الثلاثاء ٢٩ أيار (مايو) ٢٠٠٧
بقلم جميل حمداوي

نجاح الاحترافي الثاني للمسرح الأمازيغي بالدار البيضاء

تمهيـــد:

نظّم فضاء تافوكت للإبداع المهرجان الاحترافي الثاني للمسرح الأمازيغي بالدار البيضاء من 08 إلى 15 أيار (ماي) 2007م بشراكة مع المعهد الملكي للثقافة الامازيغية ومؤسسة أغلال للإنتاج الفني تحت شعار "المسرح في خدمة التنمية".

وقد عرضت في هذا المهرجان تسعة عروض مسرحية أمازيغية للتباري والمنافسة، وقدمت كذلك محاضرات وندوات مفيدة ومسرحيات متنوعة باللغتين العربية والأمازيغية على هامش المهرجان.

وتتكون لجنة التحكيم من الدكتور أحمد أمل رئيسا والدكتور جميل حمداوي والدكتور عبد المجيد شكير والمخرج السينمائي إبراهيم الحنوضي والصحفي بازغ لحسن أعضاء. وقد فازت فرقة ويمرز بتزنيت بجائزة أحسن عمل متكامل على مسرحيتها "نتات/ هي".

ونقول بكل صراحة وموضوعية بأن مهرجان فضاء تافوكت للمسرح الأمازيغي الاحترافي بالدار البيضاء قد حقق نجاحا باهرا وتفوقا كاسحا لا مثيل له بكل مقاييس النجاح بالمقارنة مع المهرجانات الأمازيغية الأخرى في مجال المسرح بالمغرب. ولا نبالغ إذا قلنا بأنه أحسن مهرجان للمسرح الأمازيغي على الصعيد الوطني في مجال التنظيم وتقديم العروض المسرحية وتأطير الندوات وإلقاء المحاضرات العلمية بدون منازع إلى يوم كتابة هذه الدراسة (2007م). وما كان لينجح هذا المهرجان المسرحي الرائع والجميل لولا صمود المشرفين عليه، وأخص بالذكر عبد الله أصوفي المدير العام للمهرجان، وخالد معقول المدير التنفيذي للدورة، وعيسى وهبي المدير الإعلامي للدورة، والفنان خالد بويشو المدير الفني والتقني للمهرجان، كما أحيي جنود الخفاء الذين شمروا عن سواعدهم من أجل أن يحقق هذا المهرجان متعته الفنية وفائدته المرجوة.

ونتأسف كثيرا لانسحاب المعهد الملكي للغة والثقافة الامازيغية عن دعم هذا المهرجان الدسم في مواده والغني في مضامينه في آخر لحظة. وعلى الرغم من ذلك، فقد استمر المهرجان بكل جدية ونشاط في أداء دوره وتقديم أنشطته الفرجوية والثقافية بسخاء لافت للانتباه وظاهر للعيان، مع جذب عشاقه من كل حدب وصوب والتأثير على الجمهور المحلي والرأي العام الوطني علاوة على تحريك الجدل النقدي والكتابة الصحفية بشكل إيجابي. ولم يكن ذلك إلا بسبب نجاح المهرجان الساطع وقوته الديناميكية البارزة في تحريك عجلة المسرح الأمازيغي وتقوية مقوماته الاحترافية وإغناء مرتكزاته الجمالية وخصائصه السينوغرافية ورؤاه الإخراجية.

1- المسرحية الأمازيغية "ثاسيرت"/الطاحونة"

عرضت المسرحية" ثاسيرت/ الطاحونة" لمسرح أپوليوس بالناظور في 13 أيار (ماي) 2007م ضمن المهرجان الاحترافي الثاني للمسرح الأمازيغي للدار البيضاء. والمسرحية من إخراج حاتم الصديق الصديقي وتأليف الكاتب والروائي الأمازيغي الكبير بوزكو محمد. وقد شارك في تمثيلها كل من سعيد المرسي ورشيد معطوك وحياة النجمي ورشيد عثماني ومحمد بومكوسي وحياة عيفار وثازيري. إذا، ماهي القضايا الدلالية والفنية التي تطرحها هذه المسرحية؟

تطرح مسرحية "ثاسيرت/ الطاحونة" لمحمد بوزكو سؤالا جوهريا يتعلق بإشكالية الهوية والانتماء الوجودي، ويتمثل السؤال في: "من نحن؟". ويعني هذا أن المسرحية تشتغل على الذاكرة المنسية والمستنسخات النصية واستنطاق تاريخ تامازغا واستدعاء الشخصيات الأمازيغية القديمة والحديثة في سياق رمزي وتاريخي يحيل على ثراء التراث والحضارة والثقافة للسلالة الأمازيغية في شمال أفريقيا.

ويشير النص في حمولاته الرمزية ومقصدياته الدلالية وأبعاده السيميائية إلى الحرب الكيماوية التي شنتها العصابة الأورپية الاستعمارية على منطقة الريف ظلما وغطرسة وطمعا في ثروات الأرض الدفينة وممتلكات الريفيين المسالمين، علما أن المسرحية كتبت بأمازيغية الريف بطريقة شاعرية رائعة أهلت صاحبها محمد بوزكو ليحتل المراتب الأولى في مجال الـتأليف وكتابة النصوص الإبداعية المسرحية في منطقة الريف إلى جانب محمد الزياني ومحمد العوفي وأحمد زاهد وفؤاد أزروال... ويحصد بكل جدارة واستحقاق الجائزة الأولى في التأليف في المهرجان الأمازيغي الاحترافي بالدار البيضاء؛ لكون نصه أحسن نص مسرحي أمازيغي في إقصائيات المهرجان، ويتبعه نص أحمد زاهد بنصه "ثمورغي/الجراد" الذي كتبه بطريقة نثرية إخبارية رمزية لا يقل قيمة عن النص الأول. إلا أن نص محمد بوزكو يبقى نصا ثريا بالوظيفة الشعرية وغنيا بالصور الفنية والملامح البلاغية والإيقاعية والأمثال والحكم والعبارات المسكوكة والإحالات التاريخية والتراثية والتي تسمو بنص محمد بوزكو وترفعه إلى قمة الإبداع المسرحي الأمازيغي.

هذا، وتجسد لنا المسرحية شخصية "أرياز/الرجل الأمازيغي الحكيم" الذي سيعود من أقصى التاريخ والذاكرة المنسية حاملا طاحونته الصغيرة باحثا عبر الأزمنة والأجيال عمن يطحن القمح في طاحونته وينتقل عبر العصور حتى يصل إلى عصرنا الحالي ليجد أشكالا بشرية ممسوخة مغتربة مستلبة عاجزة عن الطحن ساخرة بتاريخها الموغل في التلادة، رافضة لهويتها العميقة الجذور في الأصالة. ويعجز أرياز عن إقناع الشباب الأمازيغي المعاصر بأهمية الطاحونة وقيمتها في توفير الطعام وتحقيق الكينونة الحقيقية والوجود الأمازيغي الحق.

وعليه، فالطاحونة رمز للهوية والأصالة، فتضييع الطاحونة والإفراط فيها يعني تضييع الهوية والذاكرة والتقاليد الموروثة. وهكذا يجد أرياز نفسه غريبا بين شبان ضائعين تنخرهم المخدرات والصعلكة وأناسا مغتربين مستلبين ومثقفين عاطلين. أما الشابات الأمازيغيات فهن منساقات وراء الموضات الغربية المتنوعة، منسلخات عن أزيائها الأصيلة وذاكرتها الحقيقية التي تفرّدها بالخصوصية والوجود الكينوني. ومن ثم، يستنكر أرياز بكل استهجان مقيت ذلك الاغتراب الذاتي والمكاني المهول، وذلك التفريط في مقومات الهوية والحضارة الأمازيغية، والدوس بكل وقاحة وسخرية على حضارة الأسلاف والأجداد.

وينتقد المؤلف في مسرحيته الرمزية الواقع المغربي بصفة عامة والأمازيغي بصفة خاصة، ويشير إلى الفقر والبطالة والتهميش والإقصاء والمخدرات والهجرة السرية وضياع الشباب الذين فرطوا في طاحونتهم وباعوها للأجانب، لذلك سيرسل أرياز شخصيتين متناقضتين إلى الضفة الأخرى للبحث عنها. وهكذا نرصد عبر مشاهد العرض شخصية ساذجة ستستغل الموقف لتعبر البحر هاربة إلى الضفة المقابلة سعيا وراء تحقيق أحلامها الواهمة وخدمة مصالحها الشخصية، وفي مقابلها نجد شخصية المثقف المتنور الذي سيغرق في أعماق البحر بحثا عن الطاحونة/ الهوية، ولكن بدون هدف ولا جدوى.

ونقول بكل موضوعية ومسؤولية نقدية بأن نص "ثاسيرت/ الطاحونة" لمحمد بوزكو هو أحسن نص درامي بدون منازع في مهرجان تافوكت بالدار البيضاء لموسم 2007م بسبب شاعريته ولغته المنقحة الصافية ودسامة علاماته التناصية وإشاراته الرمزية. وعندما منحناه الرتبة الأولى مناصفة مع الكاتب المقتدر أحمد زاهد - علما أنني كنت من أعضاء لجنة التحكيم- فذلك تشجيعا للكتابة المسرحية الأمازيغية الريفية بصفة عامة، وتبجيلا لأصحابها المبدعين الذين رفعوا المسرح الريفي إلى أسمى الرتب العالية، وكذلك تنويها بالكاتب أحمد زاهد الذي كتب الكثير من النصوص المسرحية منذ التسعينيات، وبذلك يستحق منا كل تكريم وتقدير إذا وسّعنا صدورنا جيدا وملأنا قلوبنا بالمحبة والصفاء،وجعلنا خدمة المسرح الأمازيغي الريفي فوق طموحاتنا الشخصية الضيقة. لذلك ندرج هذا النص المسرحي المتميز الذي ألفه محمد بوزكو ضمن إنتاجات مرحلة المسرح الأمازيغي الناضج في دراميته وتمسرحه، كما يحمل هذا النص الممتع طابعا رمزيا وذهنيا وتاريخيا في بعديه الحضاري والمعرفي.

وإذا كان الصراع الدرامي في المسرحية يتمثل في الحفاظ على الهوية الأمازيغية والتفريط فيها، فإن الممثلين قد قاموا بأدوارهم على أحسن مايرام وحسب طاقاتهم وإمكانياتهم الجسدية والمعرفية والتدريبية.

ويبدو لنا من خلال هذا العرض الجيد أن سعيد المرسي يعد من أحسن الممثلين في مدينة الناظور إلى جانب فاروق أزنابط ورشيد معطوك ومصطفى بنعلال ونسيم الماحي وطارق عاطفي …

هذا، وقد برز سعيد المرسي أيما بروز في مسرحية" ثاسيرت/ الطاحونة" ونزل فيها بكل ثقله الفني وعطائه الأدبي ومهارته في تشخيص المواقف الحوارية إلى جانب رشيد معطوك بأدائهما الرائع الذي يدل على مقدرتهما في مجال التمثيل وكفاءتهما في تطويع المسرح لصالحهما.

وقد شغّل المخرج القدير حاتم الصديق الصديقي سينوغرافية ميكانيكية تتجلى في استخدام طاحونة كبيرة ذات عجلات تحيل رمزيا على الهوية والكينونة الأمازيغية. وكادت المسرحية أن تحصد جائزة السينوغرافيا في مهرجان تافوكت للمسرح الامازيغي الاحترافي سنة 2007م. بيد أن اللجنة اختارت سينوغرافيا مسرح الصالون لمسرحية "تاكورضي نبنادم/ الرجل الطامع" لفرقة إصوابن للمسرح بالرباط، نظرا لكثرة الجوائز التي حصدتها مسرحيات منطقة الريف (خمس جوائز من ستة أنواع وعشر جوائز فردية وجماعية) بالمقارنة مع المسرحين: السوسي والشلحي.

وعلى الرغم من هذا الاختيار الذي اختلفت حوله لحنة التحكيم، فتبقى سينوغرافيا مسرحية "ثاسيرت" أحسن سينوغرافيا في مهرجان تافوكت في نسخته الثانية إلى جانب سينوغرافيا مسرحية "أزكاز إزنزن تفوكت/ الرجل الذي باع الشمس" لفرقة مسرح نون بالخميسات.

وعلى الرغم من هذه السينوغرافيا الميكانيكية الضخمة الوظيفية الموحية، فإننا نلاحظ أن الطاحونة أصبحت عائقا في وسط الخشبة كانت تمنع الممثلين من التحرك بشكل سهل ومرن فوق خشبة الركح. بل كانت الطاحونة تتوقف في كثير من الأحيان عن السير والدوران، مما دفع الممثلين للتخلي عنها بسرعة عن طريق تفكيكها بعد عسر وشقاء.

وإذا كان توظيف الديكور والموسيقا الشعبية الأمازيغية والإضاءة توظيفا عاديا جدا على مستوى التشغيل والممارسة التقنية والإخراجية، فإن توظيف الملابس والأزياء كان توظيفا مناسبا ومنسجما مع النص المسرحي المقدم.

وخلاصة القول: إن عرض "ثاسيرت/ الطاحونة" عرض سينوغرافي جميل ومثير بحواره الأدبي السامي، ولكنه يفتقر نسبيا إلى المتعة البصرية والتشكيل البصري والغنائي بسبب هيمنة الحوار على الفرجة الجمالية وكثرة الرتابة الناتجة عن الفراغ النسبي بين المشاهد الدرامية والاستطراد المتنامي في التواصل اللفظي الذي يذكرنا بجدلية التوليد الحواري السقراطي الذي وجدناه أيضا عند فرقة أسايس ن إمال في عرضها المعنون بـــ "في انتظار غودو"، وهي من إخراج المبدع الأمازيغي مصطفى حمير. إلا أن النص الدرامي الذي ألفه الكاتب المتميز محمد بوزكو، والتشخيص الذي قدمه كل من الممثلين المقتدرين الناجحين: سعيد المرسي ورشيد معطوك، عوّضا كل الخصاص الفني والتقني والجمالي الذي كان يعاني منه العرض دراميا وركحيا، واستطاع العرض- بالتالي- أن يجذب إليه الجمهور بكل فئاته الراصدة على الرغم من رمزية اللغة المسرحية وانزياحها الأدبي والتعبيري.

2- المسرحية الأمازيغية "ثامورغي/ الجراد"

من أهم المسرحيات الأمازيغية التي عرضت في المهرجان الاحترافي الثاني للمسرح الأمازيغي للدار البيضاء ما بين 08 و15 أيار (ماي) 2007م مسرحية "ثامورغي/ الجراد" لفرقة الريف للمسرح الأمازيغي بمدينة الحسيمة. وقد قدمت المسرحية يوم 09 ماي 2007م على الساعة التاسعة ليلا بالمركب الثقافي مولاي رشيد. وهذه المسرحية من تأليف الكاتب المقتدر أحمد زاهد وإخراج الفنان المتميز شعيب المسعودي مؤسس المسرح التجريبي في منطقة الريف بدون منازع. وسنحاول في هذه الدراسة أن نبرز بعض القضايا الدلالية والفنية في هذه المسرحية الرمزية الذهنية.

تندرج مسرحية "ثامورغي/ الجراد" ضمن المسرح التجريبي من حيث الإخراج والبناء السينوغرافي، وإن كان النص من حيث المضمون مسرحية تاريخية واجتماعية وثقافية تحكي قصة مجذوب حكيم وفيلسوف في منطقة الريف وخاصة في إمزورن. فعبد النبي الذي يعد رجلا أبله وأحمق كان يستبق الأحداث ويستشرف ما ستأتي به الأيام العصيبة، لذلك كانت لغته هي الحكمة وإسداء النصح للقرويين وتنوير الساكنة التي كانت تعاني من كثرة المآسي والويلات والحروب، ناهيك عن قسوة الفقر وسياسة التهميش واللامبالاة والإقصاء. وكان يحذر التجار الغادين إلى أسواقهم من هجوم الجراد الذي سيأتي على الأخضر واليابس، وينبههم إلى ما سينتظرهم من أخطار محدقة بهم إذا لم يتّحدوا ويتركوا صراعاتهم الفردية الواهية وحروبهم الدونكيشوطية التافهة وتناحرهم من أجل تحقيق مآربهم الشخصية ومصالحهم الذاتية.

وفي الأخير، سيتأكد القوم من صحة تنبؤات عبد النبي عندما سيهاجمهم الجراد، وسيتبين لهم صدق خطابه وصحة عقله، وفي المقابل ستظهر لهم سذاجة عقولهم وسطحية وعيهم الزائف في الرضى بما هو كائن وسائد.

وتتخذ المسرحية طابعا رمزيا وذهنيا في حمولاتها الفكرية وأبعادها الدلالية والمرجعية، لأنها تدافع عن هوية الأمازيغيين وتدعوهم إلى التشبث بمقومات وجودهم وحضارتهم وثقافتهم، وأن الغزاة قادمون لا محالة لطمس هويتهم ومسخ كينونتهم والدوس على الجذور التي تبقت من سلالتهم المنبوذة في بلاد تامازغا. لذلك، تحمل المسرحية في طياتها أطروحة المقاومة والاستعداد لمواجهة الطاعون القادم أو الجراد الغازي الذي سيأكل كل شيء، ولن يترك أي جذر سلالي أو كينونة وجودية لأي إنسان أمازيغي شريف.

هذا، وتزخر المسرحية بقضايا دلالية فرعية أخرى كاستقراء الذاكرة التاريخية والاجتماعية للإنسان الأمازيغي والتنديد بالتسلط والاستبداد والتلميح إلى انعدام حقوق الإنسان. كما تدين المسرحية عالم الغرابة والفوضى عبر الجدارية التجريدية الغريبة في فوندو الخشبة حيث يرسم لنا المخرج لوحة تراجيدية بئيسة مليئة بالأشياء المبعثرة والنفايات المتسخة التي يريد المخرج بواسطتها أن يعبر عن عالمنا الأمازيغي المشتت وخاصة الريفي منه بأنه عالم فقير تشكّله هندسة النفايات وطيبوغرافية الأزبال، وتكتسيه الفوضى العارمة، ويعمه البؤس الحزين، ويكنفه الفقر المدقع، وأن الإنسان الأمازيغي- بالتالي- مهمش لا قيمة له، أو أنه مسيج بفضاء سوداوي يبدو كمزبلة للتاريخ ينهشه الإقصاء والتهميش ويتسلط عليه الغزاة من كل حدب وصوب طمعا في خيراته وممتلكاته.

وتتجادل في المسرحية مجموعة من الثنائيات كالظلمة والنور، والاستعباد والحرية، والجهل والعلم، والسذاجة والحكمة، والموت والحياة، والفوضى والنظام، والتمزق والوحدة، والخوف والشجاعة.

وعلى العموم، يرمز عبد النبي إلى الهوية الأمازيغية والكينونة الحقيقية التي تنبني على الوحدة والعمل والعلم واحترام الخصوصية والدفاع عن الحرية والتشبث بالأرض والتمسك بأنطولوجية الوجود وعبق اللغة والكتابة ومواجهة كل المعتدين والغزاة عن طريق الاتحاد والعمل الجماعي والمقاومة الشرسة والتطلع إلى المستقبل الواعد بكل أمل وتفاؤل.

هذا، ولقد اشتغل المخرج شعيب المسعودي على المسرح التجريبي التجريدي الذي يذكرنا بمسرح اللامعقول مع توظيف تقنية المسرح داخل المسرح أثناء تجسيد مسرحية عطيل لشكسبير فضلا عن استعمال المسرح الأسطوري عبر استدعاء أسطورة "لــونجة". كما وظف المخرج الكوليغرافيا والعلامات البصرية والتشكيل الجسدي والبيوميكانيك في تأطير الممثلين وتوزيعهم فوق خشبة المسرح. ولا ننسى أن المخرج قد تحكم جيدا في رقعة الركح من خلال توزيعها إلى مناطق هامشية ومناطق درامية مركزية ومناطق درامية خلفية.

وقد اشتغل المخرج على شخصية عبد النبي داخل فضاء دائري يتحكم فيه التواصل اللفظي اللغوي والبصري من خلال علاقات جدلية كوليغرافية مع الممثلين الآخرين جذبا وتنافرا. وكان هؤلاء الممثلون ينتقلون فوق الخشبة المسرحية بشكل جيد لتقديم الفرجة الدرامية في لوحات سينوغرافية مشفرة بالعلامات اللغوية والبصرية والتشكيلية المجردة الزاخرة بالمقاصد المباشرة وغير المباشرة.

واستخدم شعيب المسعودي أيضا سينوغرافيا الكراسي والمقاعد المتفاوتة الحجم للتدليل على التفاوت الاجتماعي والتأشير على جدلية السيد والعبد والإحالة على مسرحية الكراسي للمسرحي التجريدي يونيسكو، وقد وظف هذه الطريقة تلميذه المخرج سعيد المرسي في مسرحيته التجريبية "ثيسيث/المرآة".

ومن ناحية أخرى، فقد التجأ المخرج إلى توظيف الأزياء المفارقة التي تتنافى مع الهوية المحلية والأصالة الأمازيغية، وهذه إشارة جمالية رمزية غنية بالدلالات المضمرة، وإحالة على التفسخ والاغتراب الذاتي والمكاني وسقوط الهوية الأمازيغية في شرنقة الاستلاب وشرك الأوربة والتفسخ الحضاري.

وكم كان العرض جميلا عندما وظف شعيب المسعودي رقصة إمذيازن والأغاني الريفية الشعبية الرائعة التي كانت تحمل في طياتها لغة الشوق والحنين إلى الماضي والذاكرة والأرض والهوية! كما أن آلة الهرمونيكا Harmonique بإيقاعاتها الدافئة كان لها مفعول سحري في شد أنظار الممثلين/ الأمازيغيين وتوحيدهم جميعا حول الأم المقدسة /الأرض التي كانت تحذرهم من الانقسام والتشرذم والسقوط في وحل الهزيمة بسبب الصراعات اللعينة والحروب المتطاحنة والنعرات الضيقة والتنافر الشخصي والأحقاد المتجذرة بسبب الإحساس الذاتي بالدونية وعقدة النقص والاحتقار.

وقد التجأ المخرج شعيب المسعودي إلى تقنيات فنية عديدة كتكسير الجدار الرابع واستعمال الخطاب الرمزي وتشغيل الحضرة الصوفية والإكثار من الأمثال والتأشير على النظام الجماعي المعروف بــــ "ثويزا"، وتوظيف الأغنية الريفية الشعبية، والاستعانة بالإضاءة الشاملة للركح التي تدل على الإشعاع الكلي للخشبة تنويرا وتبديدا للظلمة والجهل. كما اشتغل على الألوان المفارقة والمتضادة التي تتمظهر في البياض والسواد والتي تؤشر على ثنائية الكراهية والحب أو ثنائية التسلط والحرية.

وعلى أي حال، فلقد حصدت مسرحية "ثامورغي / الجراد" المكتوبة بأمازيغية الريف في مهرجان تافوكت بالدار البيضاء في نسخته الثانية ثلاث جوائز قيمة، وهي جائزة الإخراج التي كانت من نصيب المخرج الشاب شعيب المسعودي عن عمله السينوغرافي الرائع، وجائزة أحسن نص وقد حصل عليها الكاتب الأمازيغي المتميز والجاد أحمد زاهد الذي بدأ مساره الفني بالتشخيص والكتابة الدرامية منذ التسعينيات، وكانت نصوصه المسرحية ذات وقع جمالي كبير في داخل المغرب وخارجه وخاصة مسرحيته الرائعة "أرياز ن - وارغ/ رجل من ذهب" التي عرضت بمسرح محمد الخامس بالرباط وقدمتها التلفزة المغربية ( القناة الأولى) سنة 2006م، ومسرحيته الجديدة "أرماس" التي سيتكلف الأستاذ فخر الدين العمراني بإخراجها.

ونالت مسرحية "ثامورغي/ الجراد" كذلك جائزة أحسن ممثل ذكور والتي منحت للممثل الحسيمي الشاب المقتدر طارق الصالحي، وإن كان أحمد أجويني يستحق منا كل تقدير وتنويه، لأنه جدير كذلك بجائزة التمثيل لشجاعته الفنية وجرأته الكبيرة في التمثيل وتشخيص الأدوار الرومانسية، وتمكنه من آليات التمثيل والأداء الصادق والتحكم في القوى الكوليغرافيا الجسدية التي يمتلكها.

ومن جهة أخرى، فقد رصدنا بعض الملاحظات التي تتعلق بهذا العرض المسرحي والتي نجملها في عدم تشغيل المخرج للممثلات تشغيلا جيدا، والاكتفاء بترويض الممثلين وتدريبهم حرفيا على أحدث تقنيات التشخيص المعاصر على حساب الإخراج الذي كان يحتاج إلى إبداع شخصي بدلا من اللجوء إلى تقنيات التدريب الجاهز، كما ظلت الجدارية البيضاء المعلقة في المنطقة الخلفية صماء غير وظيفية.

وعلى الرغم من هذه الملاحظات النقدية الهينة، فإن عرض "ثامورغي / الجراد" عمل متميز دراميا ومتكامل فنيا وركحيا من حيث النص والتمثيل والإحالة الرمزية والرؤية الإخراجية وثراء العلامات السيميائية اللغوية والبصرية والتشكيلية. ومن ثم، يؤسس شعيب المسعودي مرة أخرى في منطقة الريف دعائم المسرح التجريبي الجمالي الغني بالشاعرية والصور البلاغية البصرية الرائعة بمسرحيته الجديدة "ثامورغي/ الجراد"، والتي تشهد كذلك لأحمد زاهد بمقدرته الكبيرة في تأليف النصوص المسرحية الأمازيغية الجيدة، وبجديته في اختيار المخرجين المتميزين في تحويل نصوصه الدرامية إلى عروض ركحية وأعمال سينوغرافية جديرة بالمتابعة والرصد والمشاهدة كفخر الدين العمراني وشعيب المسعودي وفاروق أزنابط...

3- مسرحية "نتات/ هي":

قدمت فرقة محترف ويمرز بتيزنيت مسرحية "نتات/ هي" التي أخرجها رشيد أبيدار بشكل كوليغرافي بصري. وتتقاطع في هذه المسرحية العلامات البصرية واللغوية على حد سواء. وقد استندت المسرحية إلى البوليفونية اللغوية عبر المزج بين الأمازيغية والإنجليزية والفرنسية والدارجة المغربية.

هذا، وتعالج المسرحية قضية انعدام المساواة بين الرجل والمرأة التي عبر عنها كل من الممثل الوافي عبد الوافي والممثلة السعدية حسني جسديا وحركيا وكوليغرافيا مستعينين بالرقص والباليه ورياضة الكاراتيه والحضرة الصوفية ورقصات الگناوة في مسرحة عرضهما الحركي الجذاب.

وتنبني المسرحية على فضاء فارغ مؤثث ببساط أبيض على غرار فضاءات أنطوان أرتو التي كان يؤثثها بالزربية أو البساط أو السجادة أو البلاط الخشبي أثناء انتقاله إلى أفريقيا أو الدول التي تتطلب منه التفكير في إيجاد خشبة مسرحية مناسبة. وتتأرجح المسرحية بين واقع الخيال الذي يدل عليه القناع الذي يلبسه الممثلان معا، وواقع الحياة عندما ينزعان قناعيهما، وهذا يذكرنا بتقنية المسرح داخل المسرح التي نجدها عند براندللو.

وقد فازت هذه الفرقة بجائزة العمل المتكامل؛ لأنها قدمت عرضا يمكن اعتباره احترافيا بمعنى الكلمة، وإن كان التجسيد الكوليغرافي مهيمنا على الجانب المسرحي الذي يتشخص دراميا في الصراع الجدلي بين الرجل والمرأة.

وتكمن حسنات العرض في ذلك التواصل الوظيفي الذي حققه على مستوى الإرسال اللغوي والتواصل الحميمي عبر استخدام لغات مختلفة تخاطب شرائح متعددة. وهذا هو المسرح الأمازيغي الذي نتمناه لتحقيق الحداثة والانفتاح والدخول في العالمية، لأنه مسرح جماهيري مفتوح يفهمه الجميع ويستوعبه الكل. ومن جهة أخرى، فقد تجاوب الجمهور مع العرض أيما تجاوب، والدليل على ذلك التصفيقات الحارة والتشجيع الكبير الذي استقبل به الممثلان اللذان أديا عملا مسرحيا متكاملا، وإن كان الحركي يغلب كثيرا على ما هو لفظي ولساني في هذا العرض المسرحي الناجح.

4- مسرحية "تاكورضي ن - بنادم/ الرجل الطامع":

قدمت فرقة إصوابن للمسرح بالرباط مسرحيتها تحت عنوان" تاكورضي ن- بنادم / الرجل الطامع"، وهي من إخراج محمد البرومي الذي اقتبس فكرة العرض عن مسرحية "الريفية" للكاتب الروسي إيفان تورجنيف. والمسرحية من تشخيص أحمد أمانار وإدريس تامونت ووفاء المسعودي وحفيظة أقداير وحسن أباجة.

ويندرج هذا العرض ضمن مسرح الصالون المحفوف ببسينوغرافيا جذابة توحي بالمفارقة والتناقض بين عالم الغنى وعالم البؤس. وتنبني المسرحية على مكون شيئي ألا وهو المرآة التي تعكس لنا طبيعة الشخصيات وطبائعها وسلوكياتها المتناقضة.

وعليه، فإن المسرحية تتحدث عن كريمة امرأة أنانية وانتهازية تعيش في البادية بين أناس بسطاء وفقراء، تريد أن تغير حياتها المتواضعة، وذلك بالانتقال إلى المدينة لتعيش حياة أحسن من تلك الحياة التي تعودت عليها في القرية. وهنا سيتدخل الحاج عابد في حياة كريمة راغبا منها أن تساعده في جمع بعض الأصوات الانتخابية، فتنتهز كريمة الفرصة لتغويه بجمالها رغبة في استدراجه لكي يساعدها على الهجرة إلى المدينة مع زوجها عبد الله، وعندما علم زوجها بالعلاقة غير الشرعية مع الحاج عابد سيتدخل بكل عنف وغضب ليضع حدا لهذه المهزلة الفظيعة.

ولكن ما يلاحظ على هذه المسرحية أنها ضعيفة على مستوى التشخيص والإخراج، وتفتقر إلى مجموعة من المقومات لتصبح مسرحية مقبولة، ومع ذلك، فقد كانت سينوغرافيتها رائعة بفضل بصمات الفنان يوسف العرقوبي الذي قام بعمل جيد في تنميق الديكور وتزيينه فرجويا وبصريا، لذلك حصلت هذه المسرحية على جائزة السينوغرافيا في مهرجان تافوكت.

5- مسرحية "أزكاز أزنزن تافوكت/ مسرحية الرجل الذي باع الشمس":

عرضت هذه المسرحية من قبل فرقة مسرح نون بالخميسات باللغتين العربية والأمازيغية. وهذه المسرحية ناجحة على مستوى الصورة البصرية والسينوغرافيا وتأثيث الديكور. وتصور مثقفا مهمشا يعاني من الاغتراب الذاتي والمكاني، ويتألم نفسانيا من الوحدة والمرارة والقلق والكآبة، وفي نفس الوقت يتمزق ذاتيا وداخليا. وبالتالي، يسكن هذا الموظف السادي داخل قبو منحط يتلذذ فيه بأحزانه وأتراحه وهذيانه وهلوساته الجنونية. وفي الأخير، يغتصب فتاة ليعذبها بطريقة بشعة استعدادا لتقديمها قربانا للآلهة. لكن هذه الفتاة الشابة ستتخلص منه وستتحول بدورها إلى كائن مهووس لا يعرف سوى سفك الدماء والتخلص من عقدة الرجل والفتك به أشد الفتك.

إن أجمل ما في هذه المسرحية هو ديكورها المؤثث بمجموعة من الإكسسوارات الطفولية والأشياء المثيرة الدالة على شخصية المثقف المهزوم المنهار نفسانيا وعضويا ووجوديا. كما أن الممثلة أسماء السروي قامت بدور هام في هذه المسرحية بقوامها الجميل الذي استخدمته بشكل جيد في تقديم فرجات كوليغرافية رائعة. وقد فازت هذه الشابة المقتدرة على جائزة أحسن ممثلة في هذا المهرجان الاحترافي.

6- مسرحية إصيد (الهبال):

من أضعف العروض في المهرجان ذلك العرض الذي قدمته فرقة الأنامل الساحرة بالرباط، والنص من تأليف عبد الله أوزاد والعرض من إخراجه. أما التشخيص فقد قام به كل من حفيظة قدير ومحمد كرموس وإبراهيم بن الشيخ.

وتتحدث المسرحية عن سبع تسطيات (الهبالات/ الحماقات)، وبدورها تتمحور حول مواضيع اجتماعية وسياسية مختلفة، وكل تسطية متعلقة بموضوع اجتماعي أو سياسي خاص كقضية الفساد الإداري والبيروقراطية والسعي وراء الكراسي الانتخابية والتشبث بالأرض والهوية وثقافة الأجداد.

وتصور هذه المسرحية بطريقة ساخرة وفكاهية نزلاء مستشفى الأمراض العقلية الذين أتوا إلى المؤسسة الاستشفائية ليعلنوا أن هذا الزمن هو زمن الجنون والعبث، وزمن الرداءة والقيم المنحطة، وزمن المصالح الشخصية والتنافس حول الماديات وتحقيق المآرب الذاتية.

ويلاحظ على هذه المسرحية أن هناك ضعفا كبيرا على صعيد الرؤية الإخراجية والسينوغرافيا والمعالجة الدراماتورجية والتشخيص التمثيلي والتشكيل البصري. ومن المفارقات العجيبة في هذا العرض المسرحي أن المخرج اختار لممثليه ملابس تدل على السجناء أكثر مما تدل على نزلاء مستشفى الأمراض العقلية.

7- مسرحية "في انتظار گودو":

هذه المسرحية التجريدية العابثة قدمتها فرقة أسايس ن - أمال بأگادير. وقد أخرجها مصطفى حمير، وألفها الكاتب الأيرلندي صمويل بيكيت، وتندرج المسرحية ضمن مسرح اللامعقول أو المسرح التجريدي الرمزي.

هذا، وتبتدئ المسرحية بتكسير الجدار الرابع ووصول كل من كوكو وديدي إلى خشبة المسرح والوقوف أمام شجرة أرگان لينتظرا السيد گودو الذي سيأتي ولا يأتي. وفي نفس الوقت، سيلتحق بهما السيد بوزو وخادمه لوكي لينتقل العرض إلى تصوير عبثية الوجود وغرابة هذا العالم الذي أصبح بلا معنى ولا جدوى والمشروط بالخيبة والسأم والفراغ. بيد أن هذه المسرحية صيغت في سياق سوسيوثقافي لمنطقة سوس مع استنطاق الوعي واللاوعي الثقافي الأمازيغي لمخاطبة العالم والإنسان. كما تحيل المسرحية من خلال علاماتها البصرية والسينوغرافية على ثنائية التحرر والاستعباد، والانتظار واللانتظار، والغاية واللاجدوى.

ويلاحظ على هذا العرض المسرحي على الرغم من جدية النص وسموه فنيا بسبب تجريبيته وتجريديته الرمزية أنه كان مملا بسبب الرتابة والروتين والتطويل في تقديم المشاهد المتكررة وانعدام الفرجة الدرامية بسبب غياب السينوغرافيا الوظيفية وغلبة الفضاء الفارغ غير المؤثث سوى بشجرة أرگان غير الوظيفية. ومن ثم، نلاحظ ضعفا على مستوى الرؤية الإخراجية والسينوغرافيا على الرغم من قدرة الممثلين على التشخيص والتمثيل كما يجسده ذلك كل من الطيب بلوش وسعيد عادل وحميد أشتوك ومبارك الديب.

8- مسرحية التدورت تكاساون:

قدمت مسرحية "التدورت تكاساون" من قبل فرقة أفلون للمسرح بالرباط وقد ألفها علي أشتوك وأخرجها محمد أسمينة وقام بتشخيصها كل من أعرب سناء وجامع البينيني.

وتتمحور المسرحية حول تاجر سيفرط في تجارته وأمواله بسبب سذاجته ونصب الآخرين عليه.

وما يمكن قوله في حق هذه المسرحية بأنها مسرحية عادية وبسيطة وضعيفة على مستوى الإخراج والتشخيص والسينوغرافيا، كما أنها بعيدة عن كل مقومات المسرح الاحترافي وجمالياته الفنية.

9- مسرحية داها:

قدمت فرقة فضاء تاسوتا للإبداع بوجدة مسرحية "داها"، وهي من تأليف وتشخيص محمد حنصال، وإخراج الوردي التهامي بوشعيب.

وتجسد هذه المسرحية حكاية "داها" المعشوقة الحسناء التي خلقها "يدير"في متخيله الوجداني الشعوري وعالمه الأسطوري، ويسقط في عشقها بطريقة جنونية راغبا في افتدائها بروحه وشعوره الباطني الحساس. وتشكل " داها" بالنسبة لـ"يدير" كينونته الجوهرية ووجوده الحقيقي.

ولكن الشرير "خو" الوحش العدائي سيدمر عالم "يدير" وسيغتصب "داها" تعبيرا عن أحقاده وشروره ومكائده ونزوعه السادي في تعذيب الآخرين.

وبذلك، يتكئ العرض على جدارية غير وظيفية عبارة عن قصبة أطلسية تقع في ساحة عمومية.

وبعد ذلك، ننتقل إلى التشخيص الاحتفالي وتوظيف الموسيقا الأطلسية في مناجاة "يدير" لــ "داها" الذي كان يتغزل بها كثيرا خالقا منها أسطورة خالدة في قالب منودرامي مستعملا الخطاب المباشر واستنطاق الذاكرة واستدعاء الموروث الامازيغي وترديد الأشعار والحكم والأمثال.

ومن هنا، فهذه المسرحية وجدانية غنائية أسطورية مفعمة بالمستنسخات التناصية، وقد ظهر فيها الممثل محمد أحنصال بكل قواه الفنية والجسدية والنطقية باعتباره ممثلا قديرا استطاع أن يقدم بكل جدارة فرجة شاعرية سامية.

وترمز المسرحية إلى الهوية الأمازيغية والوجود الأمازيغي عبر التاريخ وتستنكر التهميش وفعل التغييب، لأن "داها" حسب سياق المسرحية رمز للأمازيغية، والدليل على ذلك أن الوحش لما اغتصب داها الجميلة لم ۥيبق من جثتها المنفوشة سوى هيكل عظمي يتمثل في حرف زاد الأمازيغي الذي يحيل على الهوية الامازيغية والكينونة الحقيقية للإنسان الامازيغي. بينما يحيل الوحش على أعداء الأمازيغية الذين يحاولون طمس هوية الأجداد وشخصيتهم الموروثة المتميزة بالمقاومة والنضال وعشقهم للجمال والحرية عبر صفحات التاريخ.

وتمتاز المسرحية برؤية إخراجية لابأس بها في حاجة إلى معالجة فنية أكثر جمالية وجاذبية وتشخيص تعددي وسينوغرافيا احتفالية متنوعة وتقديم شخصية الوحش في صورة جيدة ومقبولة ومقنعة.

خاتمـــة:

إذا كان هناك من النقاد ودارسي المسرح في المغرب ينكرون وجود المسرح الأمازيغي ويعتبرونه ضعيفا فنيا بالمقارنة مع المسرح العربي، وأنه – بالتالي- منتوج فني لا يخرج عن دائرة المسرح المغربي. إلا أننا نقول بكل موضوعية علمية بأن المسرح الأمازيغي سبق المسرح العربي بقرون كثيرة مع مجموعة من الشخصيات المسرحية ولاسيما المسرحي الأمازيغي الليبي ترنيوس آفر الذي كتب في عهد الرومان ست مسرحيات تراجيدية وكوميدية، وأوبوليوس (أفولاي) النوميدي صاحب رواية" الحمار الذهبي" الذي عرف بشهرة كبيرة في مجال المسرح حيث قدم عروضا كثيرة في مسرح قرطاج بتونس. ومن هنا، نثبت بأن المسرح الأمازيغي كان موجودا منذ القديم، وله خصوصياته الفنية والجمالية وتقاليده في تقديم الفرجة السينوغرافية. فما على الباحثين سوى البحث والتنقيب عن جذور هذا المسرح والبحث عن أعلامه وتوثيق نصوصه وفرجاته وتقييم نصوصه وعروضه بكل صدق وموضوعية بعيدا عن سياسة الإقصاء والتهميش. زد على ذلك أن المسرح الأمازيغي هو ذلك المسرح الذي يستعمل اللغة الأمازيغية والذاكرة الاحتفالية القديمة والموروث الطقوسي الذي خلفه الأمازيغيون. وينطلق هذا المسرح من الماضي الثقافي والحضاري ليدخل في جدلية مع الحاضر ليطرح مجموعة من القضايا التي تتعلق بالخصوصية والهوية واللغة والكتابة والأرض مستعينا في ذلك بمجموعة من الأشكال والآليات الفنية كالموسيقا والرقص والغناء والفلكلور والحكاية والشعر والمثل والاشتغال في الفضاء المفتوح واستدعاء الشخصيات الأمازيغية القديمة والانتقال مع المسرح الأمازيغي المعاصر من المسرح الكلاسيكي إلى المسرح التجريبي بما فيه الكوليغرافي والفلكلوري بالمفهوم الإيجابي لا السلبي.

وعلى العموم، فقد تراوحت عروض المهرجان بعد تقويم شامل وكلي بين الاحترافية والتجريب وسقوط البعض منها في دوامة الهواية الساذجة وخضوع البعض الآخر لمتطلبات المسرح التجاري المبتذل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى