الخميس ١٧ أيار (مايو) ٢٠٠٧
بقلم محمد عطية محمود عطية

في حضرة الرائحة

تجتاح رائحة القهوة الذكية حواسي . ترتقي بي حدا بالغا من النشوة و الحضور .
طوافها المنبعث دوما ـ من مكتب مدير العمل ـ يجذبني . يجعلني ألهث ؛ حتى أبلغ سببا من أسباب تواجدي بقربه ، و الاستمتاع بهذا العبق الطاغي ، مختلطا بأثير خاص .

أعلم أنه يأتي ببنها خصيصا من محل شهير و عتيق بالعاصمة ، حال سفره المنتظم لحضور جلسات مجلس الإدارة .
تحدثني نفسي في حضرته بأنه قد يتفضل علىّ يوما بفنجان أزاوج به بين متعتي التذوق و الاجتياح . لكنه يتركني في لهاثى . ينشغل عنى في أوراق عمله المرهق ، فيما بين رنات تليفونه المتوالية . يترك معي أذنه ، و هزات من رأسه ، مع نظرات متواترة من خلف نظارته .. يواجه بها بسماتي الرقيقة المتوددة في حياء ، و عيني اللتين لا تفارقان ملامحه الجادة ، و تلذذي بالرائحة .
تؤلمني رؤية باب مكتبه مغلقا ـ حين يغيب عن العمل لأي ظرف كان ـ فلا أجد بدآ من ولوج مكتب نائبه ـ على مضض ـ بحثا عن تلك الرائحة أو شبيهة بها ؛ فتخذلني ردود أفعاله البطيئة ، و تصدني رائحة عطره الرخيص ، و تذهب حواراتى المبتورة معه أدراج الرياح ، و يتنامى شعوري بحاجز يفصلني عنه .

في الجامعة .. كانت بداية ولعي بزوجتي ، و بتلك الرائحة ، التي لا تنبعث إلا من مكتب أبيها ـ أستاذي في الجامعة ـ و ظل حلما عنيدا ، استعصى على التحقيق ، أن أظل ملازما له في حجرات هيئة التدريس بعد تخرجي كزميل أصغر . لكنني آنست الرائحة في بيتهم ، لارتباطي بابنته فور التخرج ، و طابت جلساتي بغرفة مكتب حمىّ ، و في معيته ، و ظلت تأسرني رائحة جديدة للقهوة الفواحة ، التي لم تكن فناجينها لتنقطع عن سطح مكتبه العريض ؛ لتوافد أصدقائه و معارفه من ذوى النفوذ و المناصب . لكنني لم أنعم بقربهم كثيرا ، و لم أحظ بطعم القهوة المراوغ ؛ لرقدته المباغتة حتى رحيله . و صرت أفتقد الرائحة في البيت الخاوي .

زملائي بالعمل .. يجمعهم المقهى المتواضع وقت الراحة ؛ فتعلو أصواتهم بالضحكات و الخناقات .. يحتسون ما شاءوا .. يدخنون .. يتفاعلون .. لا تضايقهم رائحة المقهى الخانقة ، و لا يبالون بأشياء كثيرة قد تحدث في محيط العمل ؛ فالجدران تهمس بأن المدير سوف ينقل ، و ربما كان لنائبه دور مؤثر في إدارة العمل . و مما لا يضيرني في شيء أن يدعوني ولعي الأثير إلى تجاوز ما بيننا من حواجز ، على أمل أن تغازلني تلك الرائحة في حضرته .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى