الأحد ٢٠ أيار (مايو) ٢٠٠٧
بقلم جميل حمداوي

المسرحية الأمازيغية "ثاسيرت"/الطاحونة"

عرضت المسرحية" ثاسيرت/ الطاحونة" لمسرح أپوليوس بالناظور في 13 ماي 2007م ضمن المهرجان الاحترافي الثاني للمسرح الأمازيغي للدار البيضاء. والمسرحية من إخراج حاتم الصديق الصديقي وتأليف الكاتب والروائي الأمازيغي الكبير بوزكو محمد. وقد شارك في تمثيلها كل من سعيد المرسي ورشيد معطوك وحياة النجمي ورشيد عثماني ومحمد بومكوسي وحياة عيفار وثازيري. إذا، ماهي القضايا الدلالية والفنية التي تطرحها هذه المسرحية؟

تطرح مسرحية " ثاسيرت/ الطاحونة" لمحمد بوزكو سؤالا جوهريا يتعلق بإشكالية الهوية والانتماء الوجودي، ويتمثل السؤال في: " من نحن؟". ويعني هذا أن المسرحية تشتغل على الذاكرة المنسية والمستنسخات النصية واستنطاق تاريخ تامازغا واستدعاء الشخصيات الأمازيغية القديمة والحديثة في سياق رمزي وتاريخي يحيل على ثراء التراث والحضارة والثقافة للسلالة الأمازيغية في شمال أفريقيا.

ويشير النص في حمولاته الرمزية ومقصدياته الدلالية و أبعاده السيميائية إلى الحرب الكيماوية التي شنتها العصابة الأورپية الاستعمارية على منطقة الريف ظلما وغطرسة وطمعا في ثروات الأرض الدفينة وممتلكات الريفيين المسالمين ، علما أن المسرحية كتبت بأمازيغية الريف بطريقة شاعرية رائعة أهلت صاحبها محمد بوزكو ليحتل المراتب الأولى في مجال الـتأليف وكتابة النصوص الإبداعية المسرحية في منطقة الريف إلى جانب محمد الزياني ومحمد العوفي وأحمد زاهد وفؤاد أزروال... ويحصد بكل جدارة واستحقاق الجائزة الأولى في التأليف في المهرجان الأمازيغي الاحترافي بالدار البيضاء؛ لكون نصه أحسن نص مسرحي أمازيغي في إقصائيات المهرجان، ويتبعه نص أحمد زاهد بنصه " ثمورغي/الجراد" الذي كتبه بطريقة نثرية إخبارية رمزية لايقل قيمة عن النص الأول. إلا أن نص محمد بوزكو يبقى نصا ثريا بالوظيفة الشعرية وغنيا بالصور الفنية والملامح البلاغية والإيقاعية والأمثال والحكم والعبارات المسكوكة والإحالات التاريخية والتراثية والتي تسمو بنص محمد بوزكو وترفعه إلى قمة الإبداع المسرحي الأمازيغي.

هذا، وتجسد لنا المسرحية شخصية "أرياز/الرجل الأمازيغي الحكيم" الذي سيعود من أقصى التاريخ والذاكرة المنسية حاملا طاحونته الصغيرة باحثا عبر الأزمنة والأجيال عمن يطحن القمح في طاحونته وينتقل عبر العصور حتى يصل إلى عصرنا الحالي ليجد أشكالا بشرية ممسوخة مغتربة مستلبة عاجزة عن الطحن ساخرة بتاريخها الموغل في التلادة،رافضة لهويتها العميقة الجذور في الأصالة. ويعجز أرياز عن إقناع الشباب الأمازيغي المعاصر بأهمية الطاحونة وقيمتها في توفير الطعام وتحقيق الكينونة الحقيقية والوجود الأمازيغي الحق.

وعليه، فالطاحونة ترمز إلى الهوية والأصالة، فتضييع الطاحونة والإفراط فيها يعني تضييع الهوية والذاكرة والتقاليد الموروثة. وهكذا يجد أرياز نفسه إما بين شبان ضائعين بين المخدرات والصعلكة وإما مغتربين مستلبين وإما مثقفين عاطلين. أما الشابات الأمازيغيات فهن منساقات وراء الموضات الغربية المتنوعة، منسلخات عن أزيائها الأصيلة وذاكرتها الحقيقية التي تفرّدها بالخصوصية والوجود الكينوني. ومن ثم، يستنكر أرياز بكل استهجان مقيت ذلك الاغتراب الذاتي والمكاني المهول ، وذلك التفريط في مقومات الهوية والحضارة الأمازيغية، والدوس بكل وقاحة وسخرية على حضارة الأسلاف والأجداد.

وينتقد المؤلف في مسرحيته الرمزية الواقع المغربي بصفة عامة والأمازيغي بصفة خاصة، ويشير إلى الفقر والبطالة والتهميش والإقصاء والمخدرات والهجرة السرية وضياع الشباب الذين فرطوا في طاحونتهم وباعوها للأجانب، لذلك سيرسل أرياز شخصيتين متناقضتين إلى الضفة الأخرى للبحث عنها. ولكن هناك شخص ساذج سيستغل الموقف ليعبر البحر هاربا إلى الضفة المقابلة سعيا وراء تحقيق أحلامه الواهمة وخدمة مصالحه الشخصية، على عكس مقابله المثقف المتنور الذي سيغرق في أعماق البحر بحثا عن الطاحونة/ الهوية، ولكن بدون هدف ولا جدوى.

إن نص " ثاسيرت/ الطاحونة" لمحمد بوزكو بكل موضوعية ومسؤولية نقدية هو أحسن نص درامي بدون منازع في مهرجان تافوكت بالدار البيضاء لموسم 2007م بسبب شاعريته ولغته المنقحة الصافية ودسامة علاماته التناصية وإشاراته الرمزية. وعندما منحناه الرتبة الأولى مناصفة مع الكاتب المقتدر أحمد زاهد - علما أنني كنت من أعضاء لجنة التحكيم- فذلك تشجيعا للكتابة المسرحية الأمازيغية الريفية، وتبجيلا لأصحابها المبدعين الذين رفعوا المسرح الريفي إلى أسمى الرتب العالية، وكذلك تنويها بالكاتب أحمد زاهد الذي كتب الكثير من النصوص المسرحية منذ التسعينيات، وبذلك يستحق منا كل تكريم وتقدير إذا وسّعنا صدورنا جيدا وملأنا قلوبنا بالمحبة والصفاء ،وجعلنا خدمة المسرح الأمازيغي الريفي فوق طموحاتنا الشخصية الضيقة. لذلك ندرج هذا النص المسرحي المتميز الذي ألفه محمد بوزكو ضمن إنتاجات مرحلة المسرح الأمازيغي الناضج في دراميته وتمسرحه، كما يحمل هذا النص الممتع طابعا رمزيا وذهنيا وتاريخيا في بعده الحضاري والمعرفي.

وإذا كان الصراع الدرامي في المسرحية يتمثل في الحفاظ على الهوية الأمازيغية والتفريط فيها، فإن الممثلين قاموا بأدوارهم على أحسن مايرام وحسب طاقاتهم وإمكانياتهم الجسدية والمعرفية والتدريبية. ولكن يبقى سعيد المرسي أحسن ممثل في مدينة الناظور إلى جانب فاروق أزنابط ورشيد معطوك ومصطفى بنعلال ونسيم الماحي وطارق عاطفي …

هذا، وقد برز في مسرحية "ثاسيرت/ الطاحونة" كل من سعيد المرسي إلى جانب رشيد معطوك بأدائهما الرائع الذي يدل على مقدرتهما في مجال التمثيل وكفاءتهما في تطويع المسرح لصالحهما.

وقد شغّل المخرج القدير حاتم الصديق الصديقي سينوغرافية ميكانيكية تتجلى في استخدام طاحونة كبيرة ذات عجلات تحيل رمزيا على الهوية والكينونة الأمازيغية. وكادت المسرحية أن تحصد جائزة السينوغرافيا في مهرجان تافوكت للمسرح الامازيغي الاحترافي سنة 2007م. بيد أن اللجنة اختارت سينوغرافيا مسرح الصالون لمسرحية "تاكورضي نبنادم/ الرجل الطامع" لفرقة إصوابن للمسرح بالرباط ، نظرا لكثرة الجوائز التي حصدتها مسرحيات منطقة الريف ( خمس جوائز من ستة أنواع و من عشر جوائز فردية وجماعية) بالمقارنة مع المسرحين: السوسي والشلحي.
وعلى الرغم من هذا الاختيار الذي اختلفت حوله لحنة التحكيم ، فتبقى سينوغرافيا مسرحية "ثاسيرت" أحسن سينوغرافيا في مهرجان تافوكت في نسخته الثانية إلى جانب سينوغرافيا مسرحية" أزكاز إزنزن تفوكت/ الرجل الذي باع الشمس"لفرقة مسرح نون بالخميسات.

وعلى الرغم من هذه السينوغرافيا الميكانيكية الضخمة الوظيفية الموحية، فإننا نلاحظ أن الطاحونة أصبحت عائقا في وسط الخشبة كانت تمنع الممثلين من التحرك بشكل سهل ومرن فوق خشبة الركح. بل كانت الطاحونة تتوقف في كثير من الأحيان عن السير والدوران، مما دفع الممثلين للتخلي عنها بسرعة عن طريق تفكيكها بعد عسر وشقاء.

وإذا كان توظيف الديكور والموسيقا الشعبية الأمازيغية والإضاءة توظيفا عاديا جدا على مستوى التشغيل والممارسة التقنية والإخراجية، فإن توظيف الملابس والأزياء كان توظيفا مناسبا ومنسجما مع النص المسرحي المقدم.

وخلاصة القول: إن عرض " ثاسيرت/ الطاحونة" عرض سينوغرافي جميل ومثير بحواره الأدبي السامي، ولكن كان يفتقر إلى المتعة البصرية والتشكيل البصري والغنائي بسبب هيمنة الحوار على الفرجة الجمالية وكثرة الرتابة الناتجة عن الفراغ النسبي بين المشاهد الدرامية والاستطراد المتنامي في التواصل اللفظي الذي يذكرنا بجدلية التوليد الحواري السقراطي الذي وجدناه أيضا عند فرقة أسايس ن إمال في عرضها المعنون بـــ" في انتظار غودو"، وهي من إخراج المبدع الأمازيغي مصطفى حمير. إلا أن النص الدرامي الذي ألفه الكاتب المتميز محمد بوزكو ، والتشخيص الذي قدمه كل من الممثلين المقتدرين الناجحين: سعيد المرسي ورشيد معطوك، عوضا كل الخصاص الفني والتقني والجمالي الذي كان يعاني منه العرض دراميا وركحيا، واستطاع العرض- بالتالي- أن يجذب إليه الجمهور بكل فئاته الراصدة على الرغم من رمزية اللغة المسرحية وانزياحها الأدبي والتعبيري.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى