الخميس ٣ أيار (مايو) ٢٠٠٧
بقلم محمد المهدي السقال

غزل الذئاب

ـ مشيت خلفه بالكاد تحملني رجلاي، رغم قصر المسافة بين المطحنة وسيارة " السي حمزة "، كنت أنوء بحمل الكيس حتى الأنين، استجبت لأمره المطاع بوضعه في المؤخرة، لفتت انتباهي نقاط دم مبعثرة في الجنبات، حملقت دون إرادة مني، كأني أبحث عن ذبيحة مرتْ من هنا.

بدا لي مفتش الشرطة مستغرقاً في تأمل كلماتي، كنت على وشك الاستدراك بجملة ألحّتْ على خاطري، يعيبُ عليَّ صحابي ما يتهيَّأ لي من خيالات، كُلَّما حدثتهم عن صور الجرائم البشعة في هذا الوطن العزيز، ويردون كل شيء إلى هَوَسي بالسينما:

ـ يلقبونك بِـ "حَمُّو الزهْواني"؟

ـ نعم أَ ’’الشَّافْ’’ [1].

ـ لكن اسمك: حمُّو البحْراوي؟

ـ من كثرة تردُّدي على سينما الشعب، يقولون بأني لا أرتادها إلا للمتعة بمفاتن النساء.

تلعثمت في ضبط تقطع الحروف الأخيرة، حين شعرت بأنني تحوَّلتُ من شاهد يُدلي بإفادته، إلى موضوع للتحقيق في تفاصيل لا علاقة لها بالدم الذي رأيته.

ـ ماذا تعرف عن الرجل؟ حدثنا عنه.

كانت الفرصة مواتية لرؤية وجه المحقق، تلمع جبهته المتصببة عرقا بانعكاس الضوء المتماوج بين الصفرة والحمرة الغامقتين، استرقت نظرة عجْلَى، بينما كان يبادل صاحبه إيماءات مكشوفة، لعله يطمئن على نجاحه في السؤال الاستفزازي؟ ثم أردف دون انتظار جواب:

ـ أنت ذكرت الرجل بالاسم، ماذا تعرف عن "السي حمزة "؟

ـ كل أسبوعين، يأتي إلى المطحنة، يكون دقيقه موجوداً، تسبق نزولَه إشارةُُ ُ عن بُعد، لم يعدْ إخواني من الحمالين يتسابقون نحوه، يكتفون بالتلويح إليَّ:

ـ ها هو جاء. تتوزع نظراتنا شكل مظهر التدين على محياه المغلف بلحية كثة، ثم تأخذ بألبابنا السيارة التي لا نعرف شبيهاً لها إلا في المواكب الرسمية.

يأمرني بوضع سلعته في مكانها المعهود، ثم يناولني قطعة نقدية من فئة عشرة دراهم، مرة، سمعت صاحب المطحنة يحيِّيه باسمه، فعمدتُ بدوري إلى تسييده، يربت على كتفي مبتسماً، فأشعر بالزهوِّ بينهم، لم نعرف أحداً غيره كان يعطي تلك العمولة.

تساءل صاحبي كيف يحضر بنفسه إلى الطاحونة، وهو من هو كما تدل عليه هيأته البرجوازية، لا أحد منا رد بتعليل، خمَّنتُ أن يكون الرجل خائفا من وضع السم في دقيقه، لكنني لم أجرؤ على التعبير عن رأيي.

ـ وماذا رأيت بالضبط ذلك الصباح؟ هذا ما يهمنا نحن.

ـ كما قلت لكم أسيدي، لفتت انتباهي نُقط دمٍ حمراء، فوسوس لي الشيطان أن تكون...

تصاعدت نبرة صوته الحاد لمقاطعتي،

ـ وكيف يكون الدم؟ أخضر؟ هل رأيت بالقرب منها كيسا أو حقيبة؟

ـ لا، الشهادة لله، ما رأيت شيئا.

كان الضوء في القاعة محكم التوزيع وسط الدائرة التي أجلس فيها، تراجع المحقق خلف مكتبه فغاب دون أفول خياله، تذكرت نزول امرأة أثارني شكلها المتبرج، لم أتصور أن تكون زوجته، يتوسط صدرها شبه العاري عقد لا شك أنه من الذهب الخالص، اتجهت نحو المحطة، ظننتها تريد اللحاق ببائع الموز المتجول، ثم عرجت خلف الحافلة التي كانت تنادي على "الرباط".

حجمت عن الاسترسال ربحاً للوقت بين أيديهم، قبل أن يُلقى بي في زنزانة المخفر، ما يروج على الحقيقة من انتهاكات ضد المواطن البسيط، تكفي للتقزز حتى من تخيُّل الوقوع ضحية بين أيدي المخزن،

وسيطر عليَّ توجس الإيقاع بي إن لم أتعاون بالشكل المرضي لهم، أشاهد في السينما كيف يكون استعجال المحققين لرفع تقاريرهم إلى أسيادهم، تحبك لك الضابطة القضائية محضرا مُطرَّزاً بألوان التعليمات، ثم ترفعه إلى النيابة العامة التي تكيِّف القضية على كيفها، قبل عرضها على أنظار المحكمة الموقرة، و’’مُوتْ يا حْمار’’،

تماوج كثافة الدخان مع الضوء الخافت في زاوية الغرفة، حال دون فضح ابتسامة دافئة بشفتي الباردتين.

طلع خياله من وراء حجب الدخان يسبقه السؤال:

ما زلت مصرا على التبليغ عن دم رأيته في مؤخرة سيارة "السي حمزة"؟

ـ الله شاهد على ما أقول.

ـ تتحشش؟

ـ لا سيدي، كنتُ، عفا الله أسيدي.

تسكر؟ أنتم الحمالون تحلُّون مشكلة غلاء الشراب بالكحول القابل للاشتعال.

ـ لا سيدي، بعيد عنك، أنا مريض بقرحة المعدة منذ أربعين عاما، بالكاد نسلك الوقت.

ـ شُوفْ، أنت لم تر دماً ولا هم يحزنون، أنت نفسك تقول بأنك تسلك الوقت، ما لك وصداع الرأس؟

لم أحتج إلى كبير عناء لفهم قصد المفتش غير اللبق، احتدت نبراته، تلفظ بكلمات نابية يستعملها المسؤولون دون أدنى حرج، شعرتُ بأن المرغوب هو تجاوز إفادتي، حضرتني مسرحية "شاهد ما شافش حاجة"، تداخلت معها حالة الشاهد الذي يُسترضى بمقابل محترم، للتغطية على شخصية مهمة في الأفلام، فتسربت إلى أعماقه إمكانية العرض المغري، يتبرَّأُ من تبليغه فيُخْلَى سبيله، بعدما يكونون قد دفعوا له شيئا باسم " السي حمزة".

استغلَّ الصمت المطبق في انتظار جوابه ليفاوض نفسه بخصوص العرض المحتمل، كما تجري الأمور في السينما، راودته نفسه بالتساؤل عن إمكانية الإصرار على موقفه، سعياً نحو الحفاظ على ما تبقَّى من كرامته في هذا الزمن اللعين، غير أنه لم يفكر طويلا أمام الصور التي استحضرها، لا يفضي الموقف المضاد فيها إلا إلى ما لا تحمد عقباه.

ـ ماذا قلتَ؟

وددت لو أصرخ مرة واحدة في وجوههم، لو أعلنت فيهم عن احتقاري لوجودهم على هذه الأرض، والحق، أن الحمية كادت أن تأخذني إلى المدى الموهوم، لولا تذكُّر صبيةٍ تركتهم
بانتظاري، وأنا في أرذل العمر.


[1’’الشَّافْ’’: الرئيس


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى