الثلاثاء ١ أيار (مايو) ٢٠٠٧
بقلم عيسى شريط

الثراء التأويلي للنص المفتوح

مقاربة في قصة "سر الغرفة الثالثة" للكاتبة (جميلة زنير)

موضوع الأدب النسائي كلما أثير يدفعني الى التموقع في حيز الرافضين لهذا التصنيف ذلك لما يثيره من نزعة اقصائية للفعل الإبداعي النسائي وموقعه من نظيره الرجالي..هذا التصنيف ينطوي ضمنيا على الجدلية الأزلية لعلاقة الرجل بالمرأة المقاومة والرافضة للعدالة و للتسوية بين الجنسين لتظل المرأة دوما محتجزة في خانة الكائن الخاضع للرجل، هذا الواقع التسلطي الكابت لوضع المرأة الاجتماعي كان من المفروض في اعتقادي، ألا يسري على العمل الإبداعي، لكنه ابتكر لغرض استمرار الجدلية الخالدة هذا من جهة، ومن جهة أخرى اعتمد هذا التصنيف تأسيسا على جملة من العناصر التي يتميّز بها الأسلوب الإبداعي النسائي ومضامينه المعتنقة دوما لبعض الرموز والأشياء اللاصقة بفضاء وعالم المرأة، ذات الدلالات الأنثوية التي هي في اعتقادي، ليست حكرا عليها..

هذه المعطيات مجتمعة وغيرها تكرس موقفي المستخف بالتصنيف الإقصائي المذكور...
لكنني حين اطلعت على قصة (سر الغرفة الثالثة) للقاصة والروائية "جميلة زنير" على صفحات اليوم الأدبي – العدد 40، الخميس 18/04/2002- نشطت في هواجس التردد المشككة في موضوعية موقفي من فعل التصنيف، فالقارئ بقليل من الإيجابية الحسية الممتعة يقف بشكل مذهل على مدى سلاسة وشاعرية ونعومة أسلوب النص بعباراته المسترسلة في تناغم لطيف مداعب للحس الإنساني المرهف، مثل هذه الرقة المتناهية لا يمكن جزما أن تنسج وتنبعث من وجدان ذلك المخلوق الذي يعرف بالجنس الخشن، إنما منبعه من ذات كائن لطيف وأنثوي تحديدا يفيض بالأحاسيس المرهفة (..أحست مريم بيد ناعمة تهز كتفها هزا رقيا فاستدارت نحوها وقالت بصوت متناوم...)، (وقال الهمس باستحياء وتودد وعذوبة..)، (..وجه بدر يفيض بالبهاء والألق والنعومة)، (أولتها ظهرها لتريها حرير شعرها الطويل الطويل على غير العادة واختفت في أخر الممر بعد أن غمرتها بالهدوء والاطمئنان)، (ونطق الهمس بتوسل واستعطاف ورقة)..

لعل القارئ الكريم قد لاحظ نوعية المفردة المنتقاة والعبارة المكسوة بالعاطفة الشاعرة والمسترسلة بعذوبة عفوية صادقة فجرت ينابيع الظاهرة الجمالية، وابتعدت عن فعل الابتذال الكابت لها...

وعلى ضوء هذا الأسلوب تتجلى لنا بوضوح الملامح الفسيولوجية والنفسية والسلوكية لشخوص القصة..أما الفسيولوجية فشخصيتا "مريم" و"الطيف" تتسمان بنعومة وأناقة متناهيتين، يحاصرهما هاجس التجميل والاعتناء بالجسد نظافة ونقاء، ذلك ما يكشف عن امرأتين فاتنتي الجمال، يتجلى ذلك من خلال بعض الومضات الواردة في القصة (يد ناعمة، أريد المشط، يجب أن لأكون في أحسن صورة، وجه بدر يفيض بالبهاء والألق والنعومة، لتريها حرير شعرها الطويل الطويل، الوجه الصبوح، لا بل المرآة، أعطيني المقص، طالبة أدوات الزينة)..كل هذه الإشارات تعكس مدى اهتمامهما بمظرهما ومدى بهائهما وهاجسهما التجميلي...

أما الملامح النفسية فتتجلى من خلال تصرفات "مريم" و"الطيف" التي توهم في مطلع القصة بأنهما تتميزان بنفسية ذات مزاج هادئ ومتوازن، فلا يلاحظ على احداهما أي انفعال، أو توتر نفسي أو قلق موضوعي ناتج عن الموقف المبهم الذي يحدث لمريم، أو قلق عصابي ناتج عن الخوف من المجهول، غير أن ملامح القلق الموضوعي تبدأ في التجلي تدريجا عبر مراحل القصة بعدما تحاصر "مريم" بالاستفهامات حول حقيقة "الطيف"...

من بين ميزات هذه القصة هو انفتاح نصها بمعنى أنه نص يفتح باب التأويل والقراءات على مصراعيه، وقد تجنبت الكاتبة فعل غلق نصها بشكل جيد أبعده عن حصر محتواه في الدلالة الواحدة المفقرة للنص، ذلك ما أباح لي الوقوف على جملة من التأويلات تلتصق بذات الكاتبة، أهمها أن بطلة القصة "مريم" هي ذاتها "الطيف" أي شخصية واحدة بوجهين، لا استهدف من ذلك الإشارة الى الظاهرة النفسية المرضية "انفصام الشخصية" إنما أريد الإشارة الى ما يجري من صراع وجودي متناقض في ذات "مريم" – ولعلها الكاتبة نفسها- "الطيف" أو الهاجس يبرز في كل ليلة أربعاء، تلك إشارة واضحة في اعتقادي، الى نهاية الأسبوع حين تنفرد "مريم" بذاتها داخل الغرفة بعد عناء العمل الدراسي باقي الأيام (..تتسلل الى مخدعها ليلة كل أربعاء طالبة أدوات الزينة)، حين تحل العطلة الأسبوعية إذن، تنفرد "مريم" بذاتها لتنشط أفكار "مريم" الأخرى المتمثلة في "الطيف" الذي يوسوس لها محاولا إغرائها على التزيّن وإبداء المفاتن والخروج للقاء الحبيب أو غيره مثلما تفعل الطالبات الأخريات..والعناصر التي دفعتني الى توحيد الشخصيتين في ذات واحدة متوفرة في النص بكثرة من خلال إشارات وومضات واضحة تعري ذلك (وجه الطيف يترسم كالوشم في عينيها)، (..في كل خطوة تخطوها بحثا عن الوجه الذي انطبع في ذاكرتها وحين ترى من يشبهه تمضي نحوه يتقدمها الشوق واللهفة)، (هذا الطيف الذي سيّج نفسها)، (..واجتاحتها الهواجس من أن كون كل هذه الأطياف أوهاما وخيالات ورؤى تتماوج في ذهنها لتعلن عن بداية جنون)..على ضوء مثل هذه الإشارات نستشف بأن الذي يحدث هو مجرد أوهام ورؤى تتماوج في ذات "مريم" نفسها...

وهكذا ظلت "مريم" الطالبة الملتزمة درسا واعتدالا تقاوم الهواجس المغرية للذات الأخرى المتمردة التي تريد الانطلاق والإنعتاق لفعل ما بدا لها (..تنتهك ظلمات الليل بلا خوف)، (..تخترق الأبواب والحراس)..وظلت صامدة (قررت ألا تبحر معها أكثر مما فعلت فيتوزع تفكيرها وترسب ولكي لا تغضب أهلها بإعادة السنة)...

ومن بين العوامل الرادعة لها في الانسياق خلف شهواتها العوامل الاجتماعية من تابوهات وممنوعات التي ترمي بكل ثقلها الرادع، يتجلى ذلك في النص على ضوء موقف إدارة المعهد التي تشكل في مجملها دلالة على المجتمع (..وغاصت في خجلها حين ضحك الموظفون بأصوات عالية وعيونهم تقطر سخرية من خيبتها وتوهمها، وأحست بالهزيمة والقهر وهم لا يتفهمون موقفها)..

واستمرت في مقاومتها للهواجس المغرية معتمدة في ذلك على المنطق العقلي والتفكير المتزن، نلتمس ذلك من خلال بحثها عن حقيقة "الطيف" وعن المصير المرتقب لو تساير رغبتها الإغرائية (..فوضعت ملفات الطلبات في المواد تحت تصرفها لعدة أيام تنقب في الصور)، (فتحوا لها أرشيف ملفات الدفعات السابقة)..هكذا حتى جاءت اللحظة الحاسمة التي جددت موقف "مريم" النهائي من الهواجس، فقررت التخلص من الذات الأخرى المتمردة من خلال وضع حد لحياة "الطيف"، حدث فعل التخلص على ضوء اكتشافها لحقيقة "الطيف" الذي يبدو أنها فتاة جميلة كانت تقطن الغرفة الثالثة وانتحرت في ظروف غامضة بعدما رمت بنفسها من النافذة..جاء الحسم على الرغم من شعور "مريم" بالهزيمة نتيجة لقرارها بألا تساير هواجسها والتي إن طاوعتها ستنتهي الى الانتحار قطعا (..فلملمت هزيمتها واتجهت صوب تلك الغرفة، جمعت أغراضها وبحثت في حقيبتها عن أدوات الزينة وإذ بها تشاهد وجع الطيف يتأرجح على صفحة المرآة يحق في عينيها بعتاب)...
هذه مقاربة تأويلية واحدة من جملة التأويلات التي توفرها هذه القصة المتميزة بانفتاح نصها الذي يمكن قراءته من عدة زوايا مختلفة، واقتصرت مقاربتي المتواضعة على الرؤية من الزاوية التحليلية النفسية في اعتقادي، وتدخل بلا شك في خانة الرأي الخاص القابل للمد والجزر وبالتالي القبول أو الرفض...

مقاربة في قصة "سر الغرفة الثالثة" للكاتبة (جميلة زنير)

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى