الخميس ٢٤ أيار (مايو) ٢٠٠٧
بقلم سمية البوغافرية

شاب من زمن العولمة

سحبت نفسي من فراشي وجسدي مدكوك من الأرق. أرق تعاقد معي مذ اللحظة التي حزمت فيها أوراقي وعزمت على ولوج سوق العمل. ولولا الفكرة التي برقت في ذهني فجأة، لاندسست في فراشي أقتنص سكرة النوم ولن أبرحه حتى الظفر.. أجل، لن أبرحه حتى أظفر بغفوة تسرقني من هم السهر ومن انكسارات النهار...

لكن ها أنا كعادتي كلما بزغ لي بصيص أمل في الأفق، أتصدى لجبروت شبح الليل بكل أسلحتي.. أمزق غشاء سجني.. أنتفض.. ألم ما استطعت من شتاتي.. أحزم أمتعتي وأمضي.. أمضي لمعانقة شبح النهار بأسلحة مهترئة تزداد مع الأيام اهتراء.. أمضي في أي اتجاه.. في كل اتجاه. أطرق أي باب.. كل باب... فأعود متخما بالانتكاسات والاستفزازات.. أعود إلى محطة الانطلاق.. إلى فراشي.. إلى مأوى الأشباح.. إلى مسكن الأرق.. إلى بؤرة الاختناق...

اليوم، شعلة الأمل سطعت في أعماقي، أضاءت جزءا من ليلي وأنارت الوجود حولي.. أحس أن شخصا آخر زرع في كياني.. شخص آخر لا عهد لي به.. نشيط سليم حر.. ما أجمل أن يعانق المرء الشباب والأنوار حوله!.. ما أروع هذا!.. سأسعى لأول مرة بعد التخرج نحو النور.. سأغنم من عزم اليوم ما أضاعته مني السنوات العجاف. علي إذن، أن أتحرك.. علي أن أعجل بضخ هذا الأمل في صميمي أخي التوأم جميل وأخي وسيم الذي بلغ به اليأس ذروته رغم أنه أصغر منا.. مناعته إزاء حقن الشلل هشة تزيدها الأيام هشاشة.. سأوقظ فيهما الثقة بالنفس والثقة بأن جذوة الخير لا يخلو منها زمن.

كذلك عزم علي فأقدم دون تردد.. وكيف يتردد والحسرة عن السنوات السبع العجاف التي مضت من عمره هباء، تجلده، تحرقه، تعصره، تخنقه، تلوكه، تبتلعه وتلفظه غبارا في كل حين.. اقتحم على أخويه غرفتهما وهزهما بنشوة بريق الأمل الذي ينبض في داخله.. حدقا فيه بوجهيهما المتقلصين، وعيونهما المتقدة غضبا تخاطبه بيأس مرير: ماذا غنمناه من سعي النهار حتى تنط لنا كما الجن في هذه الساعة؟ هدأهما علي بيديه ثم استعجلهما قائلا وبسمة الأمل تختم شفتيه:
 علينا أن نقل أول حافلة نحو قرية بوحمزة،

برقت قرية بوحمزة في ذهن جميل .. تلألأ نجم صديقه عبد الرزاق في سمائها وسطع في مخيلته.. تدفق الدم في شرايينه.. احتواه الشوق لمعانقته ومعانقة إنجازاته.. امتلأ صدره بنظم شعرية تثني بعبقريته وبعد نظره.. أخبر أخاه وسيم بأبعاد عزم اليوم.. تفتحت القلوب تستقبل أولى نسمات النجاة من غرق محقق.. سطع بريق الارتياح في العيون.. تهاطلت قبلات الامتنان على علي.. تعانقوا يعانقون بشائر عهد جديد.. تهافتت أنفسهم تستعجل الانطلاق.. تسابقوا مع شروق الشمس.. تعاهدوا بروح الشباب المتيقظ بألا تشرق شمس يومهم إلا لتؤرخ ميلاد يوم جديد وميلاد عهد جديد...

في الطريق إلى بوحمزة، قال وسيم الذي لم يمض على تخرجه من كلية الطب البيطري غير سنتين وبضعة أشهر لكن مناعته إزاء التعطيل هشة هشاشة أفقدته القدرة على المقاومة:
ـ المدينة لم تعد تتحملنا لقد ضاقت بنا وبشواهدنا.. الزحام على لقمة العيش بلغ ذروته حيث ألقيت يدك تسحبها فارغة أو مقصوصة.. الزحام حتى على مهنة النبش في القمامة.. ملعونة مدينتنا.. ملعونة الأرض التي لا تمطر سماءها..مرحى بالريف.. مرحى بالزمن الخصب والأرض الخصبة.. مرحى بالزمن والأرض التي تحتفي بالشواهد والسواعد.. مرحى بالأرض التي تثمر.. مرحى مرحى...
ـ لا شك أن شواهدنا في الريف ستثمر وسواعدنا ستتحرر.. وحبيبنا عبد الرزاق سيأخذ بيدنا ويهون علينا ما استعصى علينا.. حنكته الخرافية في تدبير أمور حياته كفيلة بأن تبدد كل العراقيل التي قد تقف أمامنا.. نحن نعرفه.. ربما علم بضعفنا وتنحى عن عمله لصالح أحدنا. أليست هذه عادته وهو ضائق اليد؟ ( قال جميل)
 حقا، حقا.. فأمثاله لما يوسع الله عليهم أبواب الرزق يمدون يد العون ويغدقون العطاء.. وإذا أعطوا أغنوا وإذا نصحوا ضحوا...( قال علي)
 شغفت بلقاء صديقكما عبد الرزاق..(قال وسيم)
 عبد الرزاق شخص من طينة خاصة.. يده دائما معطاءة ممدودة رغم ضيقها.. فلولا الدموع التي رأيتها في عينيه ليلة عودته إلى الحي الجامعي عاريا لتخيلته لا يبكي، وأن الظروف مهما بلغت حدتها لا يحس بقرصتها..
ضحك علي وهو يستحضر المشهد في ذهنه فأضحك جميل فقال وسيم:
 وما يضحك في هذا.. حيرني أمركما.. صديقكما يبكي وأنتما تضحكان
 من البلاوي ما يضحك.. فهو في صراع مستمر مع العوز.. يهون عليه أن يبتر يده من أن يمدها لقبول نفحات الغير.. كابوس الحاجة جثم على صدره منذ صباه وأبى أن يرحل عنه.. (قال علي)
ـ الحياة لما تقسو تصنع المعجزات.. ذاق طعم اليتم قبل أن يستنشق نسيم الحياة.. قرصه الحرمان وعانقته قسوة الحياة قبل أن يقف على قدميه.. فسكن المرارة وسكنته حتى تشكل بها عوده فلم يعد يخشى شيئا غير أن يجد نفسه في أوج فترات العطاء يستيقظ لينام يلوك خيوط الحسرة على ما فات من عمره.. (قال جميل)
 ركب التحدي وسبح ضد تيار كابوس العالة والعوز.. لم يبدو له باب رزق إلا وطرقه.. ولولا ذلك اليوم الذي جرد فيه من ثيابه حينما قصد دور الدعارة والقمار لكسب مهارة في هذا أو ذاك ما أمضى عبد الرزاق ليلة في فراشه... ففي الوقت الذي نستمتع فيه بحياتنا على شواطئ البحر لنطرد كابوس الامتحانات أو نتجول في الشوارع لنقتنص بسمات من شفاه الحسناوات، تجده في الأسواق يتناقش مع هذا أو ذاك في تقنيات التجارة والحرف... أو يحمل البضائع كما البغل ويخزنها في الشاحنات تحت شواظ ألسنة الحرفيين ووابل اللطم والركل... ( قال علي)
 زمن العجائب والمصائب.. ذكرني أمره بالدكتور الحمال الذي يفتخر بنفسه.. ونهاية هذا الهبل؟..( قال وسيم)
 اضطلع بخبرة كبيرة في شتى الحرف.. الميكانيكا، الإسكافية، الحدادة، التجارة،النجارة، الطبخ....(قال جميل)
 لو لم أمنعه لجلب معه كلبه إلى الحي الجامعي ليرافقه في مغامراته الليلية.. كان يحسدنا على تواجدنا في المدينة لأننا ولدنا وسط زخم من الحرف، وفي الآن ذاته كان يتحسر على أمرنا حينما يرى أحدنا يدس زر قميصه في جيبه لتلصقه له أمه متى عاد إلى البيت، أو يرى سيور أحذيتنه قد تمزقت أطرافها ولم يبادر إلى إصلاحها.
 كم كان يحذرنا من عاقبة إلقائنا بكل ثقل الدهر على شواهدنا العلمية وما قد تدره علينا من وظائف ومناصب راقية. أتذكر يا جميل قوله... إياكم وإياكم من عاقبة وضع كل البيض في سلة واحدة... حالكم يخنقني يا أهل الكهف.. متى ستستيقظون؟ أتنتظرون حتى تقعوا في خندق إخوانكم المعطلين ثم تحتجون وتنددون وتعتصمون.. لن تقطفوا ثمارا ألذ من ثمارهم..(قال علي)
 عن أي ثمار يتحدث ؟(قال وسيم)
 الهراوة وما شابهها..
 ما أوسع بعد نظره.. خطابه ما يزال يطرق جمجمتي ويشعل في كياني التمرد والرغبة في إعادة ترتيب أوراقي.. علينا أن نستفيد من حال المعطلين الباكين الشاكين.. علينا أن نعد العدة للغد الشبح وألا نرهن بكل ثقلنا على شواهدنا.. علينا أن نسلك كل سبل النجاح فإذا فلت من أيدينا حبل مسكنا بآخر وسفينتنا تمخر بنا إلى بر الأمان.. فالحياة معترك وما يكسبه المرء منها لا يقدر بثمن.. أنتم لا تدرون نشوة نحت الحجر بالأظافر ولم تذوقوا متعة الراحة بعد التعب ونشوة التحصيل الحرفي.. الحرفة في اليد لها نكهة خاصة.. المصاعب، التي تتخوفون متى واجهتموها وقهرتموها أكسبتكم نشوة السعادة، وصلابة الحجر، وثقة في النفس... عليكم أن تتحدوا وضعكم وأن تنتفضوا على دلالكم وتثوروا على نومكم.. استيقظوا يا أهل الكهف.. فسعادة النفس بنيل الصعب وطرق المستحيل وليس بالجلوس على الكراسي المتحركة وإمضاء الأوراق...(قال جميل)
 صديقكم هذا مجنون وكان يطالبكم بالمستحيل...(قال وسيم)
 ذات الكلام كنا نقوله له يومه فيرمي في وجهنا لما يرى تعسر هضمنا لما يدعونا إليه.. أتمنى أن يكون غدكم أفضل من يوم إخوانكم الذين يصارعون أمواج المحنة بمجاديف معطوبة ونلتم ما ترغبون باليسر الذي عاهدتم...

غمغم الأخوين بحسرة وهما يغادران الحافلة... اليوم سترى حالنا يا صديقنا.. حال وما أدراك ما حال..

غنى وسيم على نغمات آهاته وهو يتأمل تضاريس العالم الجديد.. الرأس والفكرة محور تحول كل شيء.. العلماء يقودون ولا يقادون.. هم يشيرون والآخرون ينفذون والقاطرة تسير.. تعلموا وتحصنوا من الزمن بالشواهد.. الشواهد سواعد الغد ستحصنكم من الشحطة وستغنيكم عن مزاحمة أصحاب الحرف الصغيرة.. غدا ستجنون الثمار وتتلمسوا نتاج سنوات جهدكم، وتحققون لأسركم قليلا من الرخاء والرفاهية التي طالما ضحت بها من أجلكم.. صدح كما الملسوع:
 لم أتخيل أبدا أن يصل بنا الحال في هذا العمر إلى حد تسول المصروف من أهلنا لنحلق رؤوسنا وذقوننا..
فاض فو جميل بضحك الحنق وأضاف متذمرا:
 والله لولا المضايقات وسلسلة التحقيقات التي لا تنتهي ما مددت يوما يدي إلى حلق لحيتي.
قاطعه وسيم:
 وأنا أيضا، لولا المطاردة الملعونة الأخيرة ما حلقت ذقني إلا وأنا خارج من مأزقي
تخيل جميل لحية أخيه تكنس الأرض وتعبث بها الفئران والصراصير فضحك يقول:
 لم أكن أرى فيك من الوسامة غير الاسم يا أخي الوسيــــــــــــم...
 لا تسرع في الحكم على أخيك. غدا يفرجها ربك وترى الوسامة تسطع من هذا الوجه الذي كدرته الحاجة والغموم.
 لا تيأسا على ما فات. بعد ساعات ستفرج إن شاء الله.(قال علي)

البيت في مقدمة الجبل.. المشوار طويل وحال البادية يزعزع صرح الأمل.. مضى الإخوة صامتين يبتلعون الضباب الزاحف إلى دواخلهم.. دفعوا بأنفسهم يطوون الربى ويصعدون إلى الجبل كما يدفع من تغمره المياه رأسه إلى أعلى أملا في نسمة هواء.. تهالكوا بعد ساعة من المشي والحبو والزحف في باحة جرداء كجثث لفظتها الأمواج ثم استأنفوا الطريق على هدي نور بدر زمانهم الذي بدا لهم لحظته، أكثر سطوعا من أي وقت مضى.. هو يستطيع أن يوفر قوت يومه من الرمال.. لن يقهره هذا الجفاف ولن يرده عائق على بلوغ هدف إذا نصبه أمام عينيه.. ألم يقهر الجهل وبلغ المدينة راجلا وهو حافي القدمين؟ ألم يتخرج معنا من كلية الهندسة الزراعية بتفوق يحسد عليه وهو يتيم ويمر بظروف لو مررنا ببعضها ما خرجنا منها إلا ونحن في مصحة الأمراض العقلية؟.. لقد أكسبه الزمن المناعة إزاء قسوة الحياة ووجد في أمه خير السند ونعم المثل في قهر مسلسل المحن..لا شك أن صديقنا قد استثمر هذا الخلاء ووظف مهاراته في مشروع ضخم قادر على امتصاص كل العاطلين من أصحابه.. لا شك أنه سيكون مشروعا ضخما ومتشعب الخدمات..

بلغ الإخوة بيت صديقهم على هدي نباح ميرو.. ذلك البيت الذي ميزوه عن باقي أشباه البيوت بمجرد ما وقع بصرهم على حمار أبيض ونعجتين وشجرة زيتون يحرسها هذا الكلب المربوط إليها والذي راح يهز الشجرة ويكاد أن يجتثها من جذورها كلما دنا الاخوة منه، فهز قلوبهم روعا ورعبا. وكيف لا ترتعد فرائسهم وتهتز قلوبهم في هذا الخلاء وأمام هذا الكلب الذي لم يرمقوا في طريقهم مخلوقا في حجم جسده وضخامته كأنه يقتات بأمثالهم من ضحايا الزمن؟!

طرقوا الباب.. هزوه هزا ، كمن يستجدي من خطر وشيك رغم أنه كان مفتوحا ولا سبيل إلى إغلاقه أبدا.. هزوه ثالثة ورابعة ليعتقوا أنفسهم من هيجان الكلب ومن الضباب العاصف... تنقلت عيونهم بين هياكل المخلوقات حولهم لتستقر جاحظة على القارب الصغير المنزوي بجانب نوالة على يسارهم.. قارب يحمل بصمات صديقهم ومجهز بكل المعدات.. تبادلوا نظرات حيرة ثم أجالوا بصرهم يستجلون الأمواج في عمق الصحراء..

التقطت عدساتهم امرأة تتمايل كأنها عربة تطفو فوق سطح مائي ومجرورة إلى أعلى بحبل سري.. رزم من الحطب تغطي شكلها المنجلي، رزمة ضخمة من الملابس المبلولة تفيض من فوق رأسها، يداها مثقلتان بإبريقين من الماء، فوها يخرسه حبل وقد التهم جزءا من خدها الأيمن ويشدها إلى الوراء بقوة تنال كل مرة من توازنها ومن رغبتها في التقدم. وفي كل مرة، ومع كل خطوة يظن الاخوة أنها ستتعثر وتنقلب على نفسها وتندثر فإذا بها تهزم ولا تنهزم.. وقفت أمامهم صامدة وحيتهم بابتسامة عريضة دفعت بها رغم الحبل الذي ما زال يخرسها... أدرك الإخوة بأنها أم صديقهم عبد الرزاق.. سيدة في الأربعينات لكن شكلها الذي نحتته المحن يوحي بشكل طفلة نحيفة في العاشرة من عمرها.. وجهها بشوش وعنوان للقناعة والرضى.. عيناها غائرتان حادتان يسطع من أديميهما الصافيين شعاع التحدي والتصدي...

غمغم الإخوة وعيونهم تشع بنظرات إعجاب وتقدير.. وراء كل رجل عظيم امرأة! وما أدراكم امرأة مثلها!

ما أسعد الأم بضيوفها!!! وما أوسع بحر الأمل الذي ضخوه في أعماقها!!.. استوقفت ضيوفها بلباقة عند القارب "النعش" وهي تقول لهم وعيناها تتنقلان بين الفأس والقارب العدو:
 ما أسعدني بكم يا أولادي! ساقتكم إلي ملائكة الرحمة.. ما أوسع رحمتك يا رب!.. ما ألطفك بعبادك!

ودت الأم لو يمد أحد ضيوفها يده إلى الفأس ويدك القارب.. كم مرة هرولت لتدكه بنفسها ولم تسعفها يديها.. فهي الأم التي لا تكسر رغبة لابنها.. تخففت من ثقلها ودعت ضيوفها بنبرة سارة إلى داخل البيت.. مضوا الإخوة إلى الخيمة في أقصى زاوية الفناء حيث أرشدتهم الأم.. امتصت الخيمة العجيبة جوارحهم وأججت فضولهم.. خيمة ببرادع مرقعة.. مددوا رؤوسهم إلى الداخل.. جحظت عيونهم على هيكل صديقهم الغارق كعادته في العمل وسط أدواته: كتب، دفاتر، قلم،خيط ، مخيط ، مقص وأشياء أخرى.. يداه مسرفتان في قص أوراق بدقة وعناية في حجم أوراق نقدية من فئة مائتي درهم. وقد انتهى من إعداد رزمتين تبدو في دقتها وضبط وزنها كأنها رزم من أوراق نقدية من فئة خمسين درهما وأخرى من فئة مائة درهما. رغبته في إعداد المزيد منها مستحوذة على جوارحه كأنه على موعد بتسليم دفعات منها.. كست ظلال أصدقائه هيكله الذي بلغت به النحافة مبلغها ولم يبادر برفع رأسه حتى همس علي في أذنه ضاحكا له:
ـ ما هذه الرزم يا عبد الرزاق؟ أمشروعا تريد أن تزاحم به زمرة المحظوظين في هذه البلاد؟

نط عبد الرزاق من مكانه وعانق أصدقاءه بحرارة الشوق التي فاض به صدره ودعاهم بعينين مغرورقتين إلى الجلوس على جلدة الخروف التي كان يجلس عليها ليغرق من جديد في عمله. بدا للإخوة أنه يخفي في عمله، لوعة لم تنجلي لهم طبيعتها ولا مصدرها بعد، ومع ذلك لم تتزعزع ثقتهم فيه في قهر المصاعب. بادره جميل بالقول:
 هل من مساعدة تودها يا السي عبد الرزاق؟
رفع عبد الرزاق رأسه يبتسم لأصدقائه المحيطين به ابتسامة متعثرة سرعان ما انمحى أثرها من على شفتيه كما أفل بريق الثقة في عينيه وقال ويداه مستمرتان في الترتيب وضبط المقاس:
ـ إذا رغبتم فاليتكفل أحدكم بضبط الوزن: سبع سنتيمترات في العرض وخمسة عشر منها في الطول، والآخر يتكفل بالقص لأرتبها هكذا في رزمة متى اطمأنت إلى حسن أدائكم.
انساق الأخوان وراءه كطفلين صغيرين امتصتهما نشوة تعلم قواعد لعبة جديدة:
قال جميل مسرورا وقد شرع في العمل:
 تخصيص العمل مبدأ مهم في الاقتصاد أليس كذلك يا عبد الرزاق؟
 أجل، أجل هو كذلك.
قاطعه علي مندهشا وهو يمد يده إلى إحدى الكتب:
 وكيف تجرؤ، يا عبد الرزاق، على قص كتبك ودفاترك هكذا...
 العلم في الصدور وليس في السطور.
فوخزه أخوه وسيم بطرف كتفه هامسا في أذنه:
 ماذا استفدناه من العلم ورزم الأوراق التي نشحن بها الرفوف؟ هيا قل لي...
أضاف علي متأزما مصدوما:
 وكم تحتاج من الرزم يا عبد الرزاق؟
فوخزه أخوه وسيم بطرف كتفه ثانية قائلا له بصيغة آمرة:
 اشرع في العمل إذا أردت، ودعنا من هذه الاستفسارات العقيمة، فكثرة الكلام تفسد الجودة ثم فالعمل في حد ذاته قيمة.. ألم تستنج هذا بعد؟ وإلا ما أتى بك هنا غير البحث عنه.

كبست الصدمة على فؤاد الأم ونطت عيناها من جحريهما وهي ترهف إليهم السمع من نافذة غرفتها المطلة على الفناء. قال عبد الرزاق مبتسما بعد ما اطمأن إلى عمل الأخوين:
 لا شيء يعادل العمل الجماعي.
قاطعه علي يبتلع الصدمة:
 ونحن ما حملنا على المجيء إلى هنا غير إيماننا المطلق بقيمة العمل الجماعي. ولكن هلا أفصحت لنا عن قيمة هذا العمل وجدواه؟
 لقد نبهني أحد زبائني حينما رآني أعد كما الأعمش دريهماتي التي كسبتها من ترقيع برادعه وقال لي: يا للمصيبة لما تكون من أصحاب الملايين! فلن يرهقك ـ يا السي عبد الرزاق ـ شيء مثل عدها. ولما سألته عن سبيل لتعلمها وإتقان عدها مثله أشار علي أن أعد رزما من الورق وأتدرب على عدها ثم سحب ـ حفظه الله ـ من جيبه رزمة من النقود ونصحني بأن أبلل بنصري وإبهامي وأحكم القبض على طرف الرزمة وأشرع في تطيير الأوراق بإتقان وفنية مثله.. لكني بعد يومين من التدرب أرى أصابعي ما تزال مشلولة إزاء عدها.
قاطعه وسيم الذي يريد أن يقحم نفسه في سوق العمل بشتى الطرق:
 لا تحمل لعدها هما، المهم أن تجري بين يديك ـ يا أخي ـ فنحن هنا بمثابة اخوتك الذين لم تلدهم لك أمك
 فالنتوكل على الله إذن،
 أجل، أجل
قال علي بنبرة ساخرة وهو ينظر إلى البرادع المتراصة بجانب صديقه:
 وعما العزم إن شاء الله يالسي عبد الرزاق؟..

التفت عبد الرزاق وراءه يستجلي ظل أمه ثم قال لأصدقائه بصوت خافت:
 سنركب البحر ونستثمر طاقاتنا ومهاراتنا في مشروع ضخم على الضفة الأخرى.
قال علي وهو يدوس على أعصابه ويكبح رغبته في القض على رقبة صديقه وعصرها بين يديه بقوة الصدمة التي اجتاحته:
 ماذا؟ أتدعونا إلى ركوب البحر على متن ذاك القارب؟.. أترغب في ركوب قارب الموت يا عبد الرزاق ؟ أتسعى إلى امتطاء نعشك بساقيك يا حكيم زمانه؟...

وبينما علي يهول الخطب في نظر صديقه ويحذره من عاقبة الاندفاع والطيش كان أخواه قد انتشيا بعرض صديقهما.. يرقصان .. يحلقان في العالي.. يعانقان الأحلام على إيقاع ما أعده بدر الزمان من الدهاء والضياء.. فوجد علي نفسه وحيدا يغني لحياة الضنك.. يناجي المنطق والعقل وأمواج الواقع تصفعه وتصرعه.. جذب إليه أخويه، اللذين خدرهما العرض كأن ليس هناك بوابة لعتق الشباب غيره فزمجرا ورمياه بشباك الواقع قائلين:
 وهل رأيت الشمس بأيماننا والقمر بشمائلنا فعدلنا عنهما ببحر الظلام؟.
 أنتم تبدلون الظلام بما أحلك منه.
 لا نبتغي من عزمنا غير النور.. غير النجاة من بحر الظلمات الذي لبسنا واكتوت به جلودنا وصبغت به أنفسنا حتى صرنا كتلا من الظلام تتحرك...

بسرعة البرق هدأت عاصفة الحكيم المحتار، ووجد نفسه في القارب يرقص مع السرب بجناحيه للعهد الجديد.. عهد الشباب والأحلام.. عهد الضياء والنور.. ثمل الشبان بعتق الشباب وتناغمت ضحكاتهم مع زقازيق العصافير.. على حين غفلة منهم داهمهم، من الخلف، موج صاخب مرعب هد صرحهم وشتت مجمعهم وألقى قاربهم في بحر الهول والرعب كأن قنبلة موقوتة غرست وسطهم وانفجرت فجأة. التصقوا بالجدران مستسلمين للقدر وهم يعقبون مسار الأم المصدومة التي اندفعت من باب غرفتها كما الموج الصاخب تولول وتزمجر:
 تبا لكم ولزمانكم.. ميرو أولى بلحمكم من الحيتان.. ليلتهمكم جميعا...

ارتجف علي كمن يصارع سكرة الموت وانقض على يدي أخويه يجرهما وراءه وهو يقول وعيناه ترصدان برعب يدي الأم المشتعلتين بفك رباط الكلب وتهييجه بضربات في الخلف:
 علينا أن ننجوا بجلودنا فعضة البطالة تشل ولا تقتل!...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى