الاثنين ٢٨ أيار (مايو) ٢٠٠٧
مقاربات نحو رواية عزمي بشارة
بقلم إلياس عطا الله

حبّ في منطقة الظلّ

اجتيازات شرعيّة لحاجز غير شرعيّ

1- الاجتياز الأوّل للحاجز

بعد "الحاجز"، جاءت رواية عزمي بشارة " حبّ في منطقة الظلّ" سِفرَ خروج من الحاجز، ذلك الحاجز الذي بأّر حياة الفلسطيني وشظّاها في آن، بأّر المكان والزمان وشظّاهما في آن، ولم يفلح الكاتب، كشعبه، في تجاوز الحاجز، الذي عشّش فيه، ولاحقه حيث حلّ، وكتب له أجِندة تنفُّسِهِ. وإن كان الكاتب في روايته الثّانية قد تجاوز الحاجز أو هزمه، فإنّه حمل معه من الحاجز عقابيل دائه المتجسّدةَ بالظّلال، ظلال تستحضر أوفيد والعهد القديم متمثّلَين بمسخ الكائنات وسفر التّكوين، والحاجز في المستحضَرَينِ ربُّ الصّباؤوت أو ربّ الأرباب، يصوغ الأشياء كما يشاء، ولا رادَّ لمشيئته، ظلالٌ وُلِدتْ ظلالا قبل الحاجز، وأخرى، كانت الظلّيّة هاجعةً فيها، وجاء الحاجز فتململت، وفقست لها ظلالا، أرادت أن تربو وتتكاثر لتملأ مناطق الحاجز الفاعل، ومناطق المفعول الحاجزيّ، نزولا عند ما أمر به الربّ بملءِ الأرض الخربة الخاوية، وأن تمتثل إلى مشيئته؛ " أثمروا واكثُروا واملأوا الأرضَ وأخضِعوها وتسلّطوا على سمك البحر وعلى طير السّماء وعلى كلّ حيوان يدبّ على الأرض..."، ورأى الله أنّ ما عمله حسَنٌ، فكان ملءٌ للأرض. وكان إخضاعٌ. وكان تسلّط. وحملت الحيوان دلالتها المعجميّة كاملة، وكان مساءٌ. وكان مساء آخر... ولم يأت يوم سابع، فلا هو سبتَ، ولا هم سبتوا... وصار دخولٌ في سبات عميق.

ليس باليسير اجتيازُ الحاجز " المحسوم"، فقد تغلغل فينا، وانتقل إلى لغة أهلنا في الضفّة والقطاع، الذين طوّعوه لقوالب العربيّة وجعلوه على زنة مفعول مفردا، وعلى مفاعيل جمعا " محاسيم"، وهذه الكلمة سيّئة الأصل ليست عبريّة بامتياز لغةً، ولكنّها عبريّة حصريّا بالتنفيذ؛ هي ساميّة، يلتقي معها الأثل العربيّ " حسم" في كلّ دلالاته الآثمة: بدءا بدلالة القطع والمنع والحرمان، مرورا بقطع اللبن عن الرضيع، وانتهاء بدلالة الشرّ التي جاءت في التنزيل العزيز: ﴿ سَخَّرَها عليهم سبعَ ليالٍ وثمانيةَ أَيامٍ حُسوماً﴾... وها هي العربيّة تصف فعلة الحاجز قبل أن يصير كابوس الفلسطينيّ، ولن يزول إلا بالاستئصال، والاستئصال من معاني الحسم أيضا... أوَلا تكفي المحسوم دلالات المنع وتقطيع الأوصال والتشتيت والتجويع والشرّ هذه ليظلّ الفلسطينيّ " ينعم" في أجواء نكبته؟

2- الاجتياز الثّاني

بنية الرواية وأهميّتها عربيّا وفلسطينيّا

تُحدَّد عناصر أو مقوّمات الرواية بين أهل الأكاديميا والنقد الأكاديمي- في بلادي على وجه التحديد، وفي نظريّات بعض النقّاد - وفقا لمعايير تليق بمبحث التمييز ( تمييز المقادير) في النحو العربيّ، أو وفق وصفات الطبخ ( كميّة المقادير)، وعلى هذه المعايير المختلف فيها تصنّف أنواع الرواية، ويفترض النَّقَدة أن تشتمل الرواية على دعائم يسمونها:

" حدث". " تصوير المجتمع". " تصوير العالم الخارجيّ". " أفكار". " أهداف". " نقد". " العنصر الشّاعري". " اللغة"... عناصر قد تجدها في رواية ما، ولكنّها قد تختصّ بنوع الرواية، فيما لا تحتاج بعض الروايات إليها رزمة واحدة، وعليه، أوجدوا معايير لكلّ نوع روائيّ: الرواية التاريخيّة. الرواية البوليسيّة التحقيقيّة. الرواية التعليميّة. رواية الرّعب. الرواية السياسيّة. الرواية العاطفيّة. الرواية المحليّة. الرواية الإقليميّة الرواية التصوّريّة. الرواية المقنّعة . الرواية النفسيّة. الرواية النهر/ المتدفّقة/ السيّالة وحول هذه الجداول الرياضيّة النظميّة التمييزيّة تنبني الأحكام النقديّة الأكاديميّة، ويُفرد القمح عن الزؤان، وفي هذه المعادلات والجداول يُمتحن الطلبة، ويحترف بعضهم النقد لاحقا، إلا أولائك الذين يصبحون نقّادا بعد المحاضرة الأولى... وما أكثرهم!

عن أيّ رواية نتحدّث و" حبّ في منطقة الظلّ" بين أيدينا، أو فلنقل ونحن بين يديها؟ وأين تتموضع روايتنا بين هذا الحشد؟ ولنا أن نسأل: هل من جنس روائيّ يجب الجثوُّ عند قدميه ومحاكاتُه؟ لنتخيّل أنّ روائيّي العالم وقفوا عند رواية مدام لا فاييت " أميرة كليف المكتوبة عام 1678، أو عند دون كيخوتِه لسيرفانتس- منذ مطلع القرن السابع عشر، أو عند زينب لمحمد حسين هيكل ( 1914)، أو حتّى عند ثلاثيّة نجيب محفوظ النوبليّة( 1956- 1957)... حقيقة الوقوف عند هذه الأَوّليّات/ الأُولَيات أو " الإبداعات" تجعلنا أسرى حاجز ولد قبل دولة الحاجز الفاعلة غير التاركة. وحقيقة الانجماد عند هذه الإبداعات كحقيقة أن نتوقّف عند هندسة الشعر العربيّ في عصر الباروديّ، هندسة البناء المقيس بالمسطرة طولا وعرضا وصوتا، وهندسة العمارة وما يخاصرها من المنمنمات التي يفتّح تناغمها وتضادّها مصاريع الأبيات والأغراض لا أبواب الجمال... أعجبُ وقد مارسنا كرما دونه حاتم بقبول ثورة النواسيّ والموشّح وقصيدة التفعيلة، وقصيدة النثر، على هيكليّة القصيدة الأعرابيّة والعربيّة وحشوتها، وأعجبُ وقد قبلنا بحلم دونه قيس بن عاصم المنقريّ القصةَ القصيرة والقصيرة جدّا وتلك القزم جدّا جدّا، أعجب؛ لمَ ننظر بدهشة إلى الخروج عن المألوف في موضوعة الرواية؟ ألفلسطينيّتها؟ أم لأنّ الحواجز تعشّش فينا؟ أم لأنّ وقاحة الخروج لا تشرعَن وترقى إلى الصدق والإبداع والفضيلة إلاّ بعد عقود؟

لم يكن الحوار- والذي سنعود إليه لاحقا- ممّا يعوّل عليه في الرواية بمقاديرها الموصوفة. رأيناه- أي الحوار- يؤسّس لأسلوبيّة المسرحيّة، ويطلّ هنا وهناك في القصّة بمقاييسها، أمّا في الشعر، فإنّه يظهر بخفر وعلى ندرة، ولذا تعدّدت أسماؤه عند المختصّين قي صنعتي الشعر والبلاغة، وإن ارتاح عدد منهم إلى تسميته ترجيعا ومراجعة، وآخرون إلى القول بالموجب، وغيرهم إلى الأسلوب الحكيم وإلى المغالطة، على اختلاف وتعدّد دلالات هذه المصطلحات.
قد يكون الحوار بطلَ الأسلوب في رواية عزمي بشارة، وهو بطل غير مألوف بهذه الكثافة النوعيّة والكمّيّة في هذا الجنس الأدبيّ، ولعلّ تقنيّة التشات فرضته سيّدا، أو لعل عُمَرَ الواحدَ الموزَّعَ في اثنين جعله ضربا من المناجاة المنشطرة... وقد يكون الكاتب متأثرا بمنهج دوستيفسكي، فهذا المنفتح على تعدّد الشخصيّات وإتاحة الفرصة أمامها للحديث، جعل رواياته، كما يرى باختين، ذاتَ سمة حواريّة أو متعدّدةَ الأصوات . لن أعجّل في جعل" حبّ في منطقة الظلّ" رواية متعدّدة الأصوات، فالقراءة المتأنّية تدفع إلى الاختزال الصوتيّ، وإلى محوريّة الكاتب، إذ سرعان ما تقف عند ثنائيّة الصوت المتمثّلة بالحوار بين عمر ودنيا، وقد ترى أنّ الحقيقة هي وجود أحاديّة صوت ، فدنيا هي عمَرُ الحامل لوظائف أخرى.

لم يكن الحوار وحده، عند بشارة، هو الخارج عن المألوف، إذ تأبّطَ لغةً تليق به، هي مزيج بين الفصيح والمحكيّ والعامّيّ وغير العربيّ كليّا، وكأنّي بالكاتب يُسَيْنِمَ ( من السينما) روايته أو يمسرحها، ولا إخال السينما أو المسرح قادرَين- على إمكاناتهما- على التعامل مع كثافة هذا النصّ الحواريّ، المقطوع بالسرديّة بشكل فجائيّ. أمّا أن يكون الحاجز الموظّف للتشظية والتفتيت والإبعاد لاطئا وراء اللجوء إلى الحوار، فأترك أمره للكاتب والقارئ.
هذه الرواية الفلسطينيّة... إبداعة مفصليّة في تاريخ الرواية العربيّة عامّة، وإن كان الروائيّ الفلسطينيّ( عزمي بشارة) يستحضر الزمن الجميل بحنينيّة وشغف طاغيَين، فإنّ الكريه القائم هو الفاعل، أو فلنقل من باب التعميم إنّ عودتنا إلى الجميل شرطُ تنفّس وتنفيس في عصر استشراء القبيح... ولا أصدقَ من فلسطينيّ يتحدّث عن القبح المطلق! أعجب- وقد تابعت ما كُتب عن الرواية- من أنّ الذين تناولوها ليسوا من نقّاد الداخل، رغم أنّ عددا من الباحثين والأدباء -هنا- كتب عنها، وعلى جليل أو جميل عمل هؤلاء، تظلّ دراسة الدكتور فيصل درّاج الفلسطينيّ- وليسكن حيث شاء- الأشمل والأعمق (الكابوس الفلسطينيّ في بلاد الحواجز؛ بشارة في " حبّ في منطقة الظلّ". صحيفة الدستور الأردنيّة، الجمعة 02- 12- 2005). ولئلا نقع في الخطإ أو الخطيئة، ولئلا نقول شططا، نفترض أن يكون مردّ العزوف إلى كون الرواية مرهقة، لا في لغتها، بل في كمّ الموضوعات المضغوطة المكثّفة فيها، المنقولة بأسلوب حواريّ يقطعه السرد- تماما كما لو كان الحوار يمثّل فرح الفلسطينيّي وبَوْحَه وحبّه ووصاله وتنفّسه وفشّة خلقه أو إفلاتته من الحاجز وأهله، والسرد الممثّل للواقع بأوزاره، يندسّ ضربا من الحاجز ليقمع حتى فرحة الحوار الحُلميّة المختلسة-، وفي أنّ قارئها مضطرّ إلى أن يقطع الاسترسال مع النفَس الروائيّ ليتوقّف عند فيض من القضايا الفلسفيّة الفكريّة، ليعود إلى القراءة التي ستُقطع مع صفنة تتربّص به. هذه الرواية لا تُقرأ بالعاطفة- رغم أنّها تضجّ بها- بل تقرأ بالقلب والعقل معا، وهذا سرّ الإرهاق فيها. ودفعا للظلم لي- ولست بالإخصائيّ في هذا المجال- وللآخرين المختصّين بالنقد الأدبيّ، أقول إنّ" حبّ في منطقة الظلّ" لا تتناولها إلا دراسة/ رسالة بحث أكاديميّة، أمّا ما نكتبه في حدود وسائل الإعلام فيظل مبتورا، غير منصف للناقد وللرواية وصاحبها معا، ويقتصر على جانب واحد من جوانبها.

ليس بشارة أوّل فلسطينيّ يخوض تجربة الرواية، فقد سبقه الكثيرون، ولكن الجديد في روايته أنّه تجاوز أو اجتاز النكبةَ الجسدَ بأحداثها وإسقاطاتها المرئيّة المعيشة التي تناولها الروائيّون السابقون؛ الرحيل/ الهجيج/ الكبّ على الحدود/ التشرّد، التدمير والذبح، صور قوافل النازحين المقتلعين الحاملين لكواشين الملكيّة في عبّ القمباز، وما تيسّر حمله من أثاث وفِراش البيوت الثكلى ومفاتيحها، وما صاحَبَها من تصوير رحلة العذاب في كلّ الجهات بعيدا عن المتوسّط... صور الصفيح والخيام والجوع والبرد وإنسانيّة وكالة الغوث والإخوة العرب... إلى النقلة الفنّيّة في تصوير النكبة ووجع اللجوء والحنين إلى البيت، ممثّلة بسجن يقف عند شبّاكه سجين أو معتقل يطلّ على الوطن ولا يدري أين السجن الحقيقيّ، حيث هو أم حيث ينظر؟ أو بعصفور/ دُوريّ عرف طريق العودة لتنغرس في جسمه الغضّ أسلاك شائكة، أو لتمزّقه رصاصة حضاريّة من " أصحاب" البيت الجدد، أو بقبضة جبّارة تنطلق نحو السماء مفتّتة الحديد والقيد، أو بحياة الباقين في سنوات ما بعد" عيد استقلال" الدولة، وما جبههم من عبثيّات بدءا بتغير الأحوال وتشتُّت الشمل، وانتهاء بتغيّر اللغة، ولا أقسى من أن يعيش إنسان في وطنه وقد هجّت لغة الوطن لتنزوي في مخيّم، أو في عاصمة عربيّة قريبة غريبة، بعد أن هجّت مدنه أيضا... وإن كان بعضهم – إميل حبيبي أنموذجا- قد روى الأمر بالأسلوب الساخر الشخصانيّ الممضّ المصوّر أيضا لبعض أبطاله... فإنّ كلّ ذلك كان تصويرا للنكبة بجسدها المرئيّ النازف عام النكبة وسنوات الانتقال القسريّ القليلة بعدها... أمّا أشلاء ما انولد عن النكبة من المكان والزمان والإنسان، وما آلت إليه، وما نخر فيها- تراكميّا- ولمّا يزل... فهي من خصوصيّات " حبّ في منطقة الظلّ" إكمالا لما ورد في " الحاجز" من قبل... إلى أن يفجأنا الراوي بعمل روائيّ جديد قد يكون التنبّؤ به شكلا ومضمونا نوعا من العبث.

قرأ الكاتب النسج الاجتماعيّ بكلّ ما عمل ويعمل فيه من مؤثّرات ومتغيّرات... قرأ شخوصه أفرادا ومجموعات، وقرأ قِيَمَه وتصرّفاته، وصاغ قراءته هذه بأدواته الخاصّة ليولِّد نصّا يَكتب عن النصّ الأول المعيش، مصوّرا ومقوِّضا، بانيا ماسخا، مسكونا بالحنين والاستشراف، موظّفا الاسترجاع للاستشراف أو للرؤيا، متنقّلا بين الماضي المستعاد عبر رموزه الكثيرة، إلى الآتي، منطلقا من الحاضر الذي غيّب حضوره وجعله مسرح أحداث... أما المكان فقد أعاد إليه أصالته وحقيقته، وكلّ ما عدا الأصيل فهو ظلّ وباطل وعابر، عادت الأصالة عبر تداعيات فكريّة مرويّة بتفاصيلها الدقيقة، وعبر الخشب الذي تفوح رائحته على مساحة الرواية رمزا لخضرة الماضي/ الوطن، ولحضور أصحاب هذه الخضرة رغم التغييب، وعبر زاهي ألوانه، وصلابته وعقده وهشاشته وأسمائه وقابليّته للبناء، وعبر شخوصه الذين أوجدهم الخالق قبل الحاجز وأصحاب الحاجز، وبهذا ربط الكاتب بين الزمان والمكان، والأصل والظلّ، وجسّمهما عبر استراتيجيّات ذهنيّة سخّرها آلات لكتابته، وهي في الوقت نفسه ملك للقارئ، وليس بالضرورة أن تكون الأمور استنساخا، إن هي إلا حوار بين النصّ والقارئ، والخرونوتوبوس/ الزمكانيّة تعني من ضمن ما تعني الوعاء الحافظ للبعد التاريخيّ الاجتماعيّ في حقبة ما وفي مكان ما. وإن كان باختين- وهو صاحب مفهوم الزمكانيّة- قد انطلق من أنّ لكلّ جنس أدبيّ أو صورة أدبيّة زمكانيّتَها، كزمكانيّة الملحمة اليونانيّة، والعهد الجديد، أو روايات وقصص الأُسَر الريفيّة، والسيرة الذاتيّة، وإن كان قد ظلّل اللغة ودلالة مفرداتها بالزمّكانيّة... فإنها في حبّ في منطقة الظلّ تتفحّص، إلى جانب ما أورده باختين، زمكانيّة النكبتين، النكبة العَلَم، والنكبة التي انولدت عن الأولى متمثّلة بسلوكيّات وعقائد ومناهج ومَوْبَآت ومُوبِقات جسّدتها الظلال وظلال الظلال... مع استرجاع للنقيض الأصيل– ولا أريد أن أقول " الأصلانيّ"- عبر بعض الشخوص كصاحبَي الحوار وعمّو صلاح مثلا.

على هذا الصعيد، استثمر الكاتب الحالة الشوهاء المقزِّزة الظليّة المسرفة في عدميّتها وهلاميّتها، وركّز عليها فكرَهُ التحديقيّ التسريريّ أو السَّحقيّ، وما جاءت السخرية أو الهجاء من أجلهما حصريّا، بل من باب الإقلاق والتوتّر اللذين ولّدهما قلق الكاتب وتوتّره( ينظر الفصل الأوّل: حبّ في زمن الحبّ، ص ص 7- 15)، والمفضيين في النهاية إلى تدمير القبح، وإن لم يكن بمقدور الكاتب، مهما كانت سلطة الكاتب وسلطة النصّ، فإنّ إزالة الرعب منه بإعمال مشرطه/ قلمه فيه ضربٌ من العبث الذي يفشّ الخلق... أو ربّما أملٌ في إعادة البناء، ولئلا أضلّل نفسي أعرف أنّ القبح باق، لأنّه جزء من الكوميديا البشريّة، ولن يزول إلا بزوال البشر... وعندها لا تكون حاجة إلى الحديث عن أيّ شيء... إذ ليس ثمّة من يتحدّث.

الرواية فيض من الكرنفاليّة والقبح/ ( ينظر: عودة الظلّ إلى مسقط رأسه(ص ص 255- 280)، وحوار عمر مع دنيا حول الجمهور( ص ص 281- 302)، وظلّ الظلّ( 303- 321)... يحضر القبح عندما يصبح التشوّه أو التشويه سيّدي الأشياء، وحين نصاب بحالة الغثيان والتقزز لعبثيّة ما نرى وما نعيش، متمثّلا لنا بشرا غير سويّ في الظلال وظلالها التي تجسّد النشاز، ولا تملك في هذه الحضرة إلا أن تحيل قلمك مدية أو مِعْولا، فتترصّده مزيلا أقنعته- فعلة فأرة النجّار في نزع القشرة/ القناع عن جوهر الخشب- ناسفا قماءة استراتيجية سلوكه، ومن هذا المنطلق – كما أرى- وجدنا هذا الكمّ من عيّنات القبح المنولد بالغريزة أو بفعل الحاجز و"حضارة" الحاجز وظلال الحاجز... قبح يخاصر كرنفاليّة ميخائيل باختين، التي قد نوظّفها لفضح أو نسف القائم، إمّا لمجرد نسفه حتى لو بقيت الأرض خرابا يبابا، أو لإرساء الأسس لما ينبغي أن يكون، كرنفاليّة معززة بمينيبية(Menippean نسبة إلى مينيبوس القيسيّ- من أمّ قيس الأردنيّة حاضرا، السوريّة تاريخا) مَسْخِيّة تتجاوز الأشخاص لتصل إلى السلوك الاجتماعيّ العامّ، والظواهر الفكريّة القبيحة التي تحلّل كلّ محرّم وقميء، مستمنيةً سلوكها على الآخر، شعبا كان أو قضيّة.

في قراءته هذه، لم يقف بشارة عند حدود الوصف والتصوير للنكبة وما أفرزت من مقابح، حيث إنّه ما حلّل الأمور وهي في منأى عن الذات، بل حلّل الذات نفسها بعد أن صارت في وعيه، والكاتب، وفقا للفينومينولجي( الظاهراتيّة) الهوسرليّ( نسبة إلى الألمانيّ )، لا يكفيه أنّه واعٍ، إذ عليه أن يكون واعيا بالشيء الذي عنه يكتب، واستبطان النكبة ووجعها وظلالها على رحب الزمان والمكان الحاضنين للرواية، شأنٌ جلل.

3- الاجتياز الثالث

التشات والشّتات؛ تجاوز للمحسوم وللمألوف في الرواية

إن كان التشات وعاء الحوار غير المألوف في بنية الرواية، فإنه في المسألة الفلسطينيّة المتجسّدة في النكبة، ذو أبعاد خاصّة، يضفي عليها عمَرُ الموزّع بين أناه هنا وأناه البعيدة هناك، وحقيقة الشتات الفلسطينيّ ومعاناة الناس، عمقا خاصّا. وأمر التشات كامن في ثلاث حقائق؛ الأولى اللعبة اللغويّة بين التشات والشتات، والثانية في أنّ التشات الوسيلة الحصريّة للمّ الشتات السابق لحقّ العودة، الذي لا يعتدّ بالحاجز ولا بالحدود ولا بجواز السفر وتأشيرة الدخول، وكلّها واقع مانع قامع... وحين صار يُخشى على سقوط حق العودة من الثوابت في عصر ظلال الحاجز في الجانب المفعول، يرقى لمّ الشتات العصريّ إلى درجة قصوى من الأهميّة. والثالثة متجليّة في أن التشات/ الحوار، الحب، المسبَغَة عليه الحالة الفلسطينيّة الفرديّة والجمعيّة، أهمّ وأرقى- لما فيه من صدق وتوق- من كلّ الحوارات اللاشيئيّة السائدة في عصر صناعة الأشياء لا صنعها؛ حوار الحضارات، حوار الثقافات، حوار الأديان، الحوار العربي اليهودي... وصولا إلى الحوار الفصائلي الفلسطينيّ، فهذه " المهن" جميعا ضربٌ من الامتهان والثرثرة واللغو، وإمعان بالابتعاد عن الجوهر، هي انشغال بالقشور البشريّة المتصارعة، المساومة، المسقِطة لاختلاف مصالحها كلّ فشلها أو إخفاقاتها أو أطماعها على المطلق الحضارة/ الثقافة/ الدين/ الحقّ.

يحتاج الفلسطينيّ إلى الحكي والبوح احتياجَ المخلوقات الحيّة إلى التنفّس، وإن كان بشارة قد رأى في التشات متنفّسا، فإنّه في غيبة التشات – كأمّهاتنا الفلسطينيّات- يخلق مخاطبا؛ حبيبا غائبا، طيرا منعتقا من الحاجز، نجمة الصبح، وطنا، هواء غربيّا يحمل " ريحة الحبايب"... شيئا من بكائيّات الحنين التي لا يعرفها إلا المنكوبون، ممّا سمّاه هو نواحا وندبا وتهاليل أمّ... هذا النواح الذي جاء في خاتمة الرواية( ص 390- 392)، ليس حشوا ولا فضلة ولا استعراض عضلات ذاكراتيّ، إنّه التشات/ المناجاة قبل ولادة التكنولوجيا... إنّه الحنين الفلسطينيّ لكلّ بعيد... وما أبعد الوطن! وما أبعد الأهل!
لا تعرف- وأنت تقرأ الرواية- متى سيقطع الراوي الحوار، عائدا إلى السرد والاستطراد، وكل سرديّة تبدأ حيث انتهت سابقتها، أمّا الحوار فمحلّق مشتَّت مشتِّت كزحمة القبح والظلال... تسعد وأنت تقرأ بوحا عاطفيّا عاشقا، وسرعان ما يأتي البتر، والبتر لا ينهي حوارا أو فصلا في الرواية فحسب، إنّه بتر لتحويل موضوع الحوار إذا ما ذُكِرت لفظة الحبّ! أهو إشارة إلى أنّ الفرح والفلسطينيّ محرّمان/ محرومان كلاهما؟ أم صحوة من الاستغراق في حلم موجع؟ أم مركّب في شخصيّة الراوي؟ أم عودة إلى الصفنة المريحة المرهقة؟ أم إرهاق من الثرثرة والاستطراد مع الأنا الآخر؟ ألعلّه هذه الأمور مجتمعة؟ ( تنظر، مثالا، الصفحات: 41، 43، 75، 79، 103، 115، 126، 146، 168، 214، 218...).

4- الاجتياز الرابع

عمر ودنيا ولعبة الأنا المنشطرة

رغم هيمنة الظلال، مفردة وأجساما على مساحة الرواية، فإنّ الكاتب خلق أناه الآخر/ الأخرى، ولم يدرجها في الظلال لأنّها نقيض الظلال، ولذا شكّل من أناه الثانية( دنيا) طيفا- والطيف هو الجسد الماثل في حضرة الغياب- خلقه من الحب، وجعله عاشقه أو سميره أو نديمه، يستحضره ليتواصل معه، ليحبّه... أهي أناه أم عُمَرُ أناها؟ وقد " تتقرّاه يداه بلمس" كفعلة البحتري مع صورة أنطاكيّة في إيوان كسرى.

ولأنّ دنيا هي عمر نفسه، وربما عمر هو دنيا نفسها، وإن شئتم شخوصا هي امتداد لواحد، ولها وظائف شتّى تنبني على السياق؛ تمارس وظيفة المستفزّ، فيسترسل هذا مكدّسا كلّ التفاصيل، وهو ليس بحاجة لاستفزاز أصلا، وتلعب دنيا لعبة الرقيب الذاتيّ، أو الضمير لتسكته، ويكفي أن تجنح إلى العاطفة لتفلح، تثير مواجعه حسّا وفكرا، تغيظه، تفتّح أمامه كوًى للحديث في مواضيع يريد هو أصلا أن يتحدّث فيها بإسهاب، ولكنّه يؤثر هذه الدماثة البروتوكوليّة التشاتيّة، تعينه في اندفاقِ غزيرِ معلوماته عن الأحوال في الخارج، مدركةً أنّ تواضعه يتطلّب سؤالا أو استيضاحا، توصل الخارج بالداخل نوعا من لمّ الشمل... وربما تتحكّم هي به كما يتحكّم بها إذ تصنع روايةً وتجعله راويةً.

دنيا التي ترمز للوطن الململم بالتشات، هي في النهاية السوداء تظلّ الدنيا التي لا تريد لعمر وطنا إلا في التشات، فلا هي قدمت كرغبته، ولا هو خرج كرغبتها، ولذا، رأيناها غائبة مغيّبةً التشات معها في إطلالة الفصل قبل الأخير: " قالت له دنيا: " عندما تقرّر إذا كنت تريدني فعلا فسوف تجدني". وقال هو لها: " عندما تقرّرين أن تأتي فسوف تجدينني". ( حياة بدون تشات، ص. 339)، وكانت هذه إيذانا بالنهاية، وإن التقاها في الحلم في لحظة هلوسة اختصرت الصدق: " ... غربته عن المكان خاصّة وعينيّة، أمّا غربتها فعامّة مجرّدة... وأحسّت دنيا لأوّل مرّة بضياع حبيبها في شظايا المكان وبغربة عمر وضيقه في هذه الديار. إنهما غريبان ها هنا". ( ص. 394).

ولم يبق من دنيا إلا اتصال للتعزية، وبيت مفتوح للعزاء في بيروت... ولم يبق من عمر، عصيّ الدمع، إلا التفرّغ لترتيب أوراق عمّو صلاح في البيت القديم في حيفا... قصّة الفلسطيني، يُقتل ويُقبر هنا، أو هناك، وهنا وهناك كلاهما حاجز... وتُفتح بيوت للعزاء في أقطار الأرض، فالدنيا، لا فلسطين، ما زالت الوطن... ويبقى عمر النجّار أمنيةً... وماذا نريد منه؟ إعادة بناء المنزل أو المحلّ لكل المرتحلين والمرحَّلين؟ أم اقتناص لحظة لـ " التركيز والتأمّل... والانعزال الشرعيّ والتأمّل" ( ص 8) أم خلق مسيح جديد؟ أنا لا أعرف... أو لربّما أنا أعرف إلى درجة اليقين، ولكنّ اليقين يرعبني فأتدثّر بالشكّ أو بالتساؤل.

الإحالات إلى الصفحات وفق ورودها في: عزمي بشارة( 2005). حبّ في منطقة الظلّ. حيفا: ميتافورا. (طبعة محليّة).
صدرت الرواية أيضا عن المركز الثقافي العربي بيروت الدار البيضاء في طبعة عربية، ثم صدرت في مصر عن دار الشروق.

اجتيازات شرعيّة لحاجز غير شرعيّ

نقلا عن مجلّة " وجهات نظر" القاهريّة، عدد مايو 2007: حواجز عزمي بشارة:


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى