الجمعة ٢٩ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
الرسائل المتبادلة بين محمد شكري ومحمد برادة
بقلم محمد علي شمس الدين

ورد ورماد

الرسائل المتبادلة بين الروائيين المغربيين محمد شكري ومحمد برادة، والمؤرخة بين عامي 1975 و,1994 انتظرت لغاية العام 2006 لكي تصدر في منشورات الجمل في كولونيا (ألمانيا) بين دفتي كتاب، بعنوان «ورد ورماد/ رسائل». يرجح أن التسمية عائدة لبرادة تبعا لإشارة منه غير مؤرخة في الصفحة الأولى من الكتاب، مشيرا الى ان الورد ليس وحده الجميل، بل الرماد له ايضا في انطفاءاته، «روق وصدق وافتتان بالموت»... ويرجح ايضا ان هذا العنوان مسبوق بعنوان أحد دواوين أدونيس ـ وهو المسمى «وقت بين الرماد والورد»... إلا أن ذلك لا يمنع من الذهاب الى أولى المجموعات القصصية الصادرة عن دار الآداب، للروائي شكري، الراحل منذ سنوات خلت، وهي بعنوان «مجنون الورد». كما أن طبعة كولونيا (ألمانيا) التي بين أيدينا تشير الى أنها الطبعة الأولى، في حين ان الرسائل المتبادلة قد نشرت في الرباط قبل موت شكري... وبعد تشاور حصل بين طرفيها (على ما يرد في متن بعضها). يضاف لذلك ان تأريخ الرسائل هو تأريخ إجمالي بين العامين 1975 و,1994 ولم يرد لأية رسالة تأريخ خاص بها... ما يجعلها متواليات كلام متبادل على امتداد عشرين عاما من صداقة الكاتبين.

تفيدنا إشارة برادة أنه أول من بادر لنشر فصل من كتاب محمد شكري (الأشهر والأهم)، المسمى «الخبز الحافي»، سنة 1977 بمجلة آفاق المغربية التي يرأس تحريرها، ولكنه أيضا (وهو الأهم) يذكر أنه حمل مخطوطة الخبز الحافي معه الى دار الآداب ببيروت، فاعتذرت عن عدم نشرها لجرأتها... (يكتب برادة: «اعتذرت عن نشرها» ـ ينظر ص6).

السيرة الملعونة

وشكري في نظري هو «الخبز الحافي». هو كتاب في السيرة الذاتية، لا مثيل له في العربية.. وهو سيرة الطفل المرعب والبوهيمي المتمرد الذي تطلع كلماته وتفاصيل سيرته كما ينبثق الدم والقيح من جسد ملتهب. لا أجد في العربية ما يوازي «الخبز الحافي».. هو كتاب لوترياموني، أو اذا شئت، آرتوي «نسبة لأنطونان آرتو»، ينطوي على مزيج خاص من الوحشية والحنان.. صاحبه دموي شرير فضّاح وقديس في وقت واحد. وحتى حين يدمر أخلاقيات عائلية ومدينية نشأ عليها في بيته الأبوي في طنجة، فإنه تماما يكون كصاحب مبضع ذاتي يجرح ويشفي. من أصدقائه في طنجة كان جان جينيه، بول بولز وتنسي ويليامز. وهو في «الخبز الحافي» لا يقل عنهم. شغفي الشخصي «بالخبز الحافي» دفعني الى سبر ما يمكن أن يكون مستورا خلفه... على الرغم من انه سرد سيري. سيرة صعلوك من طنجة.. وذلك ان شكري ما ان أفصح عن سيرته من خلال الكتاب، حتى جعل هذه السيرة مكشوفة.. وإنني شخصيا تولدت فيّ (من خلال الكتاب نفسه) رغبات في التغلغل في ما هو أبعد... في كل ما يشير الى حيثيات أو أسباب هذه الكتابة. من أجل ذلك، وجدتني مدفوعا الى قراءة الرسائل المتبادلة بين شكري وبرادة، وكان شغفي يقودني الى سلوك مسالك هذا الصعلوك الذي مات، بعد أن ترك «الخبز الحافي»... وأحسب نفسي هنا شبيهاً بهنري ميلر في كتابته عن آرتور رمبو في «زمن القتلة».

برادة وشكري شخصان على طرفي نقيض. كلاهما روائي، ولكن، لكأن كلاً منهما في كوكب. تحصل لي أن شكري هو ما تمنى أن يكونه برادة... هو وليده العجيب المشتهى... خطابه له أبوي محب حريص على انتظام دقات قلبه المشوش، يدعوه في رسالة مكاشفة مهمة (ص43) للاقلاع عن المباذل ومواصلة الكتابة... ودائما دائما يحضه على الكتابة... لكأن محمد شكري هو أحد أبطال برادة الأحياء الذين لم يكتبهم، لكأن محمد برادة هو الجانب العاقل من الروائي، وشكري هو الجانب المجنون، ودائما العاقل مشدود للمجنون وحريص على اندلاع جنونه في الكتابة. وكان شكري غالبا ما يتجاوز موعظة برادة ومرة ضجر منها... وكان برادة يقترح على شكري بعض صيغ الكتابة، ويذكر أنه تشارك معه في كتابة رواية مشتركة أو قصة مشتركة بعنوان «لعبة النسيان» ولست أدري اذا كانت هي نفسها «رواية النسيان» الصادرة في الدار البيضاء العام ,2001 باسم محمد برادة، وهي غير مذكورة في جملة كتابات شكري، وتشير المراسلات بين الكاتبين الى أنها في صيغتها الأخيرة قرأها شكري وعلّق عليها في إحدى رسائله: «استلمت لعبة النسيان. انها لعبة التذكر» (ص103).

الشغف الروائي لبرادة، الذي كانت تتوزعه اهتمامات الزواج والتعليم الجامعي، ورئاسة اتحاد الكتّاب المغاربة، والأسفار والندوات والاهتمامات الاجتماعية والادارية... هذا الشغف الروائي المكبوت أو المبدد لبرادة، رآه على الأرجح، في محمد شكري... في نقيضه... (يكتب له شكري ردا على رسالة وصلت إليه من نيويورك حيث دعي إليها برادة للمحاضرة: «استلمت رسالتك الجميلة من نيويورك. غبطتك كثيرا. قد أحقق بعضا من الأسفار في مستقبلي، لكنني، أكيدا، لا أستطيع أن أتفوق على عملاقيتك فيها: لأننا نختلف: كل وحظه...» (ص70).. وفي هذه الرسالة بالذات، يبتهج شكري من كون صديقه «لم يعد يعنفه على نزواته».

اكتب، اكتب

يظهر برادة محرضا دائما لشكري على الكتابة. ولكنه أيضا يحرضه على السفر والخروج من طنجة لأنه «وُلد ليعيش في الاعصار والمغامرة» (ص80) على حد قوله... وهو تحريض صحيح في الافتراض... لكن ما يلاحظ على سيرة محمد شكري والأجزاء التالية من سيرته الشطارية، لا سيما «السوق الداخلي» أنها أدنى من «الخبز الحافي»، وأن الروائي الذي صنعته طفولته الشقية، وعالمه المحلي ومدينته «طنجة»، وفقره وشجاره ومرضه وسعاله ونزواته الخام وكرهه لوالده. وتطوّحه بين الحانات والمقابر، والمقاهي، من دون مال... ولا شهرة... هذا الروائي الذي سجل «الخبز الحافي» لم يتغير للأحسن والأعمق والأغرب، بعد شهرته العالمية، وكسبه للمال، وأسفاره، وتنافس المترجمين على ترجمة روايته، وإغداق المديح عليه، وتحوله الى ظاهرة إبداعية في المغرب والقاهرة وبيروت، وفي باريس ولندن واليابان ونيويورك... وفي كل أرجاء المعمورة... فقد غدا الرجل عالميا وهو يبحث في وطنه وفي الوطن العربي، عمن يغامر بطبع «الخبز الحافي». ولا يخفي برادة ابتهاجه بصديقه العالمي. يقول له في إحدى رسائله «يا بختك...»، ويتتبع خطواته في الحياة والكتابة والانتشار خطوة خطوة. وأكاد أتخيله حين يحوطه بهذا الحب وهذا الاهتمام وهذا الانتباه لحياته وكتابته، ويلح عليه في كل رسالة تقريبا بقوله: أكتب.. أكتب.. أكتب.. أكاد أتخيل برادة، يؤسس، أو ربما يؤسس، لرواية ذاتية اسمها «محمد شكري»، يكتبها برادة نفسه، بطلها شكري كوجه مرتجى لبرادة. رسائل شكري لبرادة، ضربات كتابة ساطعة.. حادة.. شديدة الاختزال والإصابة... ومن شدة صدقها وإصابتها تتمنى وأنت تقرأها أن لا تتوقف... يقول «منتصف الليل.. لم يبق لي إلا أن أنطح الجدار.. من لم ينغمس في دم الحياة لا يحق له أن يتكلم عن الجرح.. أمص الآن ما تبقى في الزجاجة. اللعنة على السيجارة الأخيرة سأدخن الأعقاب في سلة المهملات...». وتحس رسالته صدى جسده وصدى موقعه «لي في هذه الحانة ركني كسلحفاة» «في اللاعمق حياتي تطفو. حتى رسالتي هذه لا أرغب في كتابتها. صديقاتي العاهرات القديمات غزتهن الشيخوخة بسرعة فبقيت وحدي»... وهكذا.. ففي ضربات القلم عند محمد شكري في رسائله ما يشبه طعنات سكين في أديم أبيض كل طعنة تترك أثراً. الكتابة عنده، في هذه الرسائل، كالكتابة في «الخبز الحافي» ليست طعنات في هواء فارغ بل في لحم حي من الحياة والجسد والورقة. ثم هو، ودونما قصد، يكتب أحيانا ما يشبه القصيدة:

«نظرت طويلا الى فتاة إنكليزية في إحدى الحانات فسألتني:
 لماذا تنظر إليّ هكذا؟
 لأني أريد أن أموت.
ابتسمت ولم تضف شيئا.
لو رآها من يعرف كيف يراها لعانق سراب ليلها. أول الأشياء قد يأتيك آخرها في أولها» (ص114).

يقول شكري في إحدى رسائله: «ما الحياة ان لم تكن؟» «سألتني سعاد: لماذا لا تكتب ما تحكي؟ قلت لها: ما لا يُحكى هو ما ما يُكتب».
رجوع


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى