الخميس ١٢ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧
بقلم بوشعيب الساوري

قراءة في رواية حارسة الظلال لواسيني الأعرج

يعتبر واسيني الاعرج احد اعلام الرواية الجزائرية الاكثر انتاجا ومواكبة للعملية الابداعية، منذ السبعينات الي الان، فلم تثنه الازمة الجزائرية الحالية، التي اودت بمجموعة من المبدعين والصحافيين، عن الاستمرار في الكتابة، بل كانت بالنسبة له، الفترة الاكثر انتاجا اذ اصدر خلالها اربع روايات. والرواية التي نتناولها الان واحدة منها، اذ حرص واسيني الاعرج علي فضح ما يجري بالجزائر من جرائم وانتهاكات، لكن في قالب روائي محبوك تطبعه العجائبية التي انتجها واقع الجزائر العجيب.

سنتناول هنا، هذه الرواية من خلال ثلاث نقاط مترابطة ومتماسكة وهي المكان والسرد والسارد. لماذا؟ لان المكان هو الجزائر التي تحولت الي مدينة مغرقة بالعجائب من جراء ما تعيشه، ولان السارد حسيسن هو الوحيد الذي استطاع ان ينقل لنا هذا الواقع العجيب عبر يومياته، الي جانب يوميات صديقه دون كيشوت، ولأن السرد كان هو العنصر الاساس في الرواية اذ تحبل حارسة الظلال بمجموعة من المحكيات والسرود التي انتجتها الجزائر المجروحة.

اـ المكان

ان الجزائر مكان وحيد منغلق علي ذاته لا تغادره الشخوص، كل الاحداث تدور داخله، كما ان الرواية لا تتحدث عن اية اماكن اخري سوي الاشارة الي الاماكن التي عبرها دون كيشوت من خلال رحلته ورحلة جده سرفانتيس. الجزائر مكان هارب من خلال ملامحه التي بدأت تذبل، ومن خلال انعدام الامن والاستقرار. اذ يتوقف حسيسن ودون كيشوت وحنا علي المسخ الذي صار اليه المكان، وقاموا بتبيان ما مدي افول ملامح الجزائر ومسخها: قصص المدن الكبري هكذا، ومساراتها التراجيدية لا يمكن فهمها الا بعملية الحفر تحت الخيبة والخسارات . (ص92) اذن، الجزائر محطة غير عادية بالنسبة لكل من حسيسن ودون كيشوت، حيث يتوقفان عند التحولات اللامفهومة التي تتعرض لها اماكنها كالجامعة مثلا التي يقول عنها حسيسن: كل الاملاك العقارية الجامعية تعرضت لهجوم مجهول، المسكن القديم للمدير تم الاستيلاء عليه من طرف شخص ليتحول الي ملكيته الخاصة.

نفس المصير تعرضت له بنايات الجامعة المطلة علي شارع ديدش مراد، المطاعم، مقاهي الجامعة نادي عبد الرحمن طالب، المكتبة.. كلها فقدت خاصياتها الثقافية لتصبح بتزيريا ووكالات سياحية تشرف علي سفر الحجاج الخ . (ص111 ـ 112).

تبدو الجزائر مدينة الوساوس والكوابيس والقلق والخوف واللامعني والعبث وغياب الامن، مدينة القتل والارهاب. لذلك تسعي الرواية الي رصد حالة الخوف التي تجتاح سكان الجزائر، الي جانب التحولات التي تعرفها معالمها، ينقل لنا هذا السارد ومعه دون كيشوت مزيلين الستائر، مبرزين الاشياء في عرائها وفي حقيقتها مع فضح المسخ الذي تتعرض له بأفول معالمها ما بين رحلة الكاتب الاسباني سرفانتيس ورحلة حفيده دون كيشوت.

هناك ثلاث علاقات بالمكان:

ــ علاقة حسيسن بالمكان، تشكل له الجزائر الخوف ومع ذلك يحبها ويريد ان يحافظ عليها يريد تغييرها ورؤيتها في احسن صورة لكن يصدمه الواقع ويجعله يعيش العبث.

ــ علاقة دون كيشوت بالمكان، لا علاقة له به الا من خلال اكتشاف الاماكن التي زارها جده ومر منها، وبدوره يتمسك بما هو جميل بالمكان، ليتحدث لنا بدوره عن المكان والمتاهات التي ادخلها اليها.

ــ حنا: لا علاقة لها بالمكان رغم مكوثها به، لا يهمها انها مشدودة الي مكان آخر في الزمن الماضي بألفته وألقه لانها تعيش في زمن غير زمنها، وتظل متمسكة بعالمها، وترسمه كما تشاء، متعالية عن الواقع العجيب الذي يعيشه حفيدها حسيسن.

ب ـ السارد

لماذا دون كيشوت؟ ولماذا رحلته؟ وما علاقتها بالسارد؟ وما هي هذه الصدف التي جمعتهما؟ لماذا يستدعي واسيني الاعرج الآخر ويدخله الي عالم جزائره العبثي والمجنون؟ لماذا كان دون كيشوت غربيا؟ ولماذا كان سرفانتيسيا؟

انه يستنجد بالآخر المحايد الذي يري الامور بمنطق الحياد، من خلال هذا الصحافي الذي ينصف السارد ولو رمزيا، لذلك كان دون كيشوت الوجه الآخر للسارد حسيسن: وجوده يذكرني دائما بخرابات هذا العالم المفتون بالكذب والفرجة الاشهارية، بدل التماهي في اعماق الاشياء . (ص22).

لذلك ساعده، رغم كون ذلك نوعا من الفانتازيا، ورغم المخاطر (الارهاب): ولكنني علي يقين انه من الضروري، في مثل هذه الظروف تحديدا، تجاوز حالة الخوف وأخذ الحالة بشيء من الفانتازيا والجنون لامتلاك القدرة علي الاقل علي مواصلة الحياة والعمل بشكل مقبول . (ص28).

سيصبح هذا الخوف لا معني له وعبثا، في نظر السارد، لا يمكنه التخلص منه الا عبر الرحلة، رحلة البحث مع الصحافي الاسباني الذي يجعله يكتشف الواقع الذي غطاه العبث. هو الآخر يرفض واقعه ويذهب في سيرة جده، لكنه يصطدم بواقع آخر سيكسّر له متعة التنزه في سيرة جده، ليقف مع حسيسن علي المسخ والتشوه الذي تعرضت له الاماكن التاريخية التي كان من الاولي ان تكون متحفا وطنيا فاذا بها تتحول الي مزبلة.

نلاحظ بان كل علاقات السارد وتماسه لها كانت مع شخصيات عابرة وعامة (موظفون، سائق التاكسي..) لا وجود لشخصيات قريبة من السارد سوي الجدة التي تشكل له ذاكرته، التي يحاول الحفاظ عليها من الضياع، يمكن ان نفسر هذه العزلة الي انعدام الامن الذي ولد اللاحوار وغيب التواصل.

يحاول السارد ان يعيد التاريخ ويدونه ابداعيا، الذي هو الراهن الذي سيكون مستقبلا تاريخيا، كما يتم تمرير مواقف الكاتب من الجامعة والتحولات والمسوخات التي تعرفها الجزائر، فرغم ما تزخر به هذه الرواية من غرائبية وفانتازيا، فهي لا تعمل سوي علي النقل الامين للواقع الذي حول نفسه الي عالم عجيب اي ان الواقع يعجبن نفسه، يحاول السارد ان يجعله واقعيا لكنه يتأبي.

من خلال السارد يحاول واسيني الاعرج تمرير مواقفه من الواقع، وبالخصوص الازمة الجزائرية، التي يري باننا لا يمكن ان نعالج العنف الذي يجتاحها بالمواجهة وبالشجاعة وبالجرأة لانها لا تنفع وستؤدي الي الموت، كما حدث للشاعر بختي بن عودة، ويقول لنا بأن الكتابة هي الوحيدة القادرة علي الصمود امام صلابة الواقع وهيمنة سلطة القمع والتقتيل.

ج ـ السرد

تحتفل حارسة الظلال بالحكي، اذ نجد بها عدة محكيات:

1 ـ محكي حسيسن او المحكي الاطار: الذي يؤطر كل المحكيات: حسيسن المستشار في وزارة الثقافة، والمتابع من قبل الارهابيين بسبب كونه يغير علي بلده، وبتهديدات منهم يضطر الي العيش مع جدته، والخروج بشكل متخف.

يحاول ان يحافظ علي جزائره ويريد رؤيتها في احسن صورة، وفي الاخير يتم بتر لسانه وذكره، ويتم طرده من عمله لانه اراد ان يؤدي خدمته كما يجب، وكانت تحركه الغيرة علي بلده، فيجد نفسه ضعيفا لا حول ولا قوة له، وكنموذج علي ذلك الندوة التي كانت تعتزم الوزارة المشاركة فيها بغرناطة، سيسحب منه الملف ويرسل رئيس الجامعة الذي لا يعرف شيئا عن الموضوع ويتهم في الاخير الي جانب الصحافي الاسباني ويطرد من عمله، ويجد نفسه ضعيفا امام الواقع الذي داس علي قيمه واحلامه ورغباته: الهي لاشيء يتغير في هذه البلاد وهذه الارض التي تصرخ كل ذرة من ذراتها ألما وخوفا واستشهادا؟ من غير المعقول ان نظل نسير الي الخلف بهذا الشكل السخيف، يبدو ان لا شيء سيتغير في هذه البلاد . (ص207).

2 ـ محكي رحيل سرفانتيس (الكاتب) الي الجزائر: اذ تستعين الرواية هنا بالتاريخ وتحوله الي محكي يقوم بدور كبير في تحبيك احداث الرواية واعطائها جماليتها، فتتساوق الاحادث المروية (تاريخيا) مع اللحظة التي يعيشها الصحافي دون كيشوت وحسيسن اللذان يعملان علي نفض الغبار عن بعض الاشياء والاماكن، علي سبيل المقارنة، ليحاول من خلال التاريخ ان يعيد للاماكن معالمها، رغم المسخ الذي تعرضت له: كل شيء اندثر، حتي الاماكن الرمزية غطتها البنايات العالية، لتصبح المدينة كيانا بدون ذاكرة، عقلية المحو والفراغ سحبت كل شيء في اثرها . (ص191).

3 ـ محكي دون كيشوت (الصحافي): يحكي فيه عن يوميات رحلته الي الجزائر، من اجل اكتشاف الاماكن التي زارها جده سرفانتيس، رغم الصعوبات، فكانت مغامرة يحكي فيها عن رحلة جده وما جري له اثناء وصوله الي الجزائر، وكيف تم القبض عليه بسبب عدم ختم جواز سفره خطأ، ليدخل الي دوامة من الاسئلة والتحقيقات والشكوك ويتهم بالجاسوسية وتهريب الاثار الوطنية، في جو عبثي كافكاوي، ليسأل عن اشياء لا يعرفها.

في البداية كان مكتشفا، محاولا كتابة تقرير عن رحلة جده، في النهاية، وبعد ما حدث له من تحقيقات، انتهت بترحيله، فأضحي بدوره ساردا ونقل لنا تجربته، فتحول من الحديث عن الاماكن التي مر منها جده الي الحديث عن رحلته الخاصة، التي اصبحت تجربة مميزة تستدعي السرد فأتت الكتابة عنها دون تصميم مسبق.

4 ـ محكي حنا: جدة حسيسن التي تعيش علي السرد ولا شيء الا السرد، تحكي عن ماضيها الغابر وماضي اجدادها الاندلسيين المورسكيين الذين تم ترحيلهم الي الجزائر، وعن زمنها الضائع بأحلامه الوردية وعن اصلها ومغامرتها التي يختزنها جسدها: هذه الاوشام هي ميراثي الكبير واحلام مراهقتي .(ص46).

تشكل حنا ذاكرة ووجدان الجزائر والسارد حسيسن، تعيش فراغا لا تملؤه الا الحكاية عن الماضي الجميل والضائع، يصل الينا محكيها عن طريق تماسها مع حسيسن ومع دون كيشوت اللذين يعملان علي اثارتها، وخصوصا دون كيشوت الذي وجد فيها ضالته ألا وهي الحكي عن ماضي الاجداد.

5 ـ محكي الارهاب: او العمليات الارهابية التي تشهدها الجزائر من خلال اخبار الصحف التي تحكي عن بعض الاغتيالات البشعة في صفوف المواطنين والتي تؤكد انعدام الامن وسيادة الرعب، كما تشير الي بعض الاغتيالات في صفوف الصحافيين والادباء، انها حكايات عجيبة وغريبة صنعها الارهاب، ويمكن ان نسميها حكايات ضحايا الارهاب.

6 ـ محكي المفارقات: يتم تسريب اليومي عبر الاشخاص العابرين (سائقي التاكسيات ومايا المترجمة بالادارة العامة للامن الوطني)، اذ يشتغل هؤلاء جميعا بعيدا عن مجالات تخصصاتهم، اذ تعيش الشخوص وظائف واقنعة لا تلائمها وتحاول ازالتها لكن دون جدوي، تزيلها فقط اثناء الحوار واثناء الكلام، فعبر الكلام تعبر من المسرح (الواقع) الي دواخلها، وهنا تكمن المفارقة.

فيترك الفرصة للمحكيات الهامشية لتدخل بكل سهولة الي عالم السرد لاننا بصدد تعدد الاصوات، في غياب المعني: في هذا البلد يا صديقي كل شيء يسير بشيء معكوس. لا احد في مكانه الطبيعي (...) انا مثلا، املك شهادة الليسانس في اللغة العربية واشتغل سائق سيارة بدل ان اكون في مكاني الطبيعي: ابن عمي امي بالكامل، مدير شركة وطنية كبيرة. لدي صديق متخرج من كلية الطب بباريز يشتغل استاذا للغة الفرنسية في مدرسة صغيرة وهذه امثلة صغيرة فقط والقائمة طويلة .(ص54 ـ 55).

الي جانب هذا تــقدم لنا الروايـــة كيف تحول المكــــان، الذي سجن به سرفانتيس، الي مزبلة والذي كان من المفروض ان يكون متحـفا او مكانا سياحيا يقصده الزوار من كل انحاء العالم: ضيفكم يتحدث عن مكان آخر كان من المفروض ان يكون سياحيا، ولكن حول الي مزبلة .

هكذا تتعدد المحكيات في هذه الرواية نتيجة غياب المعني، فكان هناك تعدد في الاجناس (الرحلة، اليوميات، الرسائل، الاخبار الصحافية)، بالاضافة الي تعدد الساردين، وبالتالي تعدد الاصوات واللغات، لكن ما يجمع بينها كلها هو النبرة الانتقادية الجريئة والساخرة للواقع المأزوم، ونشدان تغييره، ولو بالحديث عنه رغم الصعوبات.

هذه بعض مميزات وخصائص رواية حارسة الظلال التي تؤرخ لمراحل من الأزمة الجزائرية، بواسطة نبرة ساخرة، فصورتها بعجائبيتها التي كانت من صنع الواقع الأزمة لا من خيال الكاتب، وتلك هي المفاجأة.

الهوامش

 واسيني الأعرج، حارسة الظلال: دون كيشوت في الجزائر، دار الجمل، ألمانيا، 1999.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى