الاثنين ١٦ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧
بقلم سمية البوغافرية

علاء الدين والحاسوب السحري

كان علاء الدين يتميز بذكاء خارق في الألعاب الإلكترونية. وفي ربيعه السابع كان قد تربع على عرش النبغاء في هذه الألعاب. فما يخوض مسابقة فيها إلا وحسمها لصالحه في الجولة الأولى. ذاع سيطه وتلألأ نجمه في وطنه وخارجه وتهاطلت عليه الجوائز من كل بقاع الكون.. إلا أن نتائجه المدرسية كانت تشهد تدنيا مخيفا يبعث على القلق.

قبع سنتين في الصف الأول ابتدائي. فلما التمس فيه معلماه القدرة على تهجي الحروف وكتابة بعضها، رشحاه للانتقال إلى الصف الثاني، الذي كرر سنته الأولى، وما يزال مهددا بالرسوب للمرة الثانية. ولولا براعته في الألعاب الإلكترونية، والفوز الساحق الذي يحققه في كل مسابقة يخوضها لقيل عنه أنه يعاني من تخلف عقلي.

قلق والداه على مستقبله وجربا معه كل السبل للرفع من مستواه وإنقاذه من آخر رسوب مسموح به في مدرسته.. تجندا بالصبر وتسلحا بالرفق في التعامل معه كما نصحهما الطبيب النفسي وفوضا كل طاقاتهما لإعداده لامتحان الثلاثية الثانية. اقتسما عبء المسئولية: أن ينهض والده بالرياضيات والعلوم الطبيعية وأمه بالتاريخ والجغرافية والخط والإملاء..

أخذته أمه برفق، وبدأت تفهمه وتساعده على كتابة اسمه بمفرده. بذل علاء مجهودا جبارا للتغلب على عجزه لكن خطه يبدو كأنه يكتب بأصابع رجله، وينبغي الاستعانة بعدسة مكبرة للتمييز بين حروف العين والهمزة واللام والدال والنون. ومع ذلك ضغطت على أعصابها وشرعت تشرح له درسا في التاريخ بيسر وببساطة كأنها تشرح لرضيع حديث الولادة. ظلت معه ساعتين تشحن ذاكرته لكن دون جدوى أو غاية ترجى. ضاقت الأم ذرعا من بطء فهم وحيدها وقلة استيعابه فصرخت في وجهه وخرجت تبكي..

حل علاء الدين في المساء بمكتب والده يتأبط كتاب الرياضيات. فخاض معه أبوه معركة أخرى عله يفهمه درسا في رسم زاوية قائمة، وتمييزها عن بقية الأشكال الهندسية الأخرى. كانت ثقة والده كبيرة في أن يجعل علاء الدين قادرا على الانتصار على عجزه الذي احتار منه المعلمون والأطباء النفسانيين، إلا أنه بدأ يضيق ذرعا بعدما تبين له أنه بعد ساعة من الشرح والإيضاح لم يفلح ابنه في رسم الزاوية والتمييز بينها وبين الأشكال الهندسية الأخرى. ففقد أعصابه وهوى على رأسه بالمسطرة التي انقسمت إلى شطرين ثم رماه بكتابه ومقلمته وأوراقه...

لم علاء الدين أدواته. أغلق على نفسه في غرفته يبكي ويتألم من عدم قدرته على إرضاء والديه، والنهوض بالمستوى الذي ينشدانه فيه. لكنه لم يمكث طويلا حتى قفز من فوق سريره، فجلس أمام حاسوبه. فتحه، أدخل قرصا مدمجا يتضمن الألعاب الإلكترونية التي يعشقها.. تحسس أثر الضربة على رأسه.. أوجعته فدمعت عيناه وأسقط رأسه على الملامس يبكي، فإذا بمارد ضخم يخترق الشاشة...

فزع علاء الدين.. تراجع إلى الخلف جاحظا عينيه وفاتحا ثغره يلهث ويهدئ دقات قلبه براحة يده.. فخاطبه المارد بصوت غليظ مرعب:
 أنا حمدون العجيب، أطلب ما تريد وأنا سأجيب.
فانزوى علاء الدين في أقصى الزاوية يرتعد وينكمش على نفسه، فابتسم له المارد قائلا بصوت أغلظ من الأول:
 هيا أطلب ما تريد...
ثم أرسل حلقات من الضحك أصمت أذن علاء وكأن جبلا ضخما يتداعى بالقرب منه. فازدرد علاء ريقه، وهم بالكلام، لكن لسانه لم يسعفه.. ثقل في فمه وشل. فأضاف المارد بصوت أضخم من الأول:
 لك أربع طلبات كلها مستجابة.. اليوم سأنفذ لك طلبا واحدا. وفي نفس المكان والزمان من كل شهر أنجز لك بقية طلباتك.. هيا أطلب.. أطلب ما ترغب فيه...
وراح المارد يمطر صدره بلكمات لو نزلت على الجبل لهدته. فاندفع علاء بصوت مرتعش مهزوز وقال:
 أريد أن أكون أشطر طفل في الوجود..
انطلق الطلب من فيه الصغير كالرصاصة، فضحك حمدون..هوه, هوه.. وقال له: " لك ما أردت." ثم غاص في بحر الشاشة.

وفي صبيحة اليوم التالي، استيقظ علاء من النوم نشيطا مرحا يملأ الدار ضحكا وحركات.. قوس ظهره في شكل أفقي مستقيم ورجلاه منتصبتان قائمتان وقال لوالده:" انظر, فهذه زاوية قائمة." فضحك والده قائلا:" يبدو أنك حقا قد استوعبت درس الأمس.."

ابتسم وأضاف فخورا بنفسه:" الزاوية القائمة درجتها 90 ، أما الزاوية المستقيمة ف 180 درجة" ثم استرسل موضحا بعض النظريات في الرياضيات والفيزياء والكيمياء، فاندهش والده، ولم يعد يصدق أن الذي أمامه علاء الدين الأمس، فدعا زوجته وقال لها:" استمعي إليه. إن كل ما يرد على لسانه صحيح فلم أعد أصدق ما أسمعه من هذا الطفل العجيب." فرد عليه علاء الدين ساخرا.." بل من صديق حمدون العجيب!" ثم نظر إلى أمه وراح يسرد عليها أحداثا تاريخية لم ترد في كتابه المدرسي، ولم تحدثه بشأنها يوما، بأسلوب تاريخي سلس. ثم أشار لها على التشويه الحاصل في تاريخ المجتمعات. جحظت عينيها منبهرة، ولم تصدق الانقلاب الحاصل في ابنها بين ليلة وضحاها، فتبادلت مع زوجها نظرة استفهام وتعجب، وقالا له دفعة واحدة:" أنت محق في كل ما قلته، ولكن من أين لك هذه المعلومات؟" فأشار لهما ضاحكا إلى الحاسوب ثم حمل محفظته وخرج.

دخل علاء الدين متأخرا إلى قسمه، فزاحم زملاءه في الصفوف الأمامية المخصصة للمتفوقين من التلاميذ، فضاقوا منه وأشاروا إليه مستهزئين.. "أنت كسول ومكانك في نهاية الفصل.." وأشار عليه المعلم بسبابته بأن يأخذ مكانه في آخر مقعد في الفصل دون اعتراض قائلا له:" حينما تحفظ دروسك وتستوعبها جيدا تعالى واجلس في المقدمة، أما الآن فإذا كتبت تاريخ اليوم مضبوطا وبدون أخطاء فسوف أتنحى لك عن مكتبي." فانفجر التلاميذ ضاحكين.

استدار إليهم علاء الدين متقززا وشملهم بنظرة استهزاء ونفور مريبة، ثم قفز إلى السبورة وكتب عليها بخط واضح جميل.. الاثنين 1 أكتوبر 2019

ضحك المعلم وسكنت حركات التلاميذ وخمدت هتافاتهم الاستهزائية الساخرة. فاستدار علاء إلى السبورة ثانية وكتب تحت التاريخ مباشرة: الشاطر هو الذي يضحك في الأخير.

عاد علاء الدين متكبرا وأخذ مكانه في المقعد الأول. فابتسم له المعلم ولم يأمره بمغادرته. في حين، ضاق زملاءه منه وشكوه إلى معلمهم قائلين:
ـ هذا الصف للأذكياء منا فلا يعقل أن يزاحمنا فيه أغبياء أمثال علاء. فثارت ثائرة علاء، ونشبت بينه وبين زملائه معركة كلامية لم يفلح المعلم في إخمادها، فتدخل المدير واقترح إجراء مباراة يسند للفائز فيها المقعد الأول. فضحكوا جميعا مرحبين بالفكرة عدا علاء الدين...

قام إلى السبورة ستة تلاميذ من المتفوقين، الذين كانوا يحتلون دائما المقاعد الأولى في الصفوف الأمامية، فتبعهم علاء الدين بخطى بطيئة مستهزئا نافرا متقززا وقال لزملائه:
 إني أراكم أجنة في أرحام أمهاتكم، بل كتاكيت لم تبرح البيض بعد، ولا يشرفني أن أخوض معكم مثل هذه المباراة، ولكن سترون.. سأسحقكم جميعا، ولن يشرفني بعده أن أدرس مع رضع مثلكم.
فضاق زملاءه من لهجته وردوا عليه بتحد أكبر:
 سنكسر شوكتك يا علاء، وستعود عنوة إلى الوراء حيث مكانك حتى تتعفن..

أعلن المدير عن بداية المباراة فقال متهكما:
 سنبدأ بعلاء الدين الشاطر.
فخار جميع الزملاء ضاحكين وأضاف المدير:
 بماذا ترغب أن نبدأ يا علاء؟ بالخط؟ أم النقل؟ أم الإملاء؟ أم...
فقاطعه علاء وقال ساخرا وهو يكسو زملاءه الواقفين بجانبه بنظرة اشمئزاز:
 هذه مواد أراها جديرة بأطفال أمثال سعيد وسليم وسعاد وسلوى...
فقال له المدير ضاحكا ضحكة أثارت أعصاب علاء:
 وفيما يريد أمثالك أن يمتحن إذن؟ في الألعاب الإلكترونية؟
 لا، في التكنولوجيا، في الفلسفة، في علم الفلك، في الفيزياء النووية، في الطب، في علم الذرة... فضحكوا جميعا، وخرج علاء عن هدوءه فقال مخاطبا المدير ومعلمه:
 من الأفضل أن تمتحناني في مجال تخصصكما علكما ستفقها شيئا مما سأناقشكما فيه.
فغضب المدير ومعلمه من كلامه وصرخ التلاميذ في وجهه قائلين:" من تدعي نفسك‍‍؟ يا .."‌‍ ‍
تعكر مزاج علاء واستشاط غضبا وراح ينقض على بعض زملائه، لكنه تملك نفسه ورد عليهم رافعا رأسه في السماء:
 أنا انشتاين زماني، أنا سقراط ألألفية الثالثة، أنا ابن خلدون، أنا ابن رشد...
ثم أضاف غاضبا:
 قولوا لي ماذا يعلم أمثالكم عن الجاذبية؟ وعن النجوم؟ وعن علم الفلك؟ وعلم الذرة؟...
فانكمش الأطفال فاغرين أفواههم وانبهر المدير من طلاقة لسان علاء الدين وفصاحة قوله، وما يجري على لسانه من نظريات ومعادلات لم يفقهوا فيها إلا القليل. ورشحه على الفور عضوا في برلمان الطفل بدل أخيه عز الدين. حينئذ تنفس علاء الصعداء وقال لزملائه ضاحكا:
 سأبذل كل جهدي لتكونوا في الطليعة...
ثم حمل محفظته وخرج دون أن يلتفت وراءه.

أم علاء الدين مقر البرلمان بهندام أسود أنيق، ورابطة عنق حمراء، ونظارة شفافة ذات إطار أسود جذاب، فأخذ مكانه في مقدمة المجلس. قام وحيا الرئيس و زملاءه ثم بدأ يستعرض عن مضض المواضيع التي تطرق إليها زملاءه في بداية الجلسة، مؤكدا أن ما ينشده طفل اليوم هو رفع سياسة الإقصاء والتهميش المفروضة عليه. وضرورة إشراكه في جل أنشطة الحياة، بدءا من اختيار لعبه وأطباقه وملابسه، وتنظيم غرفته وترتيبها على النحو الذي يروق له، وأن يقتصر دور الأولياء على التوجيه والإرشاد مع تجسيد القدوة الحسنة. فهم أحد زملائه البرلمانيين بمقاطعته إلا أنه استرسل في حديثه مشيرا إلى الاستغلال الذي يتعرض له الطفل في كل مكان من المعمورة، ومنتقدا الأسلوب التربوي المعتمد في المؤسسات التربوية، موضحا أن الطفل تلفظه هذه المؤسسات وهو مهزوز الشخصية، لا رأي له ولا قدرة له على المناقشة، ولا إدراك له بما يجري حوله كأنه من عالم آخر لا يمت بصلة إلى عالمنا. علينا تحديث مناهجنا التربوية بما يواكب تطورات العصر، يقول علاء الدين مواصلا حديثه، وتمكين المدارس في كل بقاع الأرض بالوسائل التكنولوجية الحديثة وتعليم الطفل كيف يأخذ بها وكيف يطالب بحقوقه والدفاع عن نفسه بنفسه.

ضاق البرلمانيون من أسلوبه التهكمي، وصرخوا في وجهه ويصفونه بأقذع الصفات... فسكت علاء يتجرع كلامهم بمرارة، ثم قال ممتعضا مخاطبا إياهم:
ـ لقد مضى ما يربو على عقد من الزمن على تأسيس هذا البرلمان، فماذا صنعتم لهذا الطفل الذي أوكل إليكم مهمة تحسين ظروفه؟ وما هي التوصيات التي خرجتم بها؟ وما هي الإنجازات التي سجلتموها لصالحه؟ وماذا فعلتم بشأن الطفل الذي يتوسد الحجارة ليدافع بها على نفسه أمام الرشاشات والقنابل والأعمال الإرهابية، التي زعزعت لديه الأمان والطمأنينة في رحم أمه؟...

أليس من العار أن نتحدث على طفل اليوم وهو لا يزال أكثر المخلوقات تعنيفا جسديا ونفسيا لكبت طاقته وخنق صوته... أليس من العار أن نتحدث على طفل اليوم وهو ما يزال يشعر في المدرسة أنه ينفذ عقوبة الحبس.. يكتوي بنارين: نار ضغوط البيت ونار الإلقاء به في آخر المطاف إلى الشارع..

انتكست الرؤوس. بح صوت علاء. وغادر البرلمان الذي رآه مكانا لاجترار الكلام والخروج بتوصيات تظل حبيسة المجلس.

عكف في غرفته يناشد، عبر الأنترنيت، المنظمات الدولية المتخصصة، والجهات المسئولة على حماية الطفولة لإنقاذ الطفل والرفع من مستواه الاجتماعي... إلا أن الإنجازات التي حققها كانت دون المستوى الذي يأمل في تحقيقه لطفل اليوم: كراسي متحركة للمعوقين، إجراء عمليات مجانية لضعيفي البصر ومرضى القلب، فتح شبه مدارس في المناطق النائية، مضادات حيوية مجانية، لقاحات وأمصال ضد مختلف الأمراض.. فخلع عليه هندام البرلماني وانزوى في غرفته حزينا متألما لا يأكل ولا يشرب ولا يكلم أحدا..

حلت الليلة الثلاثون من شهر أكتوبر فارتمى علاء على مكتبه وقبع أمام حاسوبه ينتظر بفارغ الصبر قدوم حمدون العجيب. إلا أن الشاشة ظلت عشر دقائق صافية لا أثر لأمارة واحدة تدله على المارد الضخم.. فغضب لمخالفته وعده ومضت عليه العشر دقائق ثقيلة كأنها دهرا. ثم كتب بمرارة شديدة على الشاشة.. "ذهب حمدون ولم يعد" فانهمرت الدموع على خديه وهو يقول بصوت مبتور.. ما أحوجني إليك يا حمدون العجيب. ثم أسقط رأسه على الملامس يائسا باكيا، فإذا بالمارد الضخم يخترق الشاشة ويقول له بصوت غليظ اهتزت له جدران الغرفة:
 أنا حمدون العجيب, أطلب ما شئت وأنا سأجيب.
ففزع علاء الدين وكاد يسقط من فوق كرسيه ثم تنهد وابتسم للمارد قائلا له:
 أريد أن يكون الطفل سعيدا في كل أرجاء المعمورة.
فرد عليه المارد ضاحكا:
 خذ هذه الغبرة العجيبة وذرها على مطالبهم فترى الإجابة. هوه, هوه,هوه...
وتبخر المارد.

تمعن علاء الدين الغبرة العجيبة اللامعة كأنها مسحوق من الألماس، وراح يلمسها بأصابعه فإذا هي ملساء خفيفة كالهواء، فأغلق عليها في القارورة السحرية كما تسلمها من المارد.

قام علاء الدين بتخصيص كل طفل بغرفة ينتقيها بيده من مجمل البيت ويتولى ديكورها وتجهيزها بنفسه. وزودها بحاسوب ولعب يختارها بيده، وثلاجة صغيرة مزودة بكل احتياجاته الغذائية، فما أن تنتهي حتى تفيض كأنها عينا من عيون الجنة دائمة العطاء.

وشيد في كل أنحاء المعمورة حدائق عمومية مزودة بشتى أنواع وسائل الترفيه... وزود المدارس بأحدث الوسائل التكنولوجية، التي يغوص فيها الطفل ويبحر في شتى أنواع العلم ويستوعبها وهو يلعب ويضحك، وبمكتبة توفر له كل ما يرغب فيه من الكتب والأقراص المدمجة. وخص كل مدرسة بمسبح يشرف عليه أمهر السباحين. وأقر مادة الموسيقى، ومادة الترفيه بمعدل حصتين في كل أسبوع.

وموازاة مع ذلك، صدر قانون يمنع فيه الطفل من الواجبات المنزلية، إلا ما أتى بها على إرادته. وألغيت الامتحانات الدورية والنهائية، وأعفي الأطفال الذين تقل أعمارهم عن عشر سنوات من حمل المحافظ. ومنع فرض زي معين عليهم. وبرمج في المقرر المدرسي خرجات علمية وترفيهية داخل البلاد وخارجها. وشيد في كل مدرسة مصحة صغيرة مجهزة بكل المعدات الطبية، يشرف عليها طبيب نفساني وآخر مختص في أمراض الأطفال، ومطعم صغير يلبي كل احتياجات الطفل الغذائية. وجهز قاعتين في كل مدرسة بالأسرة ووسائل الراحة يؤمها الطفل متى شعر بالعياء. ونصب لائحة إلكترونية في كل قسم تلح على المعاملة الحسنة للطفل، والرفق به، وعلى ضرورة تمكين كل تلميذ من التواصل مع مربيه بكل الوسائل المتاحة...

فتنهد علاء الدين لما أظهره إلى الوجود من إنجازات طالما حلم بها، ثم نظر إلى الغبرة العجيبة في يده وقد ناصفت الكمية، فقفز في الهواء فرحا مسرورا.. وفتح موقعا على الأنترنيت يستقبل فيه كل طلبات الأطفال أنا وجدوا ووصلة إشهارية تقول:" لا تترددوا في المطالبة باحتياجاتكم من علاء الدين على العنوان: www.tiflsaïd.com
فصارت تهب في الدقيقة الواحدة مئات الطلبات من أطفال العالم على موقعه هذا, يستنجدون به لإنقاذهم والارتقاء بهم إلى حياة طالما حلموا بها وطالبوا بها ولم يلمسوها بعد:
 اسحق يا علاء الرضاعة من الوجود، فأنا لا أرتاح إلا إلى صدر أمي،
 الغ يا علاء نظام الخادمات الأجنبيات، أنا لا أرتاح لهن ولا أفهمهن،
 قل لبابا أن يعود إلينا وأن لا يتركنا أبدا، فماما جد طيبة وتحبه كما تحبني،
 أريد مدرسة أنطلق فيها كالطير، وأتعلم كل شيء وأنا ألعب،
 أريد أن تتحول الحجارة في يدي إلى قنبلة تسحق المعتدين وتنسف الإرهابيين من على وجه الأرض،
 هيكل عظمي يكاد يخترق جلدي. أنا جائع أريد أن آكل يا علاء،
 أريد حدائق عمومية أنطلق فيها كالفراشة،
 أريد أندية مفتوحة صيفا وشتاء،
 أريد أبا يسمعني ويفهمني ويقدرني ويحبني، وأما تحن علي ولا تضربني ولا تصرخ في وجهي،
 أريد أبوين يعتنيان بي بدلا من "تورى" خادمتنا التي ترهبني وتحبسني في غرفتي طيلة اليوم،
 أريد شجرة تثمر شكلاطة شتاء ومثلجات صيفا،
 أريد محفظة خفيفة,
 أريد أن تكسر عصا معلمنا،
 أريد أن أنام في حضن والدي وأفتح عيني عليهما،
 أريد أن يشاركني والداي لعبي ومأكلي وأن أسهر معهما،
 أريد أن أسافر إلى كل بقاع الأرض وأن ألتقي بأصدقائي حيثما وجدوا،
 أريد أن أسبح في الكوكب الأرضي كما أسبح على الأنترنيت، وأن تصل يدي أيادي أصدقائي في كل بقاع الأرض،
 أريد مأوى يقيني من الحر والبرد، ويطعمني من جوع ويؤمنني من خوف،
 أريد أن تموت أختي الصغيرة ويكون والدي لي وحدي،
 أريد أن تقتل زوج أمي،
 أكره أشغال البيت، أريد أن أتفرغ فقط لدراستي،
 أريد أن تمحي كل المعلومات التي حفرت في ذاكرتي بالضرب والصراخ لأنها تعذبني وتؤرق نومي،
 أريد أن أحظى باهتمام والدتي مثل أخي، وأن لا تجبرني على خدمته وطاعة أوامره،

طبع علاء الدين كل الطلبات الوافدة عليه عدا" أن تموت أختي وأن تقتل زوج أمي" وكتب بدلهما " العدل بين الأولاد والمعاملة الحسنة" وفرش بها أرض غرفته ثم ذر فوقها الغبرة العجيبة.

فتحولت طلباتهم في لمح البصر إلى وردة كبيرة متفتحة، يانعة، على لبتاتها صور كل أطفال الكوكب الأرضي، مبتسمين ومكتوب على جبهة كل واحد منهم " ما أسعدني!.."

فابتسم علاء الدين وتنهد ثم انطلق يسبح في الفضاء وينشد مثلهم " ما أسعدني ! ما أسعدني!.." فحلق وحلق ثم نزل على أرضية خضراء شاسعة مزهوة بالحياة وكتب عليها .. أريد لقاءكم يا أطفال. ثم ذر فوقها ما تبقى لديه من الغبرة العجيبة فإذا بأطفال العالم يتدفقون عليه من كل ناحية، يمتطي كل واحد منهم بساطا جميلا أخضرا. فأحاطوا به على شكل وردة متفتحة يتوسطها علاء الدين، واستقر كل واحد منهم على بتلة من بتلاتها اليانعة الناعمة يهتف بصوت ناعم:
نحن جد سعداء، نحن جد سعداء شكرا، شكرا يا علاء

فابتسم لهم علاء الدين ابتسامة عريضة، ثم رفع رأسه سعيدا فخورا إلى السماء، فإذا بدخان كثيف أسود يزحف نحوهم من الأفق بسرعة رهيبة. فأتت رياحه البعيدة على الوردة فأبهتت لونها وامتصت عطرها وأضعفت مناعتها، فتزعزع الأطفال فوقها وبدأوا يسعلون، ثم امتطوا السماء فوق أبسطتهم متجهين عكس تيار الدخان وهم يلوحون بأيديهم ويهتفون: إلى اللقاء يا علاء إلى اللقاء..

فر علاء الدين إلى غرفته قبل أن يدركه الدخان ويقضي عليه في الحال. أغلق النافذة، وعكف يبكي كرضيع صغير بادرت أمه بفطامه...

في الليلة الثلاثين من شهر نوفمبر 2019, جلس علاء الدين إلى حاسوبه. انتظر حتى صفاء الشاشة فابتسم وأسقط رأسه على الملامس، فخرج المارد بهيأته الضخمة وضحكته المرعبة, وهو يضرب صدره بلكمات جبارة ويقول بصوته الذي يزلزل الصخر من مكانه:

 أنا حمدون العجيب، أطلب ما شئت وأنا سأجيب.
ابتسم له علاء وتنهد ثم اعتدل في جلسته وقال له بصوت هادئ كأنه يحدث أحدا من أقرانه:
 أريد أن أطهر البر والبحر والجو، وأقي كوكبنا من كل المخاطر التي تحدق به لتنعم كل المخلوقات بصحة جيدة.
فمد له المارد قبضته الحديدية التي أفزعت علاء قائلا له:
 خذ هذه القنابل والق بها واحدة بعد الأخرى في الهواء...هه هه هه هه
ثم اختفى تاركا صدى ضحكاته تهز الغرفة هزا.

تفحص علاء الدين القنابل الأربع في يده. أبهره منظرها وخفتها كأنها قطعا من الهواء: الأولى أرضيتها رمادية كقطعة من الصخر. والثانية زرقاء صافية يكتنف بعض جوانبها لون كلون السحاب. والثالثة أرضيتها بنية, اختلط فيها اللون الأخضر الصافي باللون الأخضر الغامق. والرابعة شفافة لا لون لها، تناثر أسفلها لون أخضر صافي ولون برتقالي غامق.

ضحك علاء الدين وقبلها ثم حضنها إلى صدره. أطل من نافذة غرفته وهم بإلقاء القنبلة الرمادية في الهواء، فإذا بقوة خارقة تمتصها من راحة يده وعرجت بها بسرعة مهولة تخترق الأجواء تاركة إياه مندهشا فاغرا فاه..
وبعد وقت يسير، سمع صوتا يهز الجبال فانقبض قلبه. ولما رأى غبارا رماديا يسقط من السماء، ويكسو القشرة الأرضية بمسحة من الندى كندى صباح يوم ربيعي تأكد أن الصخور التي كانت تهدد كوكبنا قد دمرت، وأن الغلاف الجوي قد رمم فتنهد من أعماقه وألقى الكرة الزرقاء في الهواء. دارت الكرة حول نفسها بسرعة مهولة اختفى معها شكلها ولونها وبدأت تمتص الغبار والدخان والروائح الكريهة التي لم يعد علاء الدين قادرا على تحملها. فأغلق النافذة يتابع الزوبعة التي أحدثتها قنبلته الزرقاء من خلف الزجاج. وفجأة أظلم الجو كأنه ليلا، ثم بدأ يصفو رويدا، رويدا إلى حين صفاء كل شيء. فانطلقت الطيور تملأ الفضاء زقزقة ورقصا.

فتح علاء الدين نافذة غرفته. استنشق الهواء النقي العطر حتى الانتشاء ثم ألقى الكرة الوحلية في الهواء. فإذا بقوة خارقة تجذبها نحو أعماق الأرض وتسحب وراءها أمواجا من الأوساخ والقاذورات ثم انفجرت وتحولت إلى سماد رش على سطح الأرض.

فأينعت الحدائق والبساتين، واعشوشبت المراعي، واخضر الزرع، وتفتح الورد، وسالت الوديان، وتدفقت العيون، واستيقظت الشلالات، وامتلأت السدود، وألغيت الحدود والفواصل، والتأمت القارات، واجتثت الأمراض، واندثرت الفوارق بين أفراد الجنس الواحد، وسحقت الطبقية، وكثر الكلأ، وشاعت الملكية، وانفتحت أبواب السجون، وانكسرت أقفال الحواضر. فانطلقت الأنعام إلى المراعي تلتقط قوتها مطمئنة. انبهر علاء الدين، ثم حضن الكرة المتبقية إلى صدره وانطلق مرحا كالفراشة.

حط برحاله على قمة الجبل. وقف هائما يستمتع بسحر الوجود وجمالية الطبيعة. ثم مضى يقفز ويغني فإذا بالكرة الأخيرة تسقط من حضنه وتتدحرج وتغوص في أعماق البحر.

ظل متسمرا في مكانه يعقب ما تجره وراءها من الأوساخ والقاذورات والزيوت السوداء. اشمأز علاء من رؤيتها وتقزز من الروائح الكريهة التي تنبعث منها، وتزكم أنفه. وفجأة اختفت كأنها لم تكن. فأعقبها انفجار بركاني في أعماق البحر، تولد عنه غبار أبيض تحول إلى طعام لذيذ للكائنات المائية، وإلى سماد عجيب فجر ثروات البحر وكنوزه الباطنية.

حينئذ تنهد علاء الدين، وأطلق ضحكة مدوية، ثم انطلق يملأ الجبل بحركاته المرحة.. يمسك الفراشات التي تحوم حوله ثم يطلقها ليمسك بالأخريات وهو يغني مع الطير ليتدحرج على البساط الطبيعي الذي يكسو الجبل حتى بلغ قدمه. توقف على صوت ناي يبعث على الطمأنينة والراحة. إنه أحد الرعاة الذي فرش بساطا أخضرا ناعما كالحرير يضبط إيقاع نايه مع خرير مياه الشلالات، الذي تكسره الصخور وتقطعه أصوات قطيعه. وهو يميل يمنة ويسرة كأنه في مهد تهزه نسمات عذبة. فانشرح صدر علاء وراح قلبه يعزف على نغمات الطبيعة أجمل الألحان، فثمل ونام.

اخترقت طائرة سوداء الأجواء بسرعة مهولة، وبصوت رهيب مرعب. طوت في لمح البصر السكينة والهدوء. تشتت القطعان وفرت هاربة في كل الاتجاهات. تلمست بعضها طريق الحظائر بينما تاهت الأخرى في الخلاء.. تطاير الناي من بين أصابع الراعي وفر بدوره ليحتمي بكهف في أعماق الجبل...

استيقظ علاء على وقع هول الفاجعة. كل شيء قد تشتت. وشعر أن ما بناه يمكن أن ينهار في لمحة البصر, على إثر قذيفة واحدة من الطائفة المعادية لبرنامجه. فينتهي كل شيء. أجل، كل شيء. فهرول إلى غرفته يبكي.

قبع في زاوية في غرفته يبكي والقلق على أن تدمر إنجازاته بين حين وآخر يعصر أحشاءه. ومما أجج قلقه أن موعده مع حمدون العجيب لن يتم قبل ثلاثة أيام والتهديدات تزداد يوما بعد يوم، والإعداد للحرب أمسى ساريا: معدات حربية في كل مكان، فوهات المدافع موجهة بعضها إلى الأرض والأخرى إلى السماء، ألغام مزروعة، قنابل، صواريخ، أسلاك حديدية مكهربة سطرت بها الحدود الوهمية، صفارات إنذار مشتعلة...

إنه رعب قاتل. وعلاء في زاويته يكاد قلبه يتوقف، قلقا على إنجازه الذي سيصير في مهب الريح إذا اندلعت الحرب.. يتساءل مع نفسه كيف سيتحول هذا الجمال الوجودي بسبب هذا الكم الهائل من الأسلحة. فظل علاء يندب ويلوم نفسه قائلا: أي ذكاء هذا كنت أتكبر به على أقراني؟ أنا السبب وراء هذا الدمار المحتمل... لقد صدق زميلي سعيد، حينما قال أن مكاني في الأخير. ثم صرخ بصوت عال.. الأمن أولا ثم البناء، كيف غاب عني هذا.. ثم ما لبث أن اندفع إلى حاسوبه كالرصاصة وهوى برأسه على الملامس بكل قوة.

خرج المارد بضحكته المعهودة، فقاطعه علاء الدين قائلا:
 " أفرغ يا حمدون العجيب كل الأسلحة من قوتها الدمارية وحلها غبارا يملأ الكون أمنا وأمانا وحبا وجمالا.
فمد له حمدون ذراعيه الحديديتين وقال له مبتسما:
 لك ما تريد.
فتنفس علاء الصعداء ومد يده ليصافح المارد ويشكر له صنيعه فرد عليه:
 وداعا يا علاء فقد أنهيت مهمتي على الأرض.
ثم صعد تاركا وراءه ضحكته المدوية الصاخبة.

أطل علاء من النافذة. لمح صاروخا ضخما يتجه نحو غرفته بقوة وسرعة رهيبتين، وآخر يصعد من الأرض ليعترض طريقه فاصطدما وانفجرا تاركين غبارا عطرا يملأ الفضاء، ودخانا أبيضا سرعان ما تحول إلى أقواس قزح تتراقص على أنغام رنات موسيقية تطرب الأذن والأحاسيس، وتبعث على الراحة والطمأنينة في القلوب. وتحولت الألغام إلى أضواء جميلة نابعة من الأرض. فخرج الناس من مخابئهم يصفقون وينشدون. وعادت القطعان إلى مراعيها. وانطلق سرب عريض من الحمام من أنفاق الجبل يملأ السماء هديلا ويزيدها رونقا وجمالا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى