الخميس ١٧ أيار (مايو) ٢٠٠٧
بقلم أيمن جعفر محمد يوسف

طوْفـــَـانُ الضـِّـيَــــــــاءِ

تظلُّ أرواحنا الأسيرة ُ في عتمة ٍ من الأحاسيس ِ المتقنة لغة الظلام ، حتى تجتاحنا الحريَّـة ُ ، جيوشَ فرح ٍ ، و طوفانَ ضياء !!

مِنْ حقــِّكَ الآن التحـليقُ في مجرَّاتِ الفرح ، إقامة ُ عَرْش ٍ سماويٍّ مرصَّـع ٍ بالغيماتِ المتقنةِ صفاءَ الحليبِ ..من حقكَ تلوينُ لوحة ِ القلبِ بألـوان البهجة ِ المائيَّـة ِ ، الغرقُ الآمنُ في فتنةِ الوقتِ ، كيف لا و هاهي أيامُ حزنكَ تذوبُ سُكــَّرَا ً في كوبِ ذكرياتكَ ، و تتجمَّدُ أوقاتُ معاناتكَ في ثلاّجةِ ذاكرتكَ ؟؟!!
كيف لا ، و أخيرا ً أخيرا ً ، سَتـُفـتـَحُ ستارةُ حاضركَ ؛ مستقبلة ً قوافـلَ الضِّـيَاء ، طاردة ً عبر ما حدثَ اليومَ ، كائناتِ الهواجس المزعجة ، و روائحَ الأسى المقرفة ، المحترفة تشويه روحكَ ببخور الألم الرديء ؟؟!!

مُـذ سمعتَ الخبرَ ، و أمطارُ السُّـكــَّرِ تهطلُ فيكَ ، البنفسجُ يورقُ في عينيْـكَ ، أحاسيسكَ ترتدي ينابيعَ الياسمين ، بكعبةِ الفخرِ تطوفُ ، حافية ً من الندم ِ .
أوَّاهُ .. أحقا ً سيتحققُ ما نزفتَ لأجلهِ انتظارا ً ؟ ليُشـْنـَقَ ما جعلَ أحلامكَ مؤجـَّـلة ً أو كما دَعَوْتـَها " ميتة ً حتى إشعار ٍ آخر " ؟ ليُدحرَ ما تسبَّـبَ في دخول ابتسامتكَ غرفة العمليـَّّـاتِ المركزة ؟

لستَ مُصَـدِّقا ً بَـعْـدُ ، على ما يبدو ، أنَّ هذا سيحدثُ عمَّـا قريب . فثمَّـة هواجسٌ ينبغي لكَ قصفها ، نسفها بطائرات التصديق المقاتِلة ، و عليكَ الآن برمجة َ نفسكَ على لغةِ الصَّـبرِ من جديد ، على لغةِ اتزان الحِسِّ ، عقبَ الصراخ المتكرِّر أنْ لم يتمَّ التحديثُ بَـعْـدُ ، إذ لم تتبقَّ إلاَّ حفنة ٌمن الوقت فقط ، و من ثمَّ توشـّي رُبَى عينيْـكَ بشمس ِ الحُريَّـة ِ ، التي ترتكبُ الدِّفْءَ و الحنانَ في فؤادكَ المثلـَّج ِ أسْرَا ً !!
تـَفتحُ كرَّاستكَ التي تدوِّنُ فيها كلَّ ما يتخالجكَ ، تقلـِّبُ صفحاتها ، فيما يقـلـِّـبكَ الانتظارُ في صفحاتِ كتاب الحنيـن ، تبحثُ عن صفحة ٍ جديدة ٍ ، تكتبُ :

" سافرْ ..
على أجنحةِ الفرح ِ ..
على مَتـْن ِ السَّـعْـدِ ..
اقتحمْ آفاقَ مجرَّاتٍ
فيها الآمالُ ..
قبائلْ !!
فيها الأحلامُ ..
خمائلْ !!
فيها يأتي الشـَّـهْـدُ ..
قوافل َ قوافلْ !!
أرْسُمْ خرائطها ..
دروبا ً ظليلة !!
لا تـُضِع ِ اليومَ
أيَّــة َ ثانية ْ" ( 1 )

تودُّ الآنَ مواصلة الكتابة ، تنظرُ إلى ساعتكَ اللازورديَّـة ، لم يتبقَّ إلاَّ القليلُ من الوقتِ ، تهيمُ بكَ مشاعركَ في فيافي ذاكرتكَ . ترمقُ صورَ ماضيكَ ، فيما ترمقكَ حوائط ُ القسوة ِ ، تتذكـَّـرُ ...

الآنَ بعدَ عشرة أعوام ٍ مشجَّـرَة ٍ ألما ً ، ظللتَ خلالها في بطن حُوْتِ الوَجْدِ ، حالما ً بتمزيق ِ خريفِ أحـاسيسكَ ، عتمة َ الاختنـاق ِ بقنابـل ِ الحريَّـةِ العنقوديَّـةِ ، باجـتثـاثِ جـذور ِ شجـرةِ القـَهْر ِ ، المنغرسة ِ فيكَ ، المُثمِرَةِ فيكَ أشواكا ً و أتراحا ً !!
هاهي في هذا الوقتِ تماما ً ، تقذفها في يَمِّ ما كانَ ، ففيها سكنتَ في جنان السَّـعِـير ، في جزيرة ٍ لا تزورها سفنُ السَّـعادةِ ، وَحْدَهم قراصنة ُ المِحَن ِ يجتاحونها !!

لِتـَكـْنِس اليومَ الضَّجَـرَ ، لِتـَمْـسَـحْ بـقـعَ الهَـمِّ الملـوِّثةِ فؤادكَ ، فها قد رُفِعَ وزركَ الذي أنقضَ فرحكَ ، و لتنبجسْ الابتسـامة ُ من شفـتيْـكَ ، آيـة ً و صـلاة ً و أريجـا ً ، فأخيـرا ً ستعـودُ إلى أهلكَ ، أصحابكَ ، جيرانكَ ، بعد أنْ أتى عليكَ حِين ٌ من الدَّهر بمنأىً عنهم .
آه ٍ لكمْ هو شرسٌ ، بربريٌّ ، هذا الحنين الذي لمْ يتركْ في أرض روحكَ بقعة ً لمْ يحتلـَّـها !!
لا عليكَ ، ستعودُ إنْ شاءَ الله إلى أبيكَ ؛ تعانقه ، تقبِّـلُ جبينه و يديه ، و ترافقه مع خيوط الفجر الأولى إلى محلــّه للحلويات ، تتعلــَّـمُ منه كيفيَّـة صنعها ، و لربّما أيَّـها الشقيّ تسللتْ يداكَ إلى بعض ٍ منها خلسة ً ، و عندَ اكـتشافِ والدكَ أمركَ ، تعلــِّلُ ذلك بحـاجتـكَ ، بين الفـينـة و الأخـرى ، إلى تذوّق طعمها ، لتحفظهُ و من ثمَّ ، بطريقة ٍ سحريَّـة ٍ ، تتقـنُ صنعها !!

و لأمِّـكَ المتضوِّعَـة ِ حنانا ً ، المُزْهِرَةُ فيكَ دفئا ً و خمائلَ غبطة ٍ ألماسيَّـة ٍ ، التي ستستعرضُ مهاراتها في طبخ ِ أشهى المأكولات ِ ، بالطبع ِ ، عقبَ رؤيتها لجسمكَ المكتنِز ِ نحولا ً !!

لفاطمة َ أختكَ الثرثارة ِ أبدا ً ، المُجـِيـدَةِ اختـلاقَ القـصـص ِ عن أيَّـامِهـا و هي كبيـرة ، بينمــا هي ، إذ ذاك ، في ربيعها العاشر !!
لإيادٍ آخر ِالعنقودِ ، آنذاكَ ، ابن ِالعاميْـن ِ الاثنين ِ ، المُشاكِس ِ . و لستَ تدري فربَّـما يستقبلكَ أخٌ جديدٌ ، أو تستقبلكَ أخت ٌ جديدة ٌ ، انضمَّ أو انضمَّـتْ إلى أسرتكَ خلال فترةِ غيابكَ .
لجاسم ٍ صديق ِ عمركَ ، الرَّسَّـام ِ الموهوبِ ، المتلذذ دوما ً برسـم ِ صورتـكَ ، و في يديْـكَ بندقيـَّـة ٌ ترنو إلى سماءِ العزَّة ِ .
لبقيَّـة ِ الأصدقاءِ ، و لبقيَّـةِ الأهــل ِ و الجيـران ِ ، لقريتـكَ اللطيفـة ِ الطـَّيِّـبَةِ ، لبيتكَ المَرِح ِ البسيطِ ، للأشجار ِ ، للطيور ِ ، للرّطوبةِ ، لكلِّ شيءٍ ، لكلِّ شيءٍ ستعودُ .

لكن لِتعترف الآن بأنَّ شعورا ً ما يتخالجكَ بعدم تعرِّفهم عليكَ ، و عليكَ الاعترافُ أيضا ً بطبيعيَّـةِ ذلك ؛ فأنتَ لمْ تعدْ ابن الثـَّـامنةِ عشرَ ، فلحيتكَ الكـثــَّـة ُ و شاربكَ غيَّـرا كثيرا ً من ملامحكَ .

الشــُّعُورُ مَدْعَـاة ٌ لمشاعر ٍ أخرى . تدركُ ذلك ، إذ يتخالجكَ شعورٌ بعدم ِ تعرِّفكَ على أختكَ و على أخيكَ ربَّـما ، و يغسلكَ السُّؤالُ عمَّـا لوَّنَ الدَّهـرُ وَجْـهَ والديكَ ، و كيفَ صنعَ بهما .

أيّـها الغريبُ ستنتهي غربتكَ . هل قلتَ : " أيّـها الغريب " ؟
أنتَ لستَ كذلكَ حسبَ التصنيفِ العلميّ لوضعكَ ، بَيْـدَ أنــَّكَ لا تحفلُ بهذا التصنيفِ ، و تصِرُّ على كَوْنِكَ كذلك .. غريبا ً . أجل أنتَ ترى نفسكَ غريبا ً .
الحريَّـة ُ وطنٌ للأحاسيس ِ الرَّبيعيَّـة ِ ، ما إنْ نفقدها حتى نتشرَّدُ في زمهرير غربةِ الأحاسيس ِ . تؤمِنُ بذلك تماما ً ، مثلما تؤمنُ ألاّ مثيلَ لوطن ِ الأحاسيس ِ ، كي تحصدَ يواقـيتِ الوقـتِ !

إذا ً لعَقــْدٍ كامل ٍ من الزَّمن ِ كـنتَ غريبا ً ، ذليلا ً ، مسلوبَ الإرادةِ ، عقبَ ذاكَ اليوم ِ الذي تمَّ فيه اعتقالكَ ، بُعَيْـدَ إحباطهم لعمليَّـتِكَ المقاومِةِ تلكَ .
كانت العمليَّـة المقاومِة الثامنة لكَ ، قتلتَ من المحتـليـن خمسة ، و مضيتَ تدفعكَ عزيمتكَ نحو قوَّة ٍ جديدة ٍ منهم ، لكنكَ تفاجأتَ وقتها بضربةٍ موجعةٍ من خلفكَ ، أربعة ٌ من الجنودِ حاصروكَ وقتها ، ثمَّ اقتادوكَ إلى هنا ، إلى هذه الجدران ِ الصَّفراءِ الكئيبةِ ، إلى القضبان ِ المتغطرسة ، إلى هذا المعتقـل ِالبغيض .

قــَطـْعَا ً أنتَ لستَ نادما ً على مقاومتكَ ، فهؤلاءِ الأوغادُ نـَشـَلـُوا حـريَّـة َ وطنكَ ، و تالِيَـا ً لا مناصَ من المقاومة.
أنتَ الذي صرختَ بنثركَ الثـَّوريِّ ذات غضب ٍ يومها :

" طردتم أرواحا ً ملائكيَّـة ً
تـَحُفُّ بنا طهرا ً ..
تـَحُفُّ بنا عطرا ً ..
تـَحُفُّ بنا مطرا ً ..
طردتموها من الحياة ْ !!
لقــَتـْلِنـَا بِتــُّم هــــواة ْ !!
من المساكن ِ جعلتمونا
حُـفــَــاة ْ !!
لسِلمِنـَا عُصَـــاة ْ !!
فمنــَّـا ماذا تتوقعون ؟
ماذا تظنـّون ؟
ماذا تحسبون ؟
ترحيبا ً وادعا ً ..
و ابتسامة َ بـِشـْر ٍ
يا غُزَاة ْ ؟!
أم نكونُ لكم
بالموتِ ..
بالجحيم ِ ..
رُمَـــاة ْ ؟؟!!" ( 2 )

و ما فتئتَ متشبّـثا ً بمبادئكَ ، بحريَّـتكَ ، بحريَّـةِ وطنكَ ؛ فالحـريَّـة ُ وسامُ شرفٍ تتقـلـَّـدُهُ الأوطان ِ المستقلــِّةِ .لمْ تنسَ ذلكَ كما لمْ تنسَ كيفيَّـة َ حبسهم لكَ هنا في سجن ٍ انفراديٍّ ، و إسرافهم في تعذيبكَ بعد منعهم الزيارة َعليكَ . ما سمحَ للظلام السَّـفـَّـاح ِ بحَصْـدِ براعم ِ النـّور ِ كلما تفتحتْ في حقول ِ روحكَ بمنجله الحادّ .

آه ٍ .. كم كانتْ تلكَ الأيَّـام ُ بطعم ِ حرب ِ تدمير ٍ و عبثٍ طويلة ِ الأمدِ !
أيُّـها الأسيرُ ، أيُّها الغريبُ ، الوقتُ المحدَّدُ يقتربُ جدّا ً ؛ إذ فيه سيأتي ذيَّـاكَ الجنديّ البغيض ِ الآلِفِ قذعكَ ، ليقتادكَ و يُطلقَ سراحكَ .
لا عليـكَ إذا ً ممَّـا حـدثَ في الأيَّـام ِ السَّـالـفـةِ ، بـل عـليـكَ ممّـَا حـدثَ اليومَ ، من شروق ٍ لحريَّـتكَ ، بُعَيْدَ قرار إطلاق سراحكَ الذي أخْبـِرْتـَهُ صباحا ً .

الحريَّـة ُ طوفانُ ضياءٍ يجتاحنا فرحا ً ، دفئا ً ، كرامة ً ، مُهْـلِكا ً عتمة َ الأحاسيس ِ !!
فلا غرْوَ أنْ تتخذ َ اليومَ عيدا ً ؛ ففيه أفطرتَ على البهجةِ ، حَجَجْتَ كعبة َ الحريَّـةِ . إنــَّهُ اليومُ المرصَّعُ بفيروز ِ الرّوح ِ ، المُورِق جَذلا ً ، المُنـَكـــَّه زعفرانا ً و نعناعا ً ، يوم أحاسيسكَ الرَّبيعيَّـة ِ فاشرَعْ شرفاتِ روحكَ ، للآتي ، لطوفان ِ الضــِّــيَـاءِ !!

الهـوامـش :

( 1 ) المقطع الثاني من خاطرة نثريّـة بعنوان " مملكة الأحلام " لذاتِ الكاتب.

( 2 ) المقطع الثاني من الجزء الثالث من خاطرة نثريَّـة بعنوان " أبجديَّـة السَّـعير " لذات
الكاتب .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى