الخميس ٢٨ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم نعمان إسماعيل عبد القادر

يوسف إدريس وأرخص الليالي

لكل شيء قيمة، ولكل قيمة وزن، ولكل وزن ثمن يقدّر متأثر بعوامل كثيرة كالعرض والطلب وكثرة الانتاج وتكدس البضاعة وغيرها فإما أن يرتفع السعر أو ينخفض. وهذا ما طالعنا به الدكتور يوسف إدريس في فصته "أرخص ليالي" حين ميّز بين ليالٍ غالية وليالٍ رخيصةٍ. ولم يأت هذا التمييز عفويًا أو من فراغ بل من دقةٍ في النظر وتمعنٍ بما يجري على الساحة المصرية من كثرةٍ في الانجاب مما أدى إلى تفاقم الوضع وانفجارٍ سكانيٍ هائل لا يُطاق.

و"أرخص ليالي" وليس ليالٍ قصة تتحدث عن شخص يدعى عبد الكريم يدعى عبد الكريم كان سائرا في الزقاق الضيق بعد صلاة العشاء يشتم آباء القرية وأمهاتها ، لأن الأطفال الذين كانوا يلعبون ويصرخون قاموا بمضايقته: فمنهم من كان يتسرب من بين رجليه ومنهم من قام بنطحه ومنهم من شدّ له البشت ومنهم من ضربه بصفيحة . فأخذ يلعن آباءهم والداية التي كانت السبب في ولادتهم. وكان عبد الكريم يتساءل عن كثرتهم وتمنى لهم الموت والإصابة بوباء الكوليرا. ولما ابتعد عنهم ووصل إلى منطقة مظلمة رأى أن الناس جميعًا قد ناموا ولا صوت لهم كأنه في وسط مقبرة. دخل بيته وأغلق الباب فوجد زوجته نائمة نوما عميقًا . وأراد النوم ولكنه لم يشعر بالنعاس. وأراد أن يسهر إلا أنه تذكر أنه لا يملك فلسًا واحدًا . فعاش في صراع نفسي وظل يتساءل أين يسهر وكيف يسهر؟
فخرج ووقف أمام البركة دون أن يحرك ساكناً وطال وقوفه ثم عاد إلى بيته وتخطى أولاده واخذ يزحف في الظلام إلى أن وصل إلى امرأته ، فأخذ يزغدها ويطقطق أصابعها ويدعك قدميها حتى استيقظت فخلع ثيابه واستعد لمضاجعتها ونسي الأولاد وكثرتهم في القرية ولم يفكّر في تحديد نسله مع أنه يعلم أن عائلته كثيرة الأولاد.

تدور أحداث القصة حول شخصية رئيسية واحدة وهو عبد الكريم وهي شخصية مدوّرة متطورة ومتغيّرة .. شخصية متناقضة . هذا الرجل البسيط الفقير الذي لم يجد مكانًا يسهر فيه ظلّ يردد عباراته وشتائمه على الأطفال ومن انجب الأطفال حتى وصل إلى زوجته فنسي كل شيء وأخذ يجامعها تحت جنح الظلام وهو لا يدري إن كانت ستنجب له ولدًا آخر أم لا.
وتمثل شخصية عبد الكريم طبقة كاملة في مصر من أبناء الفقراء الفلاحين الذين لا يجدون لقمة العيش ومع ذلك ينجبون أطفالا. ولعل السبب في ذلك يعود إلى الجهل والفقر وعدم اهتمام الحكومة والمسؤولين من أجل تحديد النسل.
كما وتمثل المرأة تمثل الفلاحات البسيطات الفقيرات الغير مثقفات ينمن قبل الرجال لعدم انشغالهن في أمور أخرى.. المغلوب على أمرهن وهن حقل لانجاب الأطفال.

والأولاد الفقراء الغير مهذبين في تعاملهم مع الكبار والذين تم إنجابهم من دون تخطيط يمثلون دور الجيل القادم الذي سيبني المجتمع بلا أساس ليقوم المجتمع على أسس غير متينة.

وكثرة الإنجاب في مصر مسألة أقلقت ولا زالت تقلق الكثير من المثقفين . ويركز الأديب يوسف إدريس في هذه القصة على أسباب، كثرة الإنجاب وهي أسباب تجهلها الحكومة المصرية. ومن أهمها الفقر المدقع الذي يحرم الناس من الكثير من الأمور المسلية وابسطها المقهى، ولذلك لا يستطيعون أن يفكروا بأمور أخرى غير الجنس. وقلة التوعية والتثقيف من أجل التثقيف. ولقد أثبت يوسف أدريس للقراء أن هؤلاء الفقراء يدركون ويعلمون مدى خطورة هذه الظاهرة ومع ذلك لا يفعلون شيئًا وينحي الكاتب باللائمة على المسؤولين المصريين الذين لا يخططون لاحتواء هذه القضية عن طريق تحسين ظروف معيشتهم ونشر الوعي من أجل تحديد النسل.

ومجموع الأحداث في القصة والتي صنعها عبد الكريم بنفسه ليست كثيرة ولقد ابتدأها بخروجه من المسجد ومعاكسة الأطفال له وشتمهم ثم أخذت الأحداث تتطور شيئًا فشيئًا حين اشتد صراعه النفسي الذي أربكه وزاد من تردده ولم يعرف أين سيسهر ووصلت ذروتها مع خروجه من بيته ليتشوق القاريء لمعرفة ما سيلي ذلك ولكن وقوفه أمام البركة صامتا ولم يجد مفرًا سوى العودة إلى البيت جعل العقدة تنحلُّ وعُرفت النتيجة وهي الاستمرار في نفس الطريق كباقي البشر والاستسلام للعادات والتقاليد والشهوة الجنسية.
وتدور أحداث القصة في قرية مصرية ولا تتعدى هذه الأحداث حدود المسجد وطريق العودة بين الزقاق وبيت عبد الكريم والبركة. وهذه الأماكن لها دلالاتها ورمزيتها. فاختارها الراوي كمسرحًا لقصته كي يثبت للقراء والمسؤولين أن الأماكن الريفية واماكن الفقر وراء مشكلة الانجاب الكثير والانفجار السكاني.

اما الزمان فقد حدده الراوي ما بين العشاء وعدة ساعات أخرى في الليل وهو زمن التفريخ والانجاب. كما أشار الراوي إلى أن الوقت كان باردًا في إشارة منه إلى أن الفصل كان شتاءً.

كما وقام الراوي بإهمال الأحداث لفترة ترك لنا بعض الفجوات الزمنية من أجل زيادة المعلومات ليأخذنا إلى ذهن الرجل فيدخل في أعماق نفسه ويصور لنا الصراع الداخلي الذي دار في ذهن عبد الكريم والأسئلة المتعددة التي ظلت تحوم في نفسه لمعرفة المكان الذي سيسهر فيه ثم ياخذنا إلى مكان ذهني آخر وهو بيت الشيخ عبد الكريم الذي لا يستطيع الوصول إليه بسبب اختلافه معه حين دفعه فأوقعه في الحوض.
وظلت الأحداث متوقفة حين أخذ يتساءل في ذاته عن إيقاظ زوجته من أجل أن تحضر له الطعام.

وانتقل الكاتب فجأة بعبد الكريم فوجدناه واقفًا أمام البركة وهذا الانتقال المفاجيء ما هو إلا فجوة زمنية جديدة استخدمها الكاتب ليترك التفاصيل الأخرى الغير مهمة.

واستخدم الكاتب في هذه القصة أسلوب السرد التقريري حيث اهتم بوصف التفاصيل الدقيقة الخارجية (الوصف الخارجي) لما كان يلبسه الرجل ثم انتقل الى الوصف الاجتماعي بوصفهم فقراء لا يجدون ملا من أجل السهر ودفع أجرة الشاي أو القهوة وأخيرا إلى الوصف الداخلي فعرف القاريء أن الشخصية عاشت في صراع داخلي. ولكننا لم نجد في القصة حوارًا خارجيًا مباشرًا ( ديالوج) دار بين اثنين . بل وجدنا فيها حوارًا داخليا (مونولوج) دار في داخل ذهن الشخصية على لسان الراوي وبصورة غير مباشرة أيضًا حيث استخدم الراوي ضمير الغائب بدلا من استخدام ضمير المتكلم. فأخذ يسأل :

 "يسهر؟ وأين يسهر؟..
 صحيح؟! أين يسهر؟..
 هل يلعب الاستغماية مع الأولاد؟..
أو تزفه البنات وهن يقلن: يا بو الريش.. إنشا الله تعيش؟"

أما اللغة في القصة فهي لغة وسطى تخلو من الالفاظ الصعبة وكان الكاتب أحيانًا يهبط إلى مستوى استخدام للالفاظ العامية من أجل التقريب من الواقع ولجعل القصة أكثر واقعية. "البشت"، "الكوريرة" "الطرمبة" "يا بو الريش انشالله تعيش" "دركه" الخ...
وتعمد يوسف إدريس في تكرار بعض الألفاظ في القصة من أجل التأكيد وتسليط الضوء عليها:

طنطاوي: يبدو أن هذه الشخصية هي شخصية أحد المسؤولين الذين لم يبذلوا جهدا في حل مشاكل مصر. ولعله يشير إلى أحد الرؤساء أو أحد الوزراء وأصله من طنطا؟

البشت: وهو المعطف او العباءة التي يلبسها وكان ينوء بحملها على ظهره فهي تثقل ظهره . وأراد الكاتب ان يشير على ان قضية الأولاد والانجاب مثل هذا البشت الذي صنعه بيده من صوف النعجة. أي صناعة محلية. وصناعة الأولاد هي صناعة محلية يصنعها الناس بأيديهم .
النوم: ويقصد أن الناس مع المسؤولين نائمون وغافلون عن حل القضايا الت تهم مصر. وحاول عبد الكريم أن لا ينام وأن يسهر وان يحل المشكلة لوحده ولكنه لم يستطع فاستسلم للأمر الواقع وعاد للنوم مثل باقي البشر.

الظلام: اشارة الى ان الناس يعيشون في ظلام دامس لا يرون جيدا ولا يشاهدون ما يدور حولهم.
وما يلفت انتباه القاريء هو الأسلوب الساخر في الوصف وبعض التشبيهات والالفاظ: " وكان ما ضايقه وكتم أنفاسه شخير الأرانب أهل بلده"
هل يلعب الاستغماية مع الأولاد؟
"الكوريرة" – عامية وفيها ما يشير الى السخرية
"معمل التفريخ"
"قدماه الكبيرتان المفلطحتلن اللتان تشقق أسفلهما حتى يكاد الشق يبلع المسمار فلا يبين له رأس"
"وراح يشمشم بأنفه المقوس الطويل الذي كله حفر سوداء صغيرة."

وتعمّد إدريس في اختيار الأسماء المناسبة للدلالة على نمط الشخصية وسلوكها فها هو عبد الكريم الذي أراد الكاتب ان يشير لنا من خلاله أنه كان كريما حيث تبرع من خاطره وأخذ ينتقد من أجل التغيير والاصلاح فانتقد النائمين ويشخرون كشخير الارانب وهذا الأمر ضايقه جدا وحاول السهر. وسب الأولاد وكثرتهم وسب آباءهم وأمهاتهم الذين ينجبون وكأنهم مثل معمل التفريخ وحتى انتقد نفسه حين تذكر أن له أولاد ستة ومع كل هذا فإن كرمه وتكرمه قد ضاع مع عودته للبيت ولقائه بزوجته.
كما استخدم الكاتب عنصر التشويق بصورة متقنة حيث ابتدأ القصة بحدث مفاجيء وهو خروج عبد الكريم من المسجد وقيامه بشتم الأولاد وآبائهم وأمهاتهم.. هذا الحدث جعل القاريء يتساءل عن الاسباب التي دفعته إلى فعل ذلك وعن الشيء الذي سيحدث بعد ذلك.
وأخيرًا نجد في القصة صراعًا داخليًا دار في نفسية البطل وهو الذي دفعه الى الشتم حين واجه مشكلة مع الأطفال الذين لم يتلقوا تربية صحيحة ولم يجوا شيئًا يعملونه سوى التحرش بالمارة ومعاكستهم. وأدرك الرجل خطورة ذلك (كثرة الانجاب وسوء التربية) وحاول أن يغير ولكنه لم يستطع فاستسلم للأمر الواقع وكانت ليلته رخيصة كباقي الليالي.


مشاركة منتدى

  • أجد أن قصة "فى الليل" غير مقصوده فى حد ذاتها وإنما هى تعكس قضية فكرية فى ذهن الكاتب، يوسف إدريس أراد انتقاد سلبيات الواقع من أجل تنبيه الناس لمشكلة تتفاقم وهى كثرة الإنجاب فى مصر والتى أدت إلى الانفجار السكاني

  • قصة"في الليل" غير مقصوده فى حد ذاتها وإنما هى تعكس قضية فكرية فى ذهن الكاتب

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى