الوطن) وكذلك في قصيدته ( اطوّر الفوضى , لأفقه) و( داخ البنفسج) وغيرها .. لكن ما يجعل الرمز هنا اقوى أن الحديث متصاعد فيه .. هو ليس وطن او بلاد لكل البشروحسب لكنه مقدس بمافيه من رسالات و من قديسين مروا فيه .. تركوا بعضهم وها نحن نولد في ذات الارض المقدسة لنكتشف سر قداستها .. العراق بترابه الذي ما زلنا نقدس ما زلنا لا نفقه سر استيطانه فينا رغم ما رأيناه وما نراه .. هنا يعزف الشاعر بحرفية على هذه المقطوعه بالذات .. وكأن السؤال يطرق : أي مقدس هو لا يسلخ جلد قداسته عن قلوبنا..؟

السلم في المزمور الاخير هو سلم يتراوح بين الذات والوطن بمفهومه الاكبر .. وبين الغربة الداخلية للأنسان .. وبين الغربة الخارجية له .. وهذا يظهر جلياً في كثرة الاسئلة التي ميزت المزامير وهي دلالة جلية على الذات القلقه وما تحمله من شكوك كبيرة حول كل شيء .. وهذا ما يختتم به المزمور الثالث من المزمور الثالث بعد جولة طويلة من الاسئلة التي كما أسلفت غير ناظرة لأجوبه او لحلول لكنها تشرع باباً الى اقصاه مع الآخر المتآخي بذات الأسئلة:

أيكبر يوماً ربيب الجهات , يدس بكف النجاة البشارة ..؟
أتبقى وحيداً كأول خلقك ..
تبكي , ولكن بلا حضن امك
أيخضرّ حرف أيرسم حقل
وينمو الظلام
وينمو بصدرك أكثر وأكثر
ويبقى السؤال:
تُرى هل يكون سوى الكانَ كائن ..؟

وبالانتقال الى المزمور الرابع والخامس والسادس .. نجد ان اللغة المستخدمة هي لغة السؤال ايضاً ..وبالتالي منها يقترب الشاعر الى خط النهاية او خط الكشف للحقيقه الكبرى التي يصلها ايضاً من خلال الاسئلة .. في هذه المزامير الثلاثه من المزمور الثالث .. يتوقف الياسري عند نقطة البدء الكونية .. يدعك اسئلته جيداً كي لا يفلت منه سؤال .. هو هنا في محكمة كبرى من الاسئلة .. هو المدعي فيها والمحامي والقاضي واخيرا هو المتهم .. لا احد يدافع عنه .. او يتهمه .. أو يلغي يقينه ويرسب فيه الشك .. الا اسئلته هي ذاتها دون أحد ...هو والاسئلة و حدهما في صراع امام محكمة الكون الكبرى فيقول مثلاً في المزمور الخامس من المزمور الثالث :

بأي الدروب ستنمو خطاك التي أودعتك بغيهب فكرة..؟
أهذا الطريقُ ستسلكُ ..؟
قل لي:
أتلك المحجةُ تلغي شكوكك..؟
تهجرُ أرض السؤالِ ..؟
أتقوى ..؟

هذا كل شيء باختصار الاسئلة هي جزء من حياته الخاصه .. هو سجين اسئلته التي تدافع كثيرا عنه وتحكم عليه بالسجن أكثر .. بل ترعبه احياناً كما جاء في أحد مقاطع المزمور السادس من المزمور الثالث:

اذا ما سُئلتً عن الحب والشعر
والخمر والجنس
والحرث ( أنى ...) أتيته يوماً ..؟
عن الله كيف رأيته نوراً يبرزخ بيني وبين ظلالي
عن المعجزات وهل أقنعتني ..؟
فكيف اجيب..؟
ومن ذا سيسأل؟
هل سوف أُسأل ..؟

هذا المقطع هو عباره عن مزيج من التناقضات والشكوك التي تلح في لاوعي الانسان عامة والشاعر خاصة اذ تتجلى تجربته الانسانية في الحياة .. بل أن صياغة شعره كاملا تدل على ذلك .. فهو انسان اتخذ من تجربته مادة لتكوين شعره .. وما يهمني هنا الاسئلة الشكوكية التي توارثتها المزامير دون النظر الى مفهوم المزمور الذي توارثناه انه مدعاة الى اليقين ..لكن هنا في هذه المزامير نجد العكس تماما هي اسئلة تفضح العقل والموروث معاً.

لكن لحظة الكشف حانت حين يدفع كل تلك الاسئلة الى باب الوصول او الذروة في الحدث ليمهد بقوله :

اريد الحديث الى السابقين
وكانوا هناك يؤآخون صمتاً
وغير اكتراث
تسارع نبضي
أصابع كفي تود الوصول لقطف تناءى
وعيناي ترصد كل المشاهد
عقلي يصيح:
سأذكر هذا , سأذكر تلك , سأُنشدُ شعراً عن الباب والدار والنازلين
سأُخبر صحبي عن الماوراء , سأفعل حتماً ..!!

وهنا يتوقف لحظة ليرفع ستارة مسرحه فيبدو نائماً وكل ما مر من معركة الاسئلة ماهو الا حلم تراءى له في البعيد وها هو الان يصحو على لا شيء ولا اسئلة ..

وما زلتُ وحدي
ولكن , صحوت أخيراً ..
وإذ بالفراش دفيئاً
وفوق الغطاء زغب ..!!

اخيراً يمكنني القول أن السؤال في هذه المزامير خاصة وفي المجموعة عامة هو الرمز الحقيقي الذي يقرع دون رحمة ويجلد احياناً
ان المزامير الثلاثه هي عبارة عن سلسلة متصلة بدأت بالشك وانتهى بالشك الى الاغتراب وبالاغتراب الى كل هذا ..

هذه المزامير كما مر .. هي تصاعد درامي يبدأ بنقطة وينتهي عند اخرى دون أن يترك لك مجالاً للشت بعيداً عن مسيره .. القاريء والشاعر هما في رحلة واحدة .. يلعب فيها الشاعر دور الدليل او المرشد يحملك معه الى عوالمه الخاصه والى ما تحتويه من غربة داخليه يتصاعد فيها المنولوج احيانا وفي سهيانك يلتفت اليك يُشركك فيه ليتحول الى دايلوج صامت .. هو لا ينتظر منك اجوبة بل اسئلته لا تمنحك فرصة لتحليلها وهو يسردها عليك دفعة واحدة .

ليس تطرفاً او مجاملة لو قلتُ ان هذه المجموعة للياسري تستحق النظر ففيها دلالات كثيرة وتحوي كماً هائلاً من الرموز كما لا يفوتني ان انوه ان المزامير تعاملت مع رموز اخرى مثل ( قُدار) و ( راسان) و ( مرطس) وتعاملت مع العهدين بثقة ووعي كبير .. حيث الاستخدامات الصحيحة والدقيقة .. وهذا يدل على ان الشاعرقارئ مميز للعهدين فهو واثق من وظائف رموزه بمعنى انه لا يورد هذه الاسماء لمجرد ايرادها في النص وحسب لكنه يمنحها وظيفة فاعلة .
بل التوظيف الرمزي عند الياسري هو اساس في بناء قصيدته .. وكما اسلفت ان الصور عند الياسري هي صور بنائية لا تراكمية وإن كانت بعض الصور ادت الى تراكم لكنه لا يشكل ظاهرة تراكمية قياساً الى ما جاء من بنااء معرفي مسبق بالرموز ودلالاتها وترادفاتها.

ظل أن انوه اخيراً أن لغة الياسري لم تتغير عن ديوانه الأول منسأتي .. بل هو اثبت أن ذات اللغة التي رفضها الكثير في منسأتي تأتي اليوم من جديد بقدرة اكبر على استيعاب دلالاتها .. الياسري خط نهجاً خاصاً به في منسأتي رغم رفض الكثيرين له .. وهنا تتسامى هذه اللغة ويتصاعد هذا النهج بــ ( ليس ينجيك المسير) .

الياسري .. مبارك مسيرك ومباركة هي لغتك ومبارك لك هذا الاصدار , الذي آمل أن يجد من ينصفه حقاً .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى