الجمعة ١٨ أيار (مايو) ٢٠٠٧
بقلم ماجد عاطف

أبو فانوس

قامت الدنيا ولم تقعد!
ركض ظل المنادي عند المساء وتوقف أمام شجرة الخروب الوارفة. مسح عرقه وابتلع ريقه وصرخ:
  أبو فانوس آتٍ!

هَرَعَ الجميع إلى دكاكينهم يوظبونها كيفما اتفق فتمايلت ذبالات الشمع والمصابيح، وتكومت البضائع في الداخل بسرعة، ورُدّت الأبواب، وتصادمت الأجساد ببعضها، ومَن لم يكمل شراء حاجياته أو لم يدفع ثمنها، تركها وهرب. إنهم يركضون مرعوبين لا يلوون على شيء، كأن شيطاناً أصابهم بمسٍ عنيف. حتى الحمير المربوطة بالأوتاد أو الجذوع اليابسة، بدأت تتخبط.

ومن خلف المنحنى يتقارب ضوء متمايل. إنه يتقدم كمنارة: خطوة يميناً وأخرى يسارا. ويمشي الظل من تحته على مهلٍ قد غرق في السواد.. لا لون، بالتحديد، له؛ لكنه داكن أصابه الظلام بضراوة.
فإن تمعنت فله من البشر الشكل الخارجي، لكن الملابس أو الأردية الملفوفة، تبديه كمن خرج من العالم السفلي.
والضوء الذي يشع من الفانوس الذي فوقه، يزيد من تقاطيع الظلمة. إنّه يبهر عين الرائي بالوضوح، فيزداد ظلام ما في الأسفل.

ولقد أرعبهم طوال سنوات بتوقعاته للطقس وما هو آتٍ. تكون السماء صافية فينظر إلى الأعلى بغتة، ثم يقول بصوت غريب:
  مطر على الطريق!
فلا تكاد تمضي ساعات قلائل حتى يصير الجو مثل لعنة.
وإن قال: ستكون هذه السنة للجراد، حطت الأسراب كالعصافير الضخمة وأكلت الأخضر واليابس.
إن مرّ بجوار بقرة تلد، مات مولودها بتفجرٍ في الدماء، لا سبب له.

والأسوأ أنه كان لا يملك لسانه عن الكلام: إن رأى جمعاً من الناس، على مرمى حجر، يتهامسون، قال عن بُعدِه: سرقة.. فإن سألته كيف عرف، سيحتاج إلى يومين كئيبين وهو يحاول استعادة ما أحسّ به، ولن يقول لك إلا كلاماً عاماً لا معنى له، أو بالأحرى له ألف معنى. فيسقط في روع السامع شيء عجيب ثقيل، ويشعر بالتهديد الذي يتحوّل -عند التيقن- إلى رعب.
إن حصلت جناية لم تُعرف دوافعها، قالت ضحكته الشوهاء الواسعة: عشق!.
وينتبهن وهنَّ يغسّلن جسد الميتة إلى انتفاخٍ في البطن طفيفٍ، ويلقون القبض على الفاعل بعد أيام، لكن ليس قبل أن يُتهم بها أبو فانوس ويكاد يُزهَق.

فإذا أصغى عابراً الطريق على حماره لشجارٍ بين شخصين، قال شيئاً أغضب المتشاجرين معاً، وتصالحا عليه، موقعين به عن ظهر الحمار، لكنهما لا يسلمان أيضاً فيتحطمان!
إنه كالزوبعة تعبر الرمل فتفرِّق وتجمِّع.

وهو إلى ذلك كالأبله أقل من عاديّ، ضئيل الحجم، لا يؤمل منه شيء. مرّة دفعه الجزار بقبضته القوية فمالت وهوت به، وعندما أراد أن يسترد نفسه وقع مجدداً، فطار صيت أبي فانوس في القوة.
وتسابق الشبان على ودِ صَبيّةٍ يخاطبونها فمالت إليه دون سبب، لكنه عزف عنها وفرّ هارباً عكس ما كانوا سيفعلون، فانتشرت الشائعات: مرة عليه؛ وأخرى على الصبية التي أضطر أبوها إلى تزويجها من كهل، لم يسلم من الكلام بدوره.

وسذاجته لا تصدق: يدق الأعور في عينه وضحَ النهار، دون أن يشعر برهبة. وإن غضب وهدّد، هدّد كأنه وليّ تتبعه الملائكة أو جنود خفية، وقد يركب الصعب في مسألة عصية، فتنمو بعد ذلك الافتراضات كالأعشاب السامة.
إنّه يرى في الأشياء ما لا يرونه، وعندما يتضح جانب منها، في زمن ما، يشعرون بخوفهم يسري في أبدانهم، وعندما يتضح جانب آخر، في زمن تالٍ، يتضاعف أضعافاً.
بل إنّه قد يخطئ في لفظ الكلمة بلسانه الرخو، فيصبح الخطأ مع ذلك أكثر صواباً، كأن الخطأ -في السياق- صواب!
فإذا أرادوا اختباره بدا كأنه شخص آخر، لا علاقة له بشيء، ثم عندما يديرون ظهورهم يقبض على كبد المسألة. إن دسّوا شخصاً خلف "السنسلة" ليتجسس عليه علّه يتورط ويتوب عن الحديث، قال: "هو هناك"، وفوق ذلك يقعُ على رأسِ المدسوسِ حجر!

وفَضَحَ الوجهاء في وجاهتهم، والتجار في تجارتهم، مثلما فضح نفسه! اللحى عنده سواء: كلها يخوض فيها المشط.
وإنّه لمتبطلٌ لا يعرف أحدٌ كيف يعيش؛ مختفٍ لا يعرفون كيف يظهر؛ ولا متى ينام أو يستيقظ؛ سوى أنّه يأتي في لحظة حرجة.
ومنذ آخر مشكلة تسبب بها، أو تسببت به، قرروا أن يجدواً حلاً: منعوه من الخروج نهاراً، واشترطوا عليه عند الخروج ليلاً أن يكونَ فوق رأسه الفانوس، وأن تكون يداه مقيدتين.
حتى مع هذا لم يسلموا منه:
بذكاء أو بغباء، لا أحد يعرف يقيناً، مضى بالفانوس الذي فوق رأسه.. إلى أماكنهم المظلمة!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى