السبت ٢١ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧

الدجاجة

بقلم أمير علي

أخيرا.. الفرج ، فرخة بيضاء ملآنة .. لحم أبيض طيب تفوح رائحته ويذوق طعمه من الآن. أخيرا سيفرح عياله ويرقصوا من السعادة وهم يلعبون معها

قليلا قبل أن تذبح وتبلع وتلعب أمعائهم الصغيرة بلحمها الطرى ،وهى الأخرى ترقص من السعادة ومن العمل . أخيرا ، سيثبت لعياله أنه يقدر أن يحقق كل مطالبهم و لا يخيب أملهم ، ولن يدارى وجهه أو يوارى ضعفه بعد الآن أمامهم وهو يلمح إمتعاضهم وحنقهم من الوجبة الباردة المتكررة فى كل يوم

أخيرا سيجعل زوجته تعاود الإعجاب به وتكافئه بطريقتها التى يحيا لأجلها ، وحينها سيجعل إعجابها يزيد أكثر وأكثر..!
أخيرا ، أخيرا والحمد لله والكنز يرقد مطمئن صامت فى الكيس الشفاف الذى يظهره حتى يثبت للناس كلهم أنهم ليسوا أحسن منه وأنه هو الآخر إنسان يأكل لحما مثلهم ولا عجب .. أخيرا ، ستعمل أسنانه وضروسه بعد أن كلّت من أكل بعضها وقرفت من ريقه الحافى ومن العيش العارى والمملّح والمخلّل وبعد أن بارت أمعائه وضمرت من الطعام البارد . أخيرا ، ستعتقه كل هذه النيران الصلبة كحجارة ، وسيعيش فى ملكوت المصمصة ، مصمصة رأس الفرخة ، تلك الهواية التى يحبها لدرجة السلطنة .

سيمر على بائع الخضار كعادته ولكنه لن يشترى باذنجاتين وبطاطستين وقرن فلفل كعادته بالعدد وليس بالكيلو ، كلا .. بل سيشترى بصلا كثيرا لأجل الشوربة . سيطلب من زوجته أن تصنع حلة بل حلتين شوربة ، فرصة!..وتصنع طبق فتة كبير بالتقلية والثوم ، وسيطلب من زوجته أن تحمّرالفرخة جيدا فى الفرن الفلاحى . سيضع الفرخة بكاملها أمام عياله على الطبلية ويصيح فيهم فجأة كما فى الأفلام .." هيا يا أولاد ، تمتعوا واسبعوا وتهنّوا ، ولا تتركوها إلا عظاما " .. ويراقبهم وهو سعيد على آخره ويتأمل أيديهم وأفواههم المحشوّة بالحشو اللذيذ واللحم الطرى الأبيض الطرى الألذ ، وهو يبلعون كل هذا الطيب بصعوبة وسعادة ويرى شفاههم الّلامعة من أثر الدهن واللحم .. ياه، أى سعادة تحتويه حينها ! ..ولن يعارضها زوجته عندما تفتح طاقة المطبخ لتتسلل رائحة اللحم والشوربة والتحمير ، تعلن اضمامها لمثيلاتها فى يوم مهرجان الروائح ، يوم الموسم! ، ولن يعارضها كذا لو قامت باإلقاء العظام العريان بجانب حائط بيتهم الطينى ، ليرى الناس بأعينهم أنه مثلهم وليس أقل منهم

أخيرا. أخيرا ، والحمد لله ، والكنز يرقد مطمئنا صامتا فى الكيس الشفّاف ..يظهره ليثبت للناس كلهم أنه هو الآخر إنسان ، مثلهم يأكل لحما .. ولا عجب


يمسح دموعه السعيدة المنسابة من عينيه بطرف كمه المتسخ . منذ الساعة ، كان يقف معتدلا..يركن فأسه بجواره وينظر خلفه ، يرى كم أنجز من العمل، وفى حركة شبيهة ، كان يرفع كمه ليمسح العرق المنداح على جبهته ، مستسلما لحرارة الشمس المحرقة


ولم يكن من مناص ، فقد سمع أن الفراخ فى القرية المجاورة أرخص سعرا ، جنيها كاملا، جنيها كهذا يكفى عياله طعاما ليومين .. باذنجاتين وبطاطستين وقرن فلفل بالعدد ن تصنع به زوجته طبق مسقعة للعيال الثلاثة .. تقدمه لهم صباحا وعصرا وتعتمد على سلطان النوم ليلا ، أما هما فيقنعا برغيف خبز بقرن فلفل مخلل أو بما التصق بالطبق الألمونيوم المطبّق والذى لم يقدر العيال على إتنزاعه من قاعه او بما ترسب فى الكشرى وقد يجلب خلسه من ارض الحواجرية التى يعمل فيها اجيرا بعض اعواد السريس او الجرجير يرصها دخل الرغيف ويرش عليها شعرة ملح ويقنع وتقنع بطنه الضامرة


وطريق العودة . من هذه القرية الى عزبته طويل بطول الفدادين المزروعة بينهما والتى باعدت كثيرا بين القرية والعزب المجاورة وهو يسيرمحاذيا لترعة الصرف التى تفوح منها بأثر آشعة الشمس المتساقطة روائح عدة مختلطة وقواه منهوكة أصلا ، فمنذ الفجر وهو ممسك بالفاس يصارع الجاذبية الأرضية علوا وهبوطا ، لكن حماسه كان عاليا وما كاد يقبض الجنيهات الخمس حتى دسّها فى جيب البنطلون بجوار بضعة جنيهات كان يخبئهم للعوز .. ولّى ظهره للرئيس وسارع يسابق الريح غير الموجودة بالمرة ، ليجلب حلم عياله..

كانت يداه ميزانا دقيقا ، وهو يختار أسمن فرخة فى القفص ، والبائع يتأمله باستغراب ودهشة ..دون مساومة ، دفع الثمن وربط رجلى الفرخة قبل أن يضعها فى الكيس برفق وسعادة ، تكاد ترفعه فوق أشجار النخيل

مضى يغزّ الخطى محاولا أن يصل قبل أن يختفى ظل جسمه أسفل قدميه المفلطحتين ، وكى يلحق موعد الغذاء فى الوقت المناسب لكن حرارة الشمس كانت تزيد بالتدريج وبقوة ، مجبرة من يسير تحتها أن يلوذ بالظل ، والطريق طويل ، تزيد حرارة الشمس من طوله أكثر ..

عندما اقترب من شجرة التوت فكّر أن يستريح ولو لدقيقة وليعطى الفرخة فرصة مثله..أليس لها روحا هى الأخرى؟!


لم يدر بالتحديد " من الظالم" ..لكن أثر الظلم كان ظاهرا ، جاهرا أمام عينيه: الفرخة متخشبة ، باردة ، وجفونها مطبقة على بعضها ، وترفض أن ترد على هزاته وضرباته ..

محبطا غير مصدق ، جلس على الأرض ، يتمنى لو انشقت الأرض وابتلعته .. او جاء "عزرائيل" إليه هو وترك الفرخة تخطر ماشية نحو عياله وزوجته ..

لقد وعد عياله باللحم ، ويأس أن تعود الروح فى الفرخة .."عيسى مات منذ زمن بعيد"..ولا يجد أحدا يشكو له..وتأكد له أن الفقر والنحس الدكر قد عشّشا فى بيته ورقدا قوق دماغه ...


لم يطل بحثه وحيرته إذ سرعان ما وجد ضالته فى قطعة حادّة من صفيحة صدئة ..كانت تلمع وتعكس بريقا قويا تتعب العين إذا وقع شعاعها عليها لكنه وقع عليها بسعادة وسرعة ، وبعد أن كان جالسا فى طل شجرة التوت استدار خلفها .. بيده اليسرى ، مطّ رأس الفرخة التى أصبح حلم مصمصتها كابوسا ، وباليد الأخرى مرّ بعصبية على رقبتها ,,ولمّا قد يأس من حدوث معجزة كبرى فلا بأس من معجزة صغرى ، وانتظر .. لكن الدم لم يندفع كما أمل.. لم يتعدى الأمر بضع نقاط غليظة ذكّرته بضربة كف البارحة لكتيبة ناموس لا يرحم...


شمّر كمه ، ومدّ ساعده أمامه ، ولم يجد صعوبة فى تمييز العرق الذى سيقطعه ، فعروق ساعده نافرة واضحة كشبكة أنابيب زرقاء صغيرة .. لكنه تراجع وشمّر بنطلونه حتى الركبة..لم يطول تألمه وهو يضغط الشفرة على سمانته ، إذ اختفى سريعا بعد أن ظهر الدم الأحمر.. تناول الفرخة ومسح رقبتها ورأسها بدمه وبقّعها كلهاواختلط بياض ريشها بحمرة دمه القانى .. عندما انتهى لم يكن فى حاجة لإيقاف نزيف الدم ، فقد توقف لوحده ..اتجه نحو الترعة وغسل رجله وتحسس موضع الجرح ، واطمأن .. لم يكن واضحا بسهولة.. أسدل البنطلون ثانية ونهض مكملا سيره ، متحاملا على قدمه؟؟


عندما سألته زوجته ، قال وهو يتحاشى النظر لها أن البائع هو من اقترح ذبحها كى لا تفطس من شدة الحرارة ، وعندما رأى استغرابها نظراتها القلقة وهو يضع يده على دماغه وجسمه يرتعش على السرير كأنه محموم ، صاح فيها .." هوّ فى حاجة ؟!.." . تركته وعاودت تنظيف الفرخة وهى فرحة

أمّا هو فلم يفلح سلطان النوم فى ترويضه أو ضمه لسلطانه بالتى هى أحسن.. قام وتسلل هاربا من البيت قاصدا المسجد لكن زوجته استوقفته فى منتصف الشارع .."إزاى ناكل اللحمة من غيرك يا راجل ، جا يوم الموسم ..! " لعنها فى خاطره وعاد مهزوما.. اجتمعوا كلهم حول الطبلية ، مركزين نظره على الفرخة المحمّرة التى تلمع . وكأنه أعطى إذنا بالهجوم ، بمجرد أن تناول الملعقة لكنه لم يقرب الفرخة ..اغترف ملعقتين من الأرز ، أحس بهما قطع زجاج حاد تقطع قلبه قبل معدته ، وقبل أن ينهض وينظر لفوق نحو عروق الخشب السمراء المحتلة بالعناكب ، متظاهرا بحمد المولى على نعمه ، قامت زوجته وخطت نحو الحمّام وامتلأت أذنه بصوت تقيؤها .. قال لعياله وهو ينهض متحاملا على قدمه المجروحة ، يداعبهم ؟؟ " مش عايزكم تخلوها إلا عضم يا ولاد .. كلوا لغاية ما تشبعوا للسنة الجاية.." ، وضحك ضحكة قصيرة لم يشاركه احد فيها


فى المساء ، بعد أن تأكد أن الجميع نيام ، لم يتمالك نفسه من الاجهاش بالبكاء دون سبب معلوم .. حاول أن يخفى وجهه بيديه وأن يطمر صوت بكائه فى أعماق صمته حتى لا يفضحه ويفضح فضيحته ، لكنه فوجىء بزوجته على الطرف المجاور، تدير رأسها وتقول له " ما أنا كنت عارفة انها ماتت فطسانة".. ألهذا السبب إذن يبكى ؟!.. لكنه نهض جالسا على السرير وجمع كل ما تلاسّب منه من قوة وهوى عليها بيديه ضربا وسبا ، كأنها هى الظالم..كانت هى صامتة ، راضية لا تشكو أو تتوجع ، حتى استهلكت قوته تمامت ، فارتمى الى جوارها، يتأوه ويئن كأنه هو المضروب .. وبعدها بقليل ، كان يرى بعين ثالثة لا ترى فى النور ، نفسه جالسا فى وضع غريب وفى مكان قذر أشبه بالحظيرة وحوله ضخور بيضاء كبيرة ورأى دجاجة عملاقة تتقدم بمؤخرتها وتشرع فى السقوط فوقه لكنه نهض سريعا وحمل شيئا حادا أشبه بسيف طويل وهو يشعر بالرعب من الدجاجة المخيفة .. حاول أن يدافع عن نفسه بالسيف لكن ضربات المنقار كانت أسرع وأقوى ، فلم يقدر على الصمود .. خرّ منهكا يتأوه بصوت واهن ضعيف ..وحدها زوجته ، كانت تسمعه وهى على الجانب الآخر تسحق بيدها مخدتها المتيبسة ، وتفكر فى الأيام القادمة

بقلم أمير علي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى