الجمعة ٤ أيار (مايو) ٢٠٠٧
بقلم علي القاسمي

حياة سابقة

توقَّفت الطائرة التي كنتُ على متنها في مطار نيودلهي، وهي في طريقها من كوالالمبور إلى لندن. ألقيتُ نظرةً من النافذة فطالعني فضاء شاسع؛ وفي آخر الأفق، بدت الشمسُ الغاربةُ شاحبةً يائسةً بائسةً، تحاصرها غيومٌ سوداء داكنة غريبة الأشكال متعدِّدة الأحجام مثل قطيعٍ من الفِيَلة الهندية في غابة غير مطروقة. قُلت لنفسي، مُخفّفاً من وقع المشهد عليها: إنّها ستغرب هنا لتطلع من جديد في مكانٍ آخر من هذا العالم.

بعد فترة قصيرة، صعد إلى الطائرة خليطٌ من المسافرين الجدد الهنود والأوربيّين. توقّف أحدهم إزاء مقعدي، وهو يحمل بيده اليمنى دورقاً زجاجيّاً. نظر إلى رقم المقعد المجاور ثم إلى بطاقة الطائرة في يده، ثم حيّاني باللغة الإنجليزيّة، ووضع الدورق الزجاجيّ بعناية على أرضيّة الطائرة بين المقعدَين، وجلس في المقعد المجاور، وهو يمدّ يده لمصافحتي ويقدّم نفسه بلطف وابتسامة قائلاً:
 الدكتور جيمس هندرسون.
قلتُ: تشرّفتُ. وذكرتُ اسمي له.
وما لبث ربّان الطائرة أن أَعلنَ عن إقلاعها في اتجاه مطار كيتويك في لندن الذي ستصله بعد سبع ساعات من الطيران.

على الرغم من أنّ مقاعد الدرجة الأولى في الطائرة مريحة والممرات مُتّسعة نِسبيّاً، فقد ضايقني الدورق الزجاجيّ، وحدَّ من حركة ساقيّ؛ وكان، بين الفينة والأخرى، ينزاح على قدمي، فيسارع جاري إلى تعديله وتثبيته. لم أُظهِر انزعاجي ولم أقل شيئاً لجاري، إيماناً مني بحكمة تعلَّمتها من والدي منذ الصغر، مفادها: " ليس حُسنُ الجوار كفُّ الأذى، بل الصبر على الأذى."

بعد تناول طعام العشاء، كان لا بدّ لنا من التحدّث لتزجية الوقت. قلتُ له ونحن نتناول القهوة، مُغتنماً فرصة انحنائه لتعديل وضعيّة الدورق الزجاجيّ:
 عفواً، ما الذي تحتفظ به في هذا الدورق؟ أراك كثير الاهتمام به.
 عِِيِّنات من الدم.
 هل أنتَ طبيب؟
 سابقاً. أما الآن فأعمل في مجال " علم النفس الموازيّ" Parapsychology
قلتُ له بشيء من الاستحياء:
 أرجو أن تعذرني لجهلي. ما هو علم النفس الموازيّ؟
 علم النفس الموازي هو الدراسة التجريبيّة للظواهر النفسيّة الخارقة كالتخاطر Telepathy والاستبصار Clairvoyance (القدرة على رؤية ما يقع وراء نطاق البصر)، وغيرهما، وإيجاد تفسير علميّ لهذه الظواهر.

فهمتُ من محدِّثي أنّه كان طبيباً في إنجلترا ولكنّه هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكيّة، وراح يعمل في إحدى دوائر البحث العلميّ التابعة للبنتاغون (وزارة الدفاع الأمريكيّة في واشنطن دي.سي.). وأنّ مجموعة البحث التي ينتمي إليها يربو عدد العاملين فيها على مائة شخص، وهي متخصّصة في بحوث " الأطفال الذين يتذكرون حياة سابقة".

قلتُ لمحدّثي مُستفسِراً:
 هل تعني بذلك " نظرية التذكّر" للفيلسوف إفلاطون؟
أجاب بصورة قاطعة:
 لا، إنّ الأطفال الذين ندرُسهم لا يتذكَّرون " عالَم المُثُل العقليّة التي صُوِّرت على غرارها الكائنات المحسوسة في عالمنا هذا" طبقاً للنظريّة الإفلاطونيّة، وإنّما هم يتذكّرون حياة حقيقيّة عاشوها في عالمنا الماديّ هذا قبل أن يولدوا.
سارعتُ إلى القول:
 إذن أنتَ تتحدّث عن التناسخ الذي يقول به الهندوس. فكما تعلم، بلا شكّ، أنّهم يؤمنون بـ " تجوال الروح" أو "تكرار المولِد" الذي بموجبه ترجع الروح ـ بعد مفارقتها البدَن بالموت ـ إلى العالم الأرضيّ لتحلّ في جسم آخر: جسم إنسان أو حيوان أو ثُعبان، وتُسعَد أو تُشقى نتيجةً لما قدّمتْ من عمل في حياتها السابقة، كطريقة للجزاء. ولكن من شروط التناسخ في عقيدتهم أن الروح في عالمها الجديد لا تذكر شيئاً عن عالمها السابق...
قاطعني الدكتور هندرسون ليقول:
 ومع ذلك، فهناك من الأطفال في الهند مَن يتذكّر حياةً سابقة. وقد جمعتُ في رحلتي إلى الهند، هذه المرّة، نماذج من دماء بعض هؤلاء الأطفال، أحملها في هذا الدورق الزجاجيّ، لكي نحلّلها ونقارنها بفصائل الدم التي جمعناها من الأطفال الأمريكييّن الذين يتذكرون حياة سابقة. وعلى أيّة حال، فإنّنا لا نعمل حالياً على فرضيّة التناسخ.
قلتُ له بشيء من الاستغراب والتعجّب:
 إذن، مِن أية فرضيّة تنطلقون في بحثكم؟ لا بُدّ من وجود فرضيّة لديكم ولّدتها الملاحظة.
 إنّ الفرضية التي نعمل عليها الآن هي التَّخاطُر Telepathy
 أرجوك، يا دكتور هندرسون، أن تساعدني على الفهم بضرب بعض الأمثلة. ولكن، قبل كلّ شيء، كيف تعثرون على هؤلاء الأطفال؟
 ننشر في مجلات علم النفس وغيرها إعلانات موجّهة إلى آباء الأطفال الذين يتذكّرون حياة سابقة، ندعوهم فيها إلى الاتّصال بنا لمساعدتهم. وعندما يتّصل بنا أحدهم، نُجري أولاً دراسةََ جدوى لنتأكّد من أنّ الطفل لم يتكلّم عن حياة سابقة بإيحاءٍ من قصص سمعها من أهله أو جيرانه، ولنجزم بأنّ البيانات التي يُدلي بها الطفل واضحة وافية تسمح بمتابعة البحث والتقصي. وبعد ذلك يشرع فريق منّا بالبحث الميدانيّ الذي قد تبلغ كلفته ملايين الدولارات.

صمتَ الدكتور هندرسون لحظةً كأنّه يفكّر في شيء ثم قال:
 سأعطيكَ أمثلة من ثلاث حالات واضحة أشرفتُ بنفسي على دراستها وكتبتُ عنها بحوثاً منشورة:
الأولى، حالة طفل وُلِد وثلاث أصابع من يده اليُسرى مقطوعة. وطبيعيّ أنّ مثل هذه التشوّهات الخَلقيّة تحصل بين آونة وأخرى. ولكنَّ هذا الطفل، عندما بلغ حوالي السنة الرابعة من العمر، أخذ يتكلّم عن حياة سابقة. فادّعى أنّه كان مهندساً في مدينة بالتمور الأمريكيّة، وذكر اسم زوجته وابنه وابنته، بل استطاع أن يُعطي عنوان منزله بالضبط وعنوان عمله، ويذكر أسماء أصدقائه وزملائه في العمل. قُمنا بمواصلة البحث في مدينة بالتمور، وسرعان ما اهتدينا إلى المنزل الذي كان يسكن فيه ذلك المهندس، والشركة التي كان يعمل فيها. وقد علمنا أنّ ذلك المهندس قد تعرّض لحادثةِ عمل قُطعت فيها ثلاث أصابع من يده اليسرى، وعلى الرغم من العلاج فقد وقعت تعقيدات طبيّة أدّت إلى وفاته قبل ولادة الطفل بأربعة أشهر وثلاثة أيام.

الثانية، حالة طفل، قال عنه أبواه أنّه عندما كان رضيعاً، كان يصرخ رُعباًً كّلما دخلوا بسيّارتهم إلى محطةِ وقود، ولا يهدأ حتّى يغادروا محطة الوقود. وعندما تعدّى هذا الطفل سنته الثالثة من العمر، أخذ يعترض على مناداته باسمه " جوني" قائلاً إنّه "هاري"، وحينما يسأله أبواه: " هاري مَن؟"، يجيب : " هارولد بيترسون، رجل أعمال من سان فرانسيسكو". ثم راح يذكر اسم زوجته وابنته الوحيدة والشركة التي كان يملكها. عندما استعان والداه بفريق البحث وتأكَّد للفريق وضوح البيانات التي أدلى بها الطفل، انطلق الفريق إلى مدينة سان فرنسيسكو ليجد الشركة التي ذكرها الطفل، وابنته (أي ابنة مالك الشركة الأصليّ) وهي تديرها. وأخبرتهم أنّ والدها لقي حتفه في حريق شبّ في إحدى محطات الوقود بينما كان يملأ خزان سيّارته بالبانزين فأصابتها النيران والتهمتها وتوفّي هناك على الفور. وحدثَ ذلك قبل أربعة أعوام من ولادة الطفل موضوع البحث.

الحالة الثالثة أكثر وضوحاً؛ لأنّ الطفل الأمريكي الصغير "فرانكي" الذي لا يعرف أيٌّ من أبويه أو جيرانه لغةً غير الإنجليزيّة، أخذَ يتكلم باللغة الألمانيّة بطلاقة، معلّلاً ذلك بأنّه كان طبيباً في ألمانيا واسمه " الدكتور غنتر باسفيلد". ولما زار فريق البحث روض الأطفال الذي كان يرتاده الطفل، تأكّد له أنَّ الروض لا يُعلّم الأطفال أيّة لغة أجنبيّة في سنٍّ مبكّرة، وأنّ المُعلِّمات والمربيِّات في الروض لا يعرفن الألمانيّة ما عدا اثنتين منهن أكّدتا لفريق البحث أنّهما لم يعلّما الأطفال اللغة الألمانية ولم يتبادلا الحديث أمامهم بالألمانيّة، اللّهم ما عدا كلمة أو كلمتين تبادلتاها بسرعة ذات يوم. كان على فريق البحث أن يرحل إلى ألمانيا، وبالذات إلى بلدة " غوتنبرغ أب در تاوبر" القريبة من مدينة ميونخ، وهي بلدة قديمة تحتفظ بطابعها وعمارتها وحتّى مؤسّساتها مثل مسرح العرائس منذ القرون الوسطى. وأثناء الحرب العالميّة الثانية، تعرّضت هذه البلدة للقصف الجويّ الأمريكيّ على الرغم من عدم وجود أيّة منشئات عسكريّة أو صناعيّة فيها أو بالقرب منها. ثم علِم بالقصف جنرالٌ أمريكيّ كان قد زار البلدة الصغيرة من قبل وأُعجِب بآثارها القروسطيّة، فأعطى أوامره بإيقاف القصف للحفاظ على تلك البلدة الأثريّة. وتوقّف القصف الجويّ ولكن بعد أن قُتِل بعض أهالي البلدة ومن بينهم الطبيب الدكتور غنتر باسفيلد الذي ذكره الطفل الأمريكيّ " فرانكي". وقد حدث ذلك قبل خمسة وأربعين عاماً من ميلاد الطفل فرانكي.

وطبعاً في كلّ حالة، يضطلع فريق البحث بالحصول على التاريخ الصحيّ والسريريّ للمتوفّى، بل وأحياناً ينبش جثمانه من قبره، ليقارن فصيلة دمه، وبصمات أصابعه، وصبغته الجينية، وكل شيء فيه مع خصائص الطفل المُتذكِّر.

بعد ثلاثة أسابيع تقريباً من لقائي بالدكتور جيمس هندرسون على الطائرة، تلقيّتُ، وأنا في مكتبي، رسالة قصيرة منه وبرفقتها بعض المُستلات من مجلات علميّة فيها ثلاثة من بحوثه التي أعدّها للنشر مع اثنين من زملائه في العمل، والتي تتناول حالات الأطفال الثلاث التي حدّثني عنها.

بعد قيامي بدراسةِ تلك البحوث العلميّة بعناية، شعرتُ بنوع من القلق الروحيّ، وبرغبة في مواصلة البحث في هذا الموضوع. ثم اجتاحتني مشاعر متضاربة. قلتُ في ذات نفسي: إن هذا الموضوع لا يهمّني، فهو ليس من اختصاصي، وأنا رجل مؤمن. والإيمان لا يتوقّف على نتائج البحث العلميّ، وإنّما هو، كما وصفه شيوخنا، " إقرار باللسان، وتصديق بالجَنان، وعمل بالأركان." والديانة الإسلاميّة وبقية الأديان السماويّة ترى أنّ الروح ترتبط بجسدٍ واحد في الدُّنيا والآخرة، وفي الآخرة يتمّ الثواب والعقاب، وليس في الدُّنيا.

ثم عدتُ أقول لنفسي: ولكنّ القرآن الكريم يحثّنا على التفكّر في ظواهر هذا الكون وإخضاعها للنظر العقليّ والبحث العلميّ. أضف إلى ذلك، لعلّ المسألة لا علاقة لها بالروح ولا بالثواب والعقاب، وإنّما لها صلة بالتخاطر أو بالأحلام أو بالهلوسة أو بأيِّ شيء آخر. والبحث العلميّ هو الفصل في ذلك. وفي خضم هذه الخواطر المتضاربة، قرّرتُ أن أؤجّل القضية برمّتها إلى ما بعد الاستمتاع بعطلتي الصيفيّة ذلك العام التي اخترتُ تمضيتها في بلدة " بني مدين " الواقعة على الشواطئ الإسبانية الجنوبية على البحر الأبيض المتوسط.

أثناء عطلتي، كنتُ أذهب صباح كلّ يوم إلى الشاطئ وأنا أتأبط كتاباً لأمارس السباحة والقراءة. وبينما كنتُ مستلقياً على رمال الشاطئ، مرّ بائع الصحف من أمامي، فاشتريتُ صحيفة (البايس) El Pais الإسبانيّة، وهي جريدة رصينة، للاطلاع على الأخبار. وإذا بي أطالع في صفحتها الأولى بخطٍّ عريض: " طفل إسبانيّ يتذكَّر حياته السابقة". رحتُ ألتهم الخبر بسرعة، وخلاصته أنّ طفلاً في السنة الخامسة من عمره تقريباً كان يرافق والديه مع مجموعة من السيّاح يقودهم دليل سياحيّ، لزيارة قلعة قديمة بالقرب من مدينة إشبيلية. قال الطفل لأبويه بعد أن دخلوا من بوابة المزارع المحيطة بالقلعة: "هل تريدان الوصول إلى القلعة قبل بقيّة السيّاح". فأجاب والداه لإدخال السرور إلى نفسه: "نعم". قال الطفل: "إذن اتبعاني، فأنا أعرف طريقاً قصيراً بين الأشجار". وفعلاً وصلت العائلة قبل بقية السياح. وعندما كان السيّاح يزورون غرفة النوم الرئيسة في القلعة، قال الطفل لوالديه بصوت هامس: "هل تودّان رؤية غرفة نومي عندما كنتُ أعيش هنا؟". وقع والداه في حيرة، ولكنّهما وافقاه للوقوف على جليّة الأمر. قال الطفل: "انتظرا حتّى يغادر السيّاح الغرفة." وبعد ذلك ارتقى الطفل السرير، أزاح لوحة معلَّقة على الحائط، أدار مقبضاً تحتها، انفتح باب في جدار الغرفة، قاد والديه في مَمَرٍّ ضيق إلى غرفة صغيرة مليئة بدُمى الأطفال، وقال بشيء من الاعتزاز: "هذه غرفة نومي".
قالت أمه بارتباك وانفعال: "كيف؟! غرفة نومك في منزلنا في برشلونة."

قال الطفل: "عندما كنتُ أعيش في هذه القلعة مع أُمّي."
قالت أمّه: " ولكنّني أنا أمّك."
قال الطفل: " نعم، ولكن عندما كنتُ أعيش هنا كانت لي أُمّ أخرى."
فما كان من أُمّه إلا أن انهارت مغشيّاً عليها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى