السبت ٢ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم جميل حمداوي

الكوميديا السوداء في مسرحية "بني قردون" لرمضاني

تمهيد:

يطل علينا الدكتور مصطفى رمضاني مرة أخرى بمسرحية جديدة مفعمة بالسخرية القاتلة والكوميديا السوداء والفانطاستيك، وقد صدرت عن مطبعة تريفة ببركان سنة 2007م في حجم متوسط في ستين صفحة تحت عنوان "بني قردون". وقد كتب قبل ذلك عدة نصوص مسرحية أهمها: "هذا مجرد تمثيل"، و"هذه هي القضية"، و"أطفال البسوس"، و"الباسبور"، و"الوحدة"، و"لحساب تالي"، و"رجال لبلاد".

ومن المعروف كذلك أن المبدع مصطفى رمضاني أستاذ جامعي مغربي ومخرج متميز وناقد مسرحي متمكن من أدواته النقدية حصل على عدة جوائز وطنية ودولية في الإبداع والنقد. وله عدة كتب في النقد المسرحي التي طبعت في المغرب وخارجه.

ومن أهم القضايا التي يهتم بها في مجال النقد المسرحي: إشكالية التجريب والتأصيل في المسرح العربي، والدفاع عن النظرية الاحتفالية في المسرح العربي، وشرح الاتجاهات المسرحية وقضاياها النظرية والدلالية والفنية في المسرح العربي بصفة عامة والمغربي بصفة خاصة، ووضع القوائم الببيلوغرافية للنصوص المسرحية المغربية بتنسيق مع زميله الدكتور محمد قاسمي، ورصد الحركة المسرحية بالمغرب الشرقي، دون أن ننسى مشاركاته الكثيرة في لجن التحكيم على المستوى الوطني والعربي، ومساهماته المتواصلة في إلقاء المحاضرات ومناقشة الرسائل والأطروحات الجامعية، وحضوره في الساحة الثقافية العربية بمقالاته المتميزة. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى تفاني هذا الرجل النشيط في حب المسرح ومعايشته له عن قرب وصدق وإيمان فضلا عن إخلاصه الكبير في عمله الأكاديمي وكتاباته الجدية ومشاريعه الجديدة.

2- المستوى الــــدلالي:

يستهل المبدع مصطفى رمضاني مسرحيته الساخرة بانتقاد المؤسسات الرسمية والمجالس التمثيلية العمومية المغربية التي لا تبالي بهموم الشعب وقضاياه المصيرية، وهو الذي أوصل هؤلاء المنتخبين ليكونوا أعضاء هذه المجالس ويحتلوا كراسي التمثيل ومناصب الحل والعقد والاستشارة. بيد أن هؤلاء الممثلين فرطوا في مسؤولياتهم وفرطوا كذلك في أموال الشعب، حتى أصبحنا اليوم لا نعرف الفاعل من المفعول:

"رئيس المجلس: وبعد هذا النقاش الحاد حول القضية المصيرية، علينا أن نخرج بقرار حاسم، فماذا تقترحون؟ (يقوم أعضاء المجلس كلهم للإجابة كأنهم تلاميذ صغار في مدرسة ابتدائية. ويمكن اقتراح مشاهد كاريكاتورية مختلفة تفيد هذا المعنى).

عضو1: السي...السي... أنا أقترح التنديد بالفاعل.

عضو2:( يقوم بسرعة معارضا) أنا لست متفقا مع زميلي العضو الأول.

رئيس المجلس: وماذا تقترح أنت؟

عضو2: (بارتباك كله لم يكن ينتظر هذا السؤال)... أنا أقترح التنديد بالمفعول به.

عضو3: وأنا مع زميلي الثاني ضد زميلي الأول.

عضو4: وأنا مع زميلي الأول ضد زميلي الثاني."(ص:6-7)

يصور لنا هذا المقطع المسرحي بكاريكاتورية صادمة فظاعة الموقف الدرامي وجهل المسؤولين بشؤون التدبير والتسيير، وسذاجة الأعضاء المنتخبين في حل المشاكل المستعصية.

وتشخص المسرحية في حركتها الثانية انهيار المثقف العربي وانكساره وسقوطه في قيعان الرداءة والمجون والاستهتار ومعاقرة كؤوس الخمر والترنح سكرا وعبثا. فقد عبّقه السجن بروائح التعذيب والموت السيزيفي وكبله بسلاسل الخضوع والجبر وقيده كذلك بأداء مقامات الطاعة والولاء للأسياد وحكام البلاد ورجال السلطة المتجبرة، ليخرج بعد ذلك إلى الوجود المنبطح لينهشه الفقر والبؤس وتدغدغه البطالة وخيبة الأمل وليسمع خارج الزنزانة نتائج الحروب الدونكيشوطية وتردي زمن الهزائم والخيانات المتكررة. ويحضر السكير المثقف داخل المسرحية باعتباره شهادة صادقة على زمن الرداءة والتقاعس وغياب الفعل ومصادرة حقوق الإنسان:

"المجموعة: كنا مثلك يا سرحان نحلم بالدفء وبالفعل اليقظان، لكن...
سرحان: لكن ماذا؟

المجموعة: لكنا سقطنا في لحظة ضعف

السكير: كنت وحيدا يا سرحان... قاومت وقاومت، لكن هذا كياني واستسلمت.

السكير2: قاومت وقاومت...وفي تلك الليلة يا سرحان (صمت) حين وقعت وجدت أمامي في المخفر من كان بالأمس رفيق الدرب رئيسا للعسس.

السكير3: قاومت يا سرحان لكنهم أغروني بفاكهة الليل، وبكل ما تشتهيه نفس إنسان."(ص:14).

يكشف لنا هذا الحوار المسرحي سذاجة سرحان ومثاليته التي انساقت وراء التأمل والتفكير في لحظات الفعل والتغيير الحركي، بينما تفكير المجموعة كان واقعيا وموضوعيا ينبني على صدق المعايشة وصحة التجربة التي علمتهم أن ينصاعوا للأوامر مهما كانت قيمتها وإلا سودت جلودهم تحت أسواط التعذيب والتنكيل.

وينتقد الكاتب في الحركة الثالثة بطش السلطة العربية وركونها إلى سياسة الإلزام والاستعباد، والانفتاح على الآخر تطبيعا ومسالمة مع تقديم أعراضنا وأعراض نسائنا في سوق البيع والمزاد:

"الخليفة: نحن يا وزيري المحترم غير متزمتين. وسياستنا واضحة وشفافة، ننادي بالتعايش، ونؤمن بالتطبيع والسلام، ونوثر غيرنا على أنفسنا وأهلنا.

سرحان: حتى ولوكان بنا خصاصة؟

الخليفة: أو ليست هذه شيمة من شيم أسلافنا؟

الوزير: بلى! هي شيمة من شيم العرب السابقين واللاحقين.

المرأة: وتمشيا مع سياستكم الحكيمة يا مولاي، تراني أفتح (بحركة فيها دلال وإثارة جنسية)...

السياف: (يقاطعها وهو يهش عليها بسيفه) تفتحين ماذا؟

المرأة: (مكملة) أفتح أبوابي لكل الغرباء. أكون كريمة معهم ومعطاءة أشد العطاء (تشدد بمكر وغنج على كلمة معطاءة).

سرحان: معطاءة؟؟ (بسخرية ماكرة)

المرأة: خصوصا وأن بضاعتنا مطلوبة في الأسواق، وتعرف رواجا منقطع النظير."(ص:19).

وتعكس المسرحية ظاهرة البطالة التي انتشرت في المغرب على جميع الأصعدة والمستويات ومست حتى الحاصلين على الشواهد العليا، لذلك نجد المثقفين وأنصاف المثقفين والعاطلين في المسرحية مصطفين حول الحلايقي ومتجمعين حول منشط الحلقة الذي يلاعب قرده الممسوخ وهم يجرون وراءهم أحزانهم الموجعة ويجترون همومهم ولسعات الفقر المدقع ويفرزون آهاتهم ويعبرون عن مكنوناتهم الدفينة وتذمرهم الذي يفرغونه في الارتجال وتشخيص الدور المسرحي.

ويقارن الكاتب عبر صفحات المسرحية بين الفن الأصيل الشعبي الحقيقي والفن المزيف التجاري الذي يدر على أصحابه النقود والأموال الكثيرة، كما يلمح الكاتب إلى الإعلام المغربي المستلب بالأفلام المكسيكية والبرامج التافهة التي لا تعرف سوى الغناء الماجن والرقص المثير:

"الممثل2: ألالة راه حنا كلنا بحال ولدك ما لقيناش في فين نخدمو، وراحنا حينا باش نديرو التمثيل.

المرأة: ولكن هاذوك اللي يديروا التمثيل في التلفزيون راهم مشهورين، وكاع الناس راهم يتكلموا عليهم ويعرفوهم، وبلا شك راهم خانزين فلوس، ومبرعين. واش ماراكوش تشوفوهم كل عشية في التلفزيون عاطينها غير للشطيح والرديح؟ واش هذي كساوي؟ وواش هذوك فيلات؟ وواش هاذوك طوموبيلات؟؟ ويلي! ويلي! ويلي!

القرد: تغرقي فيه.

المرأة: (تهش على القرد فينهرها القراد)

الحلايقي: خلي عليك القرد، وكملي كملي...

المرأة: ونزيدكم، هاذوك المسلسلات المكسيكية، تحاسبوني يا لخوت إلى يبكيوني بكاء. وفي كل عشية نتلامو حنا الجيران عند واحد الجارة الله يكثر خيرها، ونبقاو مسمرين قدام التلفزيون، هذي تبكي، وهذه تنوح، وكل شيء ساهر ماكاينش اللي يتزعزع من بلاصتو حتى تكمل الحلقة ونتنهدو...

الممثل1: الله يكون في عون رجالكم." (ص:27-28)

وبعد ذلك، ينتقل الكاتب ليقدم رؤيته الفانطاستيكية التي تستند إلى التحول والامتساخ، إذ يدين العرب الذين فقدوا مروءتهم وإنسانيتهم وامتسخوا إلى بني قردون بسبب الثروة البترولية وكثرة الأموال التي يدرها عليهم. فأصبحت الحقيقة عندهم كحقيقة نيتشه تعتمد على القوة واحتكار الأموال ولو كان ذلك على حساب القيم والمبادئ الفاضلة والشرائع النبيلة.

فمن بني كلبون الذين تحدث عنهم الرحالة والجغرافيون العرب في كتاباتهم العجائبية إلى بني قردون الذين خسئوا بسبب نزواتهم وأطماعهم الشرهة وانسياقهم وراء السيقان البيضاء الفارعة وكؤوس الخمر المترعة ورقصات المجون العابثة؛ فضاع الحق وصال الباطل ورفع الشرع وسلط الظلم وتبختر الجهل في لباس المال والجاه.

ويثور الكاتب على زمن الشعارات والبيانات والخطب البلاغية ويندب زمن الفعل والحركة والتغيير فيقول على لسان الحلايقي بكل تهكم وسخرية:" هذا زمن الخطب والشعارات. هذا زمن المؤتمرات والبيانات. هذا زمن النعيق والنقيق، زمن الضياع والخيانات... زمن إحراق الأطفال فوق قرارات الأمم المتحدة...غابت أغنية الأطفال فوق قرارات الأمم المتحدة... غابت أغنية الأطفال في غزة، في بيروت، في بغداد، في سراييڤو، في كوسوڤو، فما عدنا نسمع غير سنفونية القتل والحرق. كل فحول العرب باعوا بنادقهم واشتروا البنادر والمزامير، وتحولوا إلى حلايقية يقدمون النمرات العنترية والخطب الحماسية...فكانت الكلمة ومازالت الكلمة...(يخرج الجميع)..." (ص:38)

ويسخر الكاتب كذلك من الإعلام العربي الذي لا يقدم سوى الأخبار التافهة والأغاني المميعة بروائح الجنس والسكر والعربدة الماجنة. ولا يردد سوى عبارات المدح والتبجيل للسلاطين والإشادة بإنجازات الآخرين في العلم والفنون والآداب، بينما العرب غارقون في سباتهم أو مكتفون بالبيانات التنديدية والشعارات الفارغة الجوفاء ينهشهم التمزق والصراع الأخوي ويدخلون فيما بينهم في حروب عجفاء تذكرنا بحرب البسوس أو حرب داحس والغبراء.

وما أروع المقاطع المسرحية التي استعرض فيها الكاتب الصورة الكاريكاتورية الماسخة للعرب وهم يستعدون للوحدة الواهمة ضد الحشرات الكاسحة ليصدروا البيانات تلو البيانات منددة بهذا الهجوم الشرس أللإنساني في حق الأبرياء العرب العزل. أما المجازر الدامية والدماء التي يسفكها الأعداء الحقيقيون فلا تستحق من بني قردون سوى الشجب والتنديد والصراخ الذي يتحول إلى صدى مبحوح في قاعات المؤتمرات الصلدة:

"المذيع: واش داخل إسرائيل هنا الله يهديك؟

المشاهد: وشكون هذا العدو المشترك انتاع لعرب غيرها؟

المذيع: يا ودي راني نتكلم على الذبان والجراد.

المشاهد: إوا قل لي باللي العدو المشترك هو الذبان والجراد؟

المذيع: وشكون عاد غيرهم؟

المشاهد: والعرب توحدو باش يحاربو الذبان والجراد، ماشي العدو انتاع الصح؟

المذيع: وفين عمرك سمعت باللي لعرب امشاو متافقين باش يحاربو العدو؟

المشاهد: (يشد على رقبة المذيع) ياويلي من الصباح وأنت تخطب علينا العرب توحدو، العرب توحدو ضد العدو المشترك، باش تحكينا على الذبان والجراد؟ بصح أنا اللي غالط صدقتك وبقيت نحلم بالوحدة ومحاربة العدو المشترك. أما هي فقاش كانوا العرب متفقين. ما كان غير هذا يأكل هذا، وهذا ينبح في هذا، وهذا يصيد هذا، أخ، اتفو (يبصق على وجهه، ويمسح المذيع البصاق ثم تدخل المذيعة)". (ص:43-44).

ويثور الكاتب في الحركة الأخيرة على السوبرمان العربي الذي لا يعرف سوى البطش بالشعب والتنكيل بالمثقفين وقتل الأبرياء وممارسة القوة من أجل إحقاق الباطل وطمس الحق الظاهر. وحينما يجد الجد ويصرخ الأطفال ويثور الشعب يهرب الجبان ويختبئ عن الأنظار.

ويتعجب الكاتب لما تقوم به ناقة البسوس من تدمير ورفس ودوس في حق الأبرياء المستضعفين، ويستنكر ما يقوم به الأعداء الألدة من مجازر في حق الأطفال والضعفاء والمظلومين، بينما الأسياد العرب في نعيم البترول الأسود وبحبوحة العيش الرغيد يعيشون على الغزل والبيان والجسد المترنح عطرا وجنسا، يفكرون في كيفية القضاء على أطفال المستقبل أطفال الصمود والمقاومة والحجارة وإجهاض ثورة التطلع والتغيير والحركة وإيقاف التاريخ وجدلية التطور القائمة على النفي والتركيب:

"السوبرمان: ليست لنا حدود ياغبي. الحدود وهم تاريخي. ونحن من يصنع الحدود والتاريخ. ولكن أخبرني يا عد كيف تم ذلك؟ وكيف كان رد فعل أولئك الأغبياء؟

عدنان: من تقصد يامولاي؟

السوبرمان: أولي أمرهم وذويهم، وهل من أغبياء غيرهم يا غبي؟

عدنان: آه، لقد تم ذلك نهارا يامولاي أمام أعيونهم، وأمام أعين كل الملإ. أرسل كليب ناقته لترعى في المراعي الخضراء باسم الله، فوجدت الخصب، وأهل المراعي مشغولون بالكؤوس والأقداح، واصطياد النساء الملاح. تجولت الناقة يامولاي بين المروج حتى استقرت في الجنوب، مخلفة كل الخطوب، فعوضت بذلك فعل حبوب منع الحمل والتانتور، ورفست الأطفال والشيوخ والنساء والعجائز، ومازالت تمتد شرقا وغربا، وفي كل اتجاه.

السوبرمان: وماذا قال الآباء،ماذا فعلوا؟

عدنان: الآباء غائبون. هم دائمو الغياب. يتغيبون حتى في حضورهم." (ص:57-58)

يؤشر المقطع المسرحي الأخير على الرغبة الأكيدة للقضاء على كل ثورة عارمة أو انتفاضة شعبية وخاصة تلك التي يقودها الأطفال، لذلك يقرر الكبار القضاء على الأسر المتناسلة والحد من الإنجاب وممارسة الجنس لكي لا يتدفق أطفال المستقبل، أطفال الممارسة والفعل. ويسخر الكاتب من الصحة العربية المريضة التي في حاجة إلى دواء حقيقي ومعالجة مستعجلة، على الرغم من أن مستشفياتنا تملك بزيادة ذلك السائل الأحمر لمداواة جروحنا وآلامنا التي كثرت بعد العديد من النكبات والنكسات والهزائم والمجازر والحروب الواهية التي كانت تشتعل لأتفه الأسباب.

وعلى العموم، فمسرحية "بني قردون" مسرحية واقعية وانتقاديه يتقاطع فيها ما هو اجتماعي وما هو سياسي، ويتداخل فيها ما هو اقتصادي مع ما هو تاريخي، ويتجادل فيها ما هو تراثي مع ما هو ثقافي ذهني. أي إن المسرحية دسمة بالقضايا الجدية والجادة مادامت تتعلق بالقضايا العربية المصيرية المرتبطة بتاريخ العرب وهويتهم وحاضرهم. كما ينتقد الكاتب مجموعة من الآفات والظواهر السلبية التي تفشت في المجتمع العربي كالتقاعس والكسل والخمول والعبث والتسيب والبيروقراطية والفساد بكل أنواعه والحكم الفردي المطلق والبطالة وتردي الإعلام العربي وانقسام العرب وتفرقهم وجبنهم وخوفهم من بطش الأعداء الذين يتكالبون على بلدانهم ويستبيحون أعراضهم ويهتكون شرفهم. ويندد الكاتب كذلك بانعدام حقوق الإنسان وانتشار الفقر والبؤس وتفاوت الطبقات الاجتماعية التي تعكس لنا مقولة هيجل ألا وهي: جدلية السيد والعبد.

وعليه، فالمسرحية تجسيد صارخ وصادق لتناقضات المجتمع العربي بصفة عامة والمجتمع المغربي بصفة خاصة. وبالتالي، تقدم المسرحية شهادة حية موثقة على انحطاط الواقع العربي وتردي الإنسان العربي المتآكل في ذاته وهويته وكينونته والممسوخ في آدميته وبشريته.

2- المستوى الفــــني:

تنبني مسرحية الدكتور مصطفى رمضاني "بني قردون" على الكوميديا السوداء أو الكوميك الصادم؛ لأنها تطرح قضايا جدية وجادة في قالب مأساوي حزين مغلف بالآلام والمعاناة الإنسانية، وفي نفس الوقت يستعين بالكوميديا الضاحكة والتهجين الكاريكاتوري الماسخ أو الگروتيسك القائم على الفانطاستيك عبر المزج بين التعجيب والتغريب، فيتحول البشر إلى حيوانات وقرود وسوبرمانات واهمة. ولقد تأثر الكاتب في هذا المنحى التراجيدي المطعم بالضحك والكوميك بتجربة حسن القناني رائد الكوميديا السوداء في المنطقة الشرقية بالمغرب الأقصى.

ويلاحظ أيضا أن مسرحية أستاذنا مصطفى رمضاني مفعمة بالفائدة والمتعة ومقصدية التغيير. فتتمثل الفائدة في التوثيق التاريخي للواقع العربي ورصد تناقضاته الجدلية والانطلاق من مجموعة من التصورات النظرية والتقنيات الإخراجية الغربية والعربية. أما المتعة فهي حاضرة بكثرة في فرجة المسرحية الدراماتورجية وسخريتها الضاحكة بإيقاعات حواراتها الماجنة الموحية والمهجنة بالتعيير والهجاء والنقد الكاريكاتوري. وكل من يقرأ هذا النص المسرحي فلابد أن يضحك ويسقط على الأرض من شدة الهزل وانبطاح الجد. إنها مسرحية فكاهية وكوميدية تقوم على التشخيص المشوه للإنسان العربي التائه السرحان وتصوير بهلوانياته المثالية وسذاجته الدونكيشوطية. وفي نفس الوقت تحمل المسرحية رسالة التغيير من خلال التركيز على أطروحة الشهادة والاستشهاد والصراع التاريخي الجدلي قصد البناء، مع استحضار أطفال المستقبل الذين سيحملون مشعل التغيير والحركة الجادة.

وما يلفت الانتباه في هذه المسرحية أن الكاتب قد كتبها على ضوء رؤية إخراجية واعية بتقنيات التشخيص اللفظي والبصري، ويعني هذا أن الكاتب كان يكتب الحوار وهو يمارس الإخراج بإرشاداته التوجيهية المتعلقة بالسينوغرافيا والدراماتورجيا والتشخيص.

هذا، وينتقي الكاتب ديكورا وظيفيا قد يكون جدارية جامدة صماء بباب على شكل قنينة خمر كبيرة مفتوح على الكواليس أو باب الساحة أو تكون قنينة خمر في شكل باب متحرك يدخل منه الممثلون ويخرجون، ليتحول الديكور بعد ذلك إلى فضاء الحلقة الدائري الذي يحيل على الذاكرة الفطرية الشعبية أو ما يسمى بالظواهر الما قبل المسرحية، أما الإكسسوارات التي أشار إليها الكاتب عبر حوارات المسرحية وإرشاداتها الإخراجية فهي وظيفية تخدم النص بطريقة سيميائية لغوية وبصرية ويمكن استخراجها من النص أو يعتمد المخرج على إكسسوارات أخرى حسب تصوره للعرض والمقصدية المعرفية والفنية والإيديولوجية التي يستهدفها الكاتب.

و يستعين الكاتب بالجوقة الموسيقية على غرار المسرح اليوناني في بداية المسرحية "برولوج" ونهايته "إيبولوج"، وهنا تحول فانطازي ساخر بأعضاء المجلس التمثيلي الذين يصيرون موسيقيين في الجوقة، بينما رئيس المجلس يحرك بعصاه إيقاع الجوقة ويصبح مايسترو الأوركسترا.

ويتخلى الكاتب عن التقسيم التقليدي للمسرحية إلى أقسام وفصول ومشاهد ولوحات ويستبدلها بالحركات على غرار مسرحيات محمد مسكين (تراجيديا السيف الخشبي) التي تحمل مصطلح سفرات، ومسرحيات عبد الكريم برشيد التي تحمل أسماء أخرى كأنفاس واحتفالات. وهذا التقسيم الذي يرتضيه الكاتب دال على الحركة والتوتر الدرامي والفعل الدرامي المقابل للسكون والحال الراكد. أي إن المسرح فعل حركي يقوم على التغيير والممارسة وترجمة الشعارات إلى أعمال وأفعال نضالية تغييرية وتصحيحية.

وتنتقل الإضاءة في المسرحية من الإشعاع الكلي للركح إلى الخفوت قصد الانتقال من حركة مشهدية إلى أخرى. وتظل الخشبة مضيئة في المسرحية لتنوير الكل بما فيهم المشخصاتيون وجمهور الصالة لكيلا يستلبوا بفعل الإيهام والتخدير والاستلاب الناتج عن المحاكاة والانبهار بأدوار الشخصيات.

ويتكئ مصطفى رمضاني على مجموعة من النظريات المسرحية التي يوظفها في نصه بشكل وظيفي مناسب كنظرية المسرح داخل المسرح باستلهام تصورات بيراندللو ونظرية الارتجال المسرحي التي تحيل على كوميديا دي اللارتي وتصورات قستنطين ستانسلافسكي في تدريب الممثلين التي تستلزم تقنية الارتجال والمعايشة الصادقة للدور. واستعان الكاتب بالحلقة وميتا مسرح في تبيان دور المسرح ووظيفته في الحياة والواقع، كما شغل الميم كوليغرافيا ونظرية الأقنعة والگروتيسك الامتساخي والفانطازي في تشويه الإنسان خلقة وخلقا:

"المجموعة: نحن أقنعة يا سرحان، أقنعة طمست معالمها الأيام.

سرحان: ولم لاتمزقون هذه الأقنعة لتعودوا إلى أدواركم الحقيقية؟

السكير: وهل تريدنا أن نمثل يا سرحان؟

سرحان: بل التمثيل هو ما أنتم فيه الآن، لأنكم ممثلون أدوار الصعاليك والمهمشين.

السكير2: وهل نقدر على أداء أدوارنا يا سرحان؟

سرحان: فلنجرب إذن، أو ليس التمثيل الحق فن المهمشين النبلاء؟"(ص:14-15).

وزد على ذلك أن مصطفى رمضاني يتبنى في هذا النص المسرح الملحمي البريختي في جدليته الواقعية والاجتماعية والاقتصادية، ويتخذ المسرح أداة للتغيير والكشف والتعرية باستخدام مفهوم التغريب والتباعد والأقنعة تفاديا لفكرة الاندماج والتقمص ومعايشة الدور اعتمادا على مفهوم التطهير الأرسطي. لذالك نجد الممثلين على خشبة الفضاء النصي يغيرون ملابسهم ويتمسرحون ويكسرون الجدار الرابع ليحركوا الجمهور كي يدلوا بمواقفهم الصريحة في القضايا المعروضة عليهم.

ونتساءل متعجبين هل تخلى الدكتور مصطفى رمضاني عن اتجاهه الاحتفالي الذي تبناه كثيرا في كتاباته وتحليلاته النقدية ومقالاته ودراساته القيمة ليتبنى مسرح النقد والشهادة أو نظرية النفي والشهادة والاستشهاد التي يمثلها في المغرب المرحوم محمد مسكين والتي تتعارض فنيا وجماليا ونظريا مع تصورات النظرية الاحتفالية عند عبد الكريم برشيد؟ وما هي الدواعي التي دفعت مصطفى رمضاني لتجاوز النظرية الاحتفالية واستبدالها بنظرية محمد مسكين المسرحية التي تتناقض مع التصور الاحتفالي، لأن المسرح في هذه النظرية كشف وتعرية، وشهادة صادقة في تصوير العالم الذاتي والموضوعي، واستشهاد ميداني من أجل تغيير الواقع. وينطلق محمد مسكين في بناء عالمه المسرحي نظريا وتطبيقيا من تصورات برتولد بريخت وتمثل التصور المادي الجدلي الماركسي في التغيير ومعالجة القضايا الجوهرية التي تتعلق بالإنسان، كما أن مسرح محمد مسكين مسرح شعبي جماهيري وملحمي في صراعاته الأفقية والدرامية، وكل هذا يتنافى مع المسرح الاحتفالي الذي يدعو إليه عبد الكريم برشيد ويدافع عنه أستاذنا مصطفى رمضاني؟!!

فهل تمثل مصطفى رمضاني لنظرية محمد مسكين يدل على عدم اقتناعه بنظرية أستاذه عبد الكريم برشيد، إذا علمنا أن المسرح الاحتفالي هو مسرح شعبي يحتفل به الجميع مثل مسرح جان ڤيلار، ولكن التغيير فيه مقنن بالوعي وعقلنة الخطوات والأفعال على الرغم من بعده الجماهيري الذي يظل حبيس الصالة المغلقة ووقع جمالية العرض والرغبة في الحفاظ على الأمن، مما يجعل الكثير من العروض الاحتفالية وخاصة لدى الطيب الصديقي عروضا سياحية وفلكلورية ساكنة ورتيبة ومملة. وفي المقابل، نجد أن المسرح لدى محمد مسكين هو مسرح التغيير الجذري والصراع الجدلي، لا يعرف المصالحة والمهادنة والتكيف مع الأوضاع والتأقلم معها. بل هو مسرح الأطروحة الجدلية القائمة على النفي والصراع والتركيب والحركة والنقد والشهادة والاستشهاد؟!!

والدليل على تأثر مصطفى رمضاني بمسرح النقد والشهادة يتجلى بكل وضوح في هذا الحوار الشيق الذي يعتبر فيه المسرح مكاشفة وتعرية وشهادة على الكائن والممكن:

"سرحان: فلنعشها إذن، وليعشها معنا كل هؤلاء الناس (للجمهور).
فلنعش الحقيقة ولنكشفها عارية. فهذا زمن المكاشفة والتعرية.

السكير3: فلنمثلها إذن مادام التمثيل فن المهمشين النبلاء.

سرحان: ولنعشها بالعقل والوجدان، حتى يدرك كل منا دوره بلا زيادة ولا نقصان.

السكير2: دون أن ننسى أنه لا يعكس الحقيقة كما تمت، ولا الواقع كما هو، وإنما يقدم شهادة للناس.

سرحان: شهادة على ما وقع.

السكير: وعلى ما يمكن أن يقع.

سرحان: اتفقنا إذن." (ص: 15-16).

ويشتغل الكاتب على التراث حوارا وامتصاصا وتهجينا عن طريق الاستخراج والاستدعاء واستحضار مجموعة من الشخصيات كالمتنبي وأبي نواس وديك الجن والعمل على بعض المستنسخات التناصية كالبسوس وكليب والآمدي والصولي وأسماء القبائل والأمم... من أجل أن يعكس جدلية الماضي والحاضر، وذلك رغبة في المقايسة والمشابهة، أي يريد الكاتب أن يقيس الحاضر على الماضي والعكس صحيح أيضا، ويريد كذلك أن يثبت أن الماضي مازال موجودا في الحاضر بكل تناقضاته السلبية. ويتخذ التناص في المسرحية طابعا فانطازيا ومحاكاة ساخرة وباروديا قوامها السخرية الكاريكاتورية والفكاهة والانتقاد الخشن والبكائية الضاحكة كما يظهر ذلك واضحا في توظيف الأمثال الشعبية والعبارات المسكوكة والأبيات الشعرية المهجنة والأغاني المقعرة.

وتساهم البوليفونية اللغوية وتنويع الجمل خبرا وإنشاء في إثراء اللهجة الساخرة والاقتراب من مستوى الجمهور والاقتراب من الطبقات الشعبية التي تقبل على المسرح لتجد نفسها داخل العرض ممثلة بلغتها وتعابيرها الموروثة أو المصطنعة. ولقد استعمل الكاتب لغة سهلة بسيطة ولكنها موحية مليئة بالتضمين والسجلات اللغوية التي تتجادل فيها الفصحى والدارجة والفرنسية المكسرة.

ويتخذ التركيب المعماري في المسرحية طابعا دائريا يبدأ بالجوقة لينتهي بنفس الجوقة، كما تتنوع الفضاءات داخل النص المسرحي، فمن الفضاء الإيطالي إلى فضاء الحلقة الدائري (الحلقة)، ففضاء الاستخراج والتوليد المسرحي ثم الاعتماد على الفضاء المفتوح القائم على نظرية المسرح داخل المسرح ونظرية الارتجال.

خاتمــــة:

ونخلص مما سبق إلى أن مسرحية "بني قردون" للدكتور مصطفى رمضاني مسرحية ساخرة تندرج ضمن الكوميديا السوداء أو الكوميك الصادم، وتعالج قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية وتاريخية في قالب تجريبي جديد يعتمد على مسرح النقد والشهادة والمسرح البريختي والاستفادة من ميتا مسرح والفانتازيا والگروتيسك والارتجال والمسرح داخل المسرح، والانفتاح على الحلقة والكوليغرافيا الميمية والتقليد البصري والسينوغرافية الوظيفية والموسيقا الشعببية المتناغمة.

ويتميز التركيب اللغوي والحواري داخل المسرحية بالروعة والإبهار والإدهاش والجمالية الوظيفية. ويظهر لنا النص أن مبدعه كتبه على ضوء رؤية إخراجية محكمة دراماتورجيا وسينوغرافيا وإخراجيا، وذلك بالجمع بين العلامات اللغوية اللفظية والعلامات البصرية التي ساهمت كلها في تشكيل فرجة النص الدرامية في كل أبعادها الدلالية والمرجعية والفنية والإيديولوجية.

ويتبين لنا كذلك أن الدكتور مصطفى رمضاني قد انتقل من الرؤية الاحتفالية التي كرس لها كثيرا من المقالات والكتب والأعمال الجامعية لينتقل بعد ذلك إلى مسرح النقد والشهادة الذي يمثله المبدع المغربي محمد مسكين. ولكن ماذا يعني هذا الانتقال من نظرية إلى أخرى؟ هل هو تراجع عن نظرية مسرحية ساكنة رتيبة تجتر نفسها كل مرة إلى مسرح ديناميكي شعبي وجماهيري يؤمن بالفعل والتغيير والصراع الملحمي الجدلي؟ أو أن هذا التحول مجرد تجريب لمجموعة من الطرائق الفنية والنظريات المسرحية لتأسيس مسرحي عربي بديل؟ أو أن هذا التحول هو تنويع في أشكال الكتابة الدرامية تفاديا للروتين ووالتكرار واستهلاك القوالب المبتذلة في الساحة المسرحية؟!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى