الخميس ١ نيسان (أبريل) ٢٠٠٤
قصة قصيرة
بقلم زكية خيرهم

فتاة حلمي

حين يندلق مساء أوسلو في فصل الشتاء، دون أن يطرقَ الباب ... يلون كلَّ ركن بها فتصبحَ كمحبرة سوداء على كل الاشياء حتى على قلبي. وتتبعها عاصفة الثلج مسنونة بجحافل البرد القارس على غربة وحدتي، قادمة من أوكار القطب فتملأ حجيرتي صقيعا، وتتسرب إلى سريري قشعريرة فتصطك أسناني، فما علي إلا ان أجرّ رجليَّ إلى حانة محمود المغربي. أجلس في نفس المكان. لم أغيره منذ ثلاثين سنة. بأي خف سأملأ ضمأك أيها الكلب النابح في داخلي إلى فريستك التي تبحث عنها منذ كان عمرك سبعة وعشرون سنة. غبار الزندقة حجب الرؤية عن عيني سنين طويلة، عند مفترق الطرق، فأصبحت كالأعمى أتخبط على غير هدى. كل ليلة اضع رأسي على وسادتي ... وسادتي التي حشوتها أحلاما وأمالا كثيرة للعثور عليها كي نضع رأسينا على وسادة ونحلم سويا في عش لا نافدة فيه لأتلصص على رائحة ما يطبخه الجيران.

سئمت من هذا المكان وسئم المكان مني ... لم أعد أطيقه. نفس الكراسي ... نفس الطاولات ... نفس الوجوه ... منذ كانت في طيف الشباب وهاهي الآن تطل على مقتبل الشيخوخة. لا أريد أن أنتهي عجوزا وحيدا.
ماذا تريد أن تشربَ يا سيد فؤاد؟
ولم هذا السؤال الغبي؟ البيرة كالعادة.
ذهب النادل مبتسما ليحضر طلبي. أما أنا فكنت اتأمله ... أذكر جيدا عندما جاء إلى هذه الحانة. شريدا، خائفا، هزيلا، جائعا، وحيدا، غريبا، من غير أوراق قانونية. ها هو الآن متزوج من نرويجية وانجب منها ثلاثة أولاد، كلهم يدرسون في الجامعة. كيف توفق هذا الوغد اللعين! تبا للقدر الذي يعطي لمن يشاء وما اشاءه أنا لم يشأ القدر أن يمنحه لي ولو حتى في الأحلام. سبعة وعشرون عاما مرت كلمح البصر، وأنا مازلت أتسكع في شوارع أسلو من خمارة لأخرى، ومن مطعم إلى آخر، ومن بيت دعارة لآخر، ومن فتاة شقراء إلى أخرى. سئمتهن كلهن، وسئمت تفتحهن الزائد عن الحدود، وسئمت تغنيهن بحريتهن الكاذبة، والمساواة ... اي مساواة واي هراء! متى إستوى الرجل بالمرأة؟ هذا ما تبقى أن ندخل إلى المطبخ ونغسل الأواني ونربي الأطفال وهن يتصعلكن تحت طاولات المكاتب.

جلس تحت سراب العمر ... يتشكل ... ثم ينزوي حيث رعشات الأمل تحارب اليأس في شفافية خاسرة ليلجم نزعات نفسه بجرعات كبيرة من البيرة. ها قد حان فصل الشتاء ببرده القارس وثلجه الزاحف على الجسد فيجعله متبلدا ...جامدا ... من غير إحساس. لابد أن أتزوج من امرأة أستقر معها ... ندفأ بعضنا ...ننجب أولادا وبناتا ... لا ... لا أولادا فقط. لا أريد البنات. سيضعن في هذه الحرية المقعرة ... حرية الزندقة والصعلكة. يجب أن أتزوج امرأة عربية مسلمة. ولابد أن تكون مغربية من بلدي وأن تكون بدوية وليست مثل اللواتي يتسكعن في مدن المغرب. بنات المدن متفتحات. أريد بنتا من البادية. متحجبة، محتشمة، قانتة، صالحة، لا تعرف الصعلكة، كلهن صعلوكات، خاصة من يحسبن أنَّهن مثقفات. أي ثقافة وأي علم! جهل في جهل وظلام في ظلام ... تبرج وكحول وتغيير الرجال كتغيير ملابسهن الداخلية. قبحكن الله أيتها النساء في العالم كله. أريد امراة مثل أمي. هي الوحيدة في هذا العالم الطاهرة العفيفة. أمي هي التي ستجد لي زوجة صالحة مثلَها. لابد أن أسافر إلى المغرب. غمرته فرحة عابرة حينما توقفت عاصفة أفكاره الهوجاء فجأة، أو أنه ظن ذلك ...

سافر فؤاد إلى الدار البيضاء، يومها أراد أن يغني ... يرقص ... رجع أخيرا إلى الوطن بعد غيبة طويلة ... منذ زمن الشباب وهاهو الآن في الخمسينيات من عمره .... كل شيء تغير كتغير تقاسيم وجهه ... الآن أحس بشوق وظمإ شديدين لرؤية أمه، التي لم تسعها رؤية ابنها.
أخيرا ستكون له أسرة قبل أن تودع الحياة. إغرورقت عيناه وهو مازال لم يغادر سماء المطار .... مات الهواء مخنوقا بالبكاء الرابض على أطراف حلقه ... لم هذه الأشواق تتفجر في قلبي فجأة ... شوق لأمي ... لوطني ... لهذا الهواء الساخن الذي يذيب ثلج سنين غيبتي. ركب فؤاد الحافلة من المطار إلى ضيعته ... كم كان مرعوبا في هذه اللحظة بالذات ... دموع تنزل من عينيه كالطفل خائفا أن تباغته أمه برأسها المطلِ من وراء الباب، فتلعن السهر والدمع ....وتلعنه ... بل تلعن أوراق العالم وأقلامَه ....

يتطلع من خلال نافدة القافلة ... آه ما أكثر الأشياء التي تركتها ورحلت ... كم أنا قاس مستبدُُّ من غير قلب يحس ... وضع يده على صدره وكأنه يريد أن يتحسس إن كان لديه قلبٌ ٌ كباقي الناس ....قلب ينبض فعلا ... ناسجا أحاسيسا جياشة لسمفونية تبتدىء من حافات الأزل البعيد.

كانت أمه تطل من النافدة ...تنثر نظراتها على أكمام الضوء الأول ... تنتظر ابنها بعد غيبته الطويلة وبعدما جفت مآقيها. فها هي الآن تمجد الوقت في عنبات الإنتظار ... لم يعد هناك خوف يحرسها من وحدتها ووحشتها ... عيناها تشعان بالفرح وهي تراه مقبلا من سحب يكسرها الرعد ... من جبال يغطيها الثلج ومن ليالي تعثر في نصفها النجم. ضمته إلى صدرها بكل حب الأمهات ... في لحظة بين الصمت والرجاء ... بين العتاب والبكاء ... بين الفرح والشكر لله الذي أرجع ابنها إليها لتطمئن على مستقبله العائلي قبل أن تغادر مسرح الحياة. اختارت أمه الفتاة المناسبة، فتاة أحلامه ... أقام حفلة الزفاف ... لم تسعه الفرحة ... لم يعد يفكر في شيء ... حتى أنه خجل من رغبته في البكاء. كان همه أن يبدو أنيقا أمام زوجته ذات الجمال الغاوي. اكتحلت عيناه بنور حداثة سنها ... صبية في السابعةَ عشرةَ من عمرها .... غجرية لا حدود لفتنتها ... تلهثث مع نبض الحياة ....مع خرير المياه المناسبة في الجداول ...مع ظل الأشجار ....

جاءت صاحبة الحسن والدلال والخلق المصون إلى النرويج ... إلى أسلو ... بهرها جمال الطبيعة و أثارها لون أهل البلد الذين يشبهون الدمى بعيونهم الزرقاء كلون البحر في أعماقه. كل شيء يشع بريقا ... نظافة لم تعهد أن راتها من قبل. لا حجارة ولا غبار ... لا حمير ولا أبقار ... لا قحط ولا جفاف ... سكنت مع زوجها في كرونلاند. أعجبتها المنطقة إلى حد الجنون ... أعجبها كل شيء فيها ... ألوان الناس وأشكالُهم ... زيُّهم وضجيجُهُم ... أولادٌهم الذين يتسكعون بين الأزقة ... هذه هي الجنة وإلا فلا ... أين كنت أعيش أنا وإلى أين جئت ...؟! يا الله كم نحن لا نعرف شيئا عن العالم الآخر ...! إنه فعلا عالم لا يرى إلا في الأحلام....
أحست بزهو .... فرحة عارمة تجتاح روحها ... يستهويها منظر الثلج يتساقط بخفة وكأن أسرابا من السنونو خلعت عنها ريشها ونثرته في الفضاء ... يستهويها صخب الأطفال وهم يشيدون الرجل الثلجي ... أغمضت عيناها وطارت إلى الفضاء .... هكذا سأبقى في ارتفاع دوما ... انا غير كل نساء ضيعتي وإلا لما اختارتني أم فؤاد لكي أعيش معه في جنة حياتي الزوجية.

 حبيبتي اعرف ان كل شيء جديد بالنسبة إليك، وقد تشعرين بشيء من الغربة. لكن، لا تخافي اعرف هنا عائلات كثيرة ومحافظة من شتى الأجناس المسلمة. سأعرفك على عائلة مغربية. أعرفهم جيدا... ستساعدك الزوجة على التأقلم في هذا المجتمع. إنها امرأةٌ ٌ محتشمةٌ ٌ وبنت عائلة مثلك.
تعرفت خدوج على الزوجة المحتشمة، وساعدتها على التأقلم وأشياء كثيرة ... كثيرة جدا ... فأصبحت متفتحة ومنفتحة ... تعلمت اللغة ... وعرفت ما لها وما عليها حسب قانون البلد ...فأصبحت تتمتع بكل حقوق البلد الواقعية والخيالية أيضا، وذاقت طعم الحرية والتقدم والعصرنة، فخالت نفسها طاووسا لا مثيل له في الحسن والبهاء. وأن زوجها يكبر اباها بخمس سنوات ولا يتقن اللغة النرويجية. لم تعد صاحبة الحسن والدلال تطيق العيش معه. فأصبحت الحياة التي تعيشها مع زوجها تمزق أحشاءها الملتهبة، وأصبح يومها الذي تقضيه في البيت كبيرا بحجم البحر. وأمست لياليها مؤلمة. وأمرَّ من حنظل نهارها، اعتصرتها الآلام، عش يملكه غراب عجوز يعجز عن منحها ما تريد ... تريد أن تسافر إلى الغرب والشرق عبر الفضاء واليم وترى مالم تره ولو في الأحلام ... تريد أن تخرج إلى مطعم مع زوجها وتجلس جلسة رومانسية تشعرها بأنوثتها وباهتمتمه بها...تريد الصخب ...تريد المرح ... تريده عندما يرجع إلى البيت أن يداعبها ويضحك معها ويحدثها.

لم تعد تتحمل روتينية حياته ...من العمل ... إلى البيت ... ثم إلى غرفة الاستقبال. انتظرته حتى رجع من عمله الأول في حياته ... فتربصته كلبؤة جائعة مريضة ...
 أريد الطلاق.
 لماذا؟
 لم أعد أتحمل القرف الذي أعيش فيه. إنني اختنق. جارتي سافرت إلى الدانمارك وصاحبتها إلى تركيا وأنا لم أسافر حتى لزيارة أهلي، حرمت من لقائهم خمس سنوات منذ زواجنا. وليس بمقدورك أن تفعل شيئا حتى أن تخصب في أحشائي جنينا يؤانس وحدتي. إنني أختنق في قفص الدجاج هذا الذي يدعى بيتك.

 الآن أصبحت ترينه قفصا بعد أن كان في عينيك قصرا. لا والله سأرجعك من حيث أتيت. إلى الدجاج ... وإلى البراري الواسعة وإلى الحمير والبغال وإلى رعاية الأبقار يا قح ...
 لا تقلها وإلا ناديت لك البوليس.
 البوليس! أين البوليس؟ أعشق البوليس ... أموت في السجن ... أتوق إلى المشنقة ... يا عاصفة اللؤم .. يا ناكرة الخير ...يا رجس الشيطان ...يا وجه الشؤم ... يا مجلبة الهم ...يا بوم النحس ... إقترب منها كأسد جسور ... مكشرا عن أنيابه ... وهي تبتعد عنه بخطوات إلى الوراء ...تنظر إلى الغرفة الموصدٌ بابٌها .... وكأنها تبحث عن منفذ للهروب ....صمتها عميق .... بل صراخها حبيس .... ستائر شباك الشقة مرخاة ....ترتعد فرائصها ... لا من مغيث ينقذها ...تتمنى لو يرجعٌ بها القدر سويعات لتعدل عما قالته ولترضى بحياتها معه ...

تتخيل نفسها صغيرة تلعب مع اطفال ضيعتها ... ترشق الدجاج بالحجارة .... تتخيل أمَّها تحلب البقرة (داشة)... طعم الطاجين بالخضر والزيتون ... ذلك اليوم الأول الذي أتت فيه إلى عش زوجها ....شقتها النظيفة الصغيرة ....لباسها المختلف عن لباس الضيعة ...الماكياج المبعثر
على خزانة صغيرة بغرفة نومها ... فساتين نومها الشفافة التي لم يعرف جلد جسمها طعمها الحريري الناعم ... تنظر إليه بعينين ... نادمتين ... خائفتين ... جاحظتين ... مبللتين ...مرتجفتين ...عينين تصرخان بكل أنواع اللغات ...وبكل أنواع الأحاسيس ...بل بكل أنواع الخوف والندم .....

أما هو فكان يقهقه بصوت مرتفع ... ينظر إليها والدموع تتفايض في صدره ... لا يعرف مصدرَها ... تساؤلات تنطلق من أغوار غريزة ... سخيفة ....سحيقة ...طبيعته الحيوانية تٌقلع سلوكه الحضاري ...تٌـعمي عينيه ...يقترب منها ... مبرزا كل عناصر القوة من مخالب وأنياب وقرون ...... وفي غفلة من ذلك الطقس الكئيب .... توقف الزمن على سريره ... توقفت أصابعه ... على خيوط طفولته ... وسراب شبابه الذي ما كان إلا سرابا من أطياف الضياع والكآبة... يتخيل طعام أمه من يد زوجته ... أكل بلده ...في غربته ... دفء زوجته رغم رداء الثلج الذي يلبسه ...تمناها لو لم تقل ما قالت ... لو عدلت عن الكلام ... يخطر بباله ليلة عرسه ... يتحسر على همه الموبوء من أول تاريخ وعبرَ كل صباح ... كان نبضه يغوص في الهذيان ... يستجدي أطيافا تمر من هنا وهناك ....كزوجته تماما ...فالمراس والعودة صار مستحيلا ......................

في تلك اللحظات الحاسمة ... كانت تقول لنفسها خسرت جنتي بيدي ... لا أريد شيئا .. لا تقتلني ... أريد العيش معك ألف مرة ... على أن أعيش في ضيعتي بالمغرب ... لا أريد حرية ... ولا سفرا ... أريد فقط حياتي ... وأريدك في حياتي ... كل ذلك الحوار أبى الرعب أن يدعه يخرج من فمها ... ولتنقذ حياتها من الهلاك ....كانت ترجف ... ترتعد ... جسمها يتلاشى ويتساقط شيئا فشيئا وهي تحاول الإبتعاد منه ... تحاول الهروب منه ... لكن كيف لحمامة جريحة الجناحين أن تفلت من تحت براثن الهزبر.

وأطبق يديه المتجعدتين على عنقها النحيل بكل قوة، إلى أن جحظت عيناها وسافرت بروحها إلى عالم حريتهـا.


مشاركة منتدى

  • كنت اود من الكاتبة المغربية ان تجعل جانباُ للتفاؤل والنظر الى المستقبل افضل من ان تجعل مشكلة الحياة في بين قضبان الدوائر ولهذا نريد رواية تعالج أمور رونسية أفضل من هذة المشاركة

    • السلام عليكم.. في الحقيقه أن القصه رائعه تميل إلى شيء من الخيال
      المفرط . وإني عندما قرأتها تذكرت الشاعر الفذ أبو القاسم الشابي
      وأقول إمضي واطلقي لخيال الفضاء الفسيح الرحيب ولاكن ربما كنت قد أعلنت في هذه القصه أنك من الرومانسيين وقلت أني رومانسيه أرجوا تحديد مذهبك الأدبي .. وتزويدي بدراسات عن الشابي. وشكراً

      عرض مباشر : رسالة تحفيز

  • اختي الكاتبة
    صدقني اني من هواة كتابة الشعر والقصص
    ولدي موقع في الانترنت اتمنى زيارتك
    ومشاركتي بمثل هذه المواضيع
    www.ebrahim24.jeeran.com

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى