الأحد ٨ تموز (يوليو) ٢٠٠٧
تساؤلات وتوضيحات حول صورة (نيويورك)
بقلم عادل الأسطة

مدخل لقراءة موضوع المدينة في شعر درويش

يشكل موضوع المدينة في أشعار محمود درويش ظاهرة لافتة للنظر تستحق أن تدرس دراسة مفصلة، وقد اقترحت، شخصيا، هذا الموضوع على إحدى طالبات الدراسات العليا في جامعة النجاح وزودتها بقائمة تضم أسماء القصائد وأبرز الدراسات التي يجدر بها أن تقرأها علها تنجز دراسة أكاديمية في موضوع جدير بأن يدرس، وكنت شخصيا، قد توقفت، من قبل، أمام صورة القدس في أشعار درويش، وذلك حين درست صورة القدس في الشعر العربي المعاصر، وناقشت قصيدة "تحت الشبابيك العتيقة" التي أغفلها دارسو موضوع القدس ولم يعتبروها قصيدة قدس. (حول ذلك أنظر مجلة كنعان، أيار، 1999، عدد 96، وكنعان، تموز، 1999، عدد 97)

وليس هناك من شك في أن من يلقي نظرة على عناوين مجموعات الشاعر يلحظ أنها تخلو من ذكر المدينة، وإن لم يخل بعضها من ذكر أسماء أماكن، ويمكن هنا أن نذكر عناوين مثل "عاشق من فلسطين" (1966)، و"العصافير تموت في الجليل" (1969). ولكن نظرة على عناوين قصائد الشاعر الرئيسة أو على النص الموازي لها، وأقصد به هنا الإهداء، ترينا أن الشاعر التفت إلى المدينة مرارا وخصها بالذكر وجعلها عنوانا لقصيدته، ويمكن هنا التمثيل على ذلك:

- تحت الشبابيك العتيقة: إلى مدينة القدس وأخواتها
- قاع المدينة
- غريب في مدينة بعيدة
- امرأة جميلة في سدوم
- عائد إلى يافا
- المدينة المحتلة
- حوار مع مدينة (أصبح اسمها فيما بعد "بين حلمي وبين اسمه كان موتي بطيئا)
- طريق دمشق
- حوار شخصي في سمرقند
- الحوار الأخير في باريس
- اللقاء الأخير في روما
- تأملات سريعة في مدينة قديمة وجميلة على ساحل البحر الأبيض المتوسط
- قصيدة بيروت
- مطار أثينا
- ذهبنا إلى عدن
- وفي الشام شام
- غيمة من سدوم
- طوق الحمامة الدمشقي

ويلحظ المرء، وهو يلقي نظرة على مدن درويش التي كان لها حضور في عناوين قصائده فقط، أن مدنه تاريخية (سدوم، سمرقند، روما، أثينا... الخ) وعربية (سمرقند، بيروت، دمشق، القدس... الخ) وأوروبية (باريس، روما، أثينا) ومحتلة (المدينة المحتلة، يافا، القدس) ومحددة الاسم تارة (يافا، روما، سمرقند) وغير محددة الاسم طوراً (قاع المدينة، المدينة المحتلة، تأملات سريعة في مدينة قديمة وجميلة على ساحل البحر الأبيض المتوسط). وإذا ما أمعن المرء في قراءة أشعار الشاعر كلها اكتشف أسماء مدن أخرى غير التي ورد ذكرها سابقا في العناوين، مثل حيفا والفسطاط والقاهرة والناصرة ونيويورك... الخ).

وتجدر الإشارة إلى أن دارس موضوع المدينة في أشعاره ملزم بمعرفة نشأة هذا الشاعر وعلاقته بالمدينة. لقد ولد درويش في قرية البروة في الجليل الفلسطيني، وهي قرية دمرها اليهود عام 1949، وحين غدا في الثامنة من عمره اضطر إلى العيش في قرية مجاورة، حتى إذا ما اقترب من الخامسة عشرة ترك المدينة ليعيش في عكا وحيفا، وبحكم انتمائه، فيما بعد، إلى الحزب الشيوعي، تمكن من زيارة بعض مدن المنظومة الاشتراكية مثل (موسكو) و(صوفيا) و(برلين)، ولما حلت بالأمة العربية هزيمة حزيران 1967 زار القدس ومدن الضفة الغربة وكانت هذه المدن المدن التي خصها بقصيدته "تحت الشبابيك العتيقة" وأرى أنها أبرز قصائده، حتى تلك الفترة، في موضوع المدينة.

بعد تركه الوطن في عام 1970 عاش درويش في القاهرة ودمشق وبيروت، وبعد عام 1982، أقام في باريس، ليعود في منتصف التسعينات وليقيم في عمّان ورام الله، وقد خص أكثر المدن التي عاش فيها بقصائد، أو أتى عليها إتيانا عابراً في قصائد لم تكن أصلا مخصصة للمدينة، ولكن عمان ورام الله لم تحظيا حتى هذه اللحظة بأي ذكر. (أي حتى تاريخ نشر هذا المقال في 19/9/2000).

ويلحظ مما سبق أن أكثر المدن التي ذكرها درويش في أشعاره أو خصص لها مساحة من شعره هي مدن زارها وكانت له علاقة بها، ولكن هذا لا يعني أن ثمة مدنا كتب عنها من خلال قراءته عنها، وهذه المدن هي المدن التاريخية التي لم يعد لها، على أرض الواقع، حضور، مثل سدوم مثلا، وربما تجدر هنا الإشارة إلى أن أبرز قصائده في الأندلس "أحد عشر كوكبا على آخر المشهد الأندلسي"، أنجزت بعد مدريد 1991، يوم زار الشاعر الأندلس- إسبانيا.

وإذا جاز لي أن أتعجل القول وأقول متسائلا: ما هي المدن التي تظل حاضرة في الذاكرة بعد قراءة أشعار درويش؟ ما هي مدنه التي تلفت أنظار القراء فإنني، شخصيا أرى أنها القدس وغزة وبيروت ودمشق والمدينة القديمة الجميلة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإن كنت أيضا أذكر دائما قصيدة "مطار أثينا" وقصيدة "كان ما سوف يكون" التي يذكر فيها نيويورك. ويبدو المقطع الذي أتى فيه على القدس، من قصيدة سرحان... هو المقطع اللافت للنظر.

"وما القدس والمدن الضائعة/ سوى ناقة تمتطيها البداوة/ إلى السلطة الجائعة/ وما القدس والمدن الضائعة/ سوى منبر للخطابة/ ومستودع للكآبة/ وما القدس إلا زجاجة خمر وصندوق تبغ.../ ولكنها وطني".

تماما كما يبدو المقطع الذي أتى فيه على ذكر غزة، في قصيدة "الخروج من ساحل المتوسط" وهو مقطع طالما ردد في أواسط السبعينات، لافتا للنظر:

"وغزة لا تصلي حين تشتعل الجراح على مآذنها/ وينتقل الصباح إلى موانئها، ويكتمل الردى فيها/ أتيت/ أتيت/ قلبي صالح للشرب/ سيروا في شوارع ساعدي تصلوا/ وغزة لا تبيع البرتقال لأنه دمها المعلب....".

وأما مقطع قصيدة بيروت فهو، ربما، الأكثر انتشارا وشهرة، وقد يعود السبب في ذلك إلى أن القصيدة كتبت في مرحلة متأخرة، وأنها. وإن تشابهت في موضوع المقاومة مع غزة. قاومت فترة طويلة، عدا أن مقطعا من القصيدة غناه المغني المعروف مارسيل خليفة. ولا أظن دارسا لشعر درويش لم يتوقف أمام فاتحة القصيدة:

"تفاحة البحر، نرجسة الرخام،
فراشة حجرية بيروت، شكل الروح في المرآة
وصف المرأة الأولى، ورائحة الغمام
بيروت من تعب ومن ذهب وأندلس وشام
فضة، زبد، وصايا الأرض في ريش الحمام
وفاة سنبلة، تشرد نجمة بيني وبين حبيبتي بيروت
لم أسمع دمي من قبل ينطق باسم عاشقة تنام على دمي وتنام.."

ومع أن درويش أتى، في قصائده على مدن كثيرة، إلا أنني في حدود ما أعرف، وما أعرفه قد يكون ضئيلا، لم يول، في أثناء دراسة موضوع المدينة في الشعر العربي، عناية كافية، وسوف أقف أمام دارسين كبيرين أولهما الدكتور إحسان عباس في كتابه "اتجاهات الشعر العربي المعاصر" (1977) وثانيهما هو شاكر النابلسي في كتابه "مجنون التراب: دراسة في شعر وفكر محمود درويش" (1987) لأبين أنهما لم يلتفتا كثيرا إلى أشعار درويش في المدينة.

أنجز د. إحسان عباس كتابه في عام 1977، ويتطلب الحكم الذي أصدرته أن أراعي هذا، وهذا يعني مساءلة أشعار درويش حتى العام المذكور. فهل كان درويش حتى عام 1977 أولى المدينة اهتماما لافتا ليلتفت الدارس إلى هذا الموضوع في أشعاره؟ هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية علينا أن ندرك أن د. عباس لم يفرد كتابه كله لدراسة موضوع المدينة، فقد خصص عشرين صفحة تقريبا، من أصل 225 صفحة لهذا الجانب، وربما التفت، بهذا، لشعراء دون غيرهم، وهكذا لم يلتفت إلى قصائد درويش في المدينة، بالإضافة إلى سبب آخر مهم هو أن أهم قصيدة كتبها درويش في المدينة، هي قصيدة "حوار مع مدينة" (ش. ف، ع15، 1972) لم تعد في "محاولة رقم 7" (1974) تحمل هذا الاسم. لقد غدا اسمها "بين حلمي وبين اسمه كان موتي بطيئا". وربما يكون هذا التغيير ضلل الدارس الذي بحث عن موضوع المدينة تحت العناوين، حتى إذا ما وجد عنوانا، وإلا لكان قرأ القصيدة ودرسها.

ونعود إلى السؤال الأول: هل أولى درويش حتى عام 1977 موضوع المدينة اهتماما؟ والجواب نعم، فلقد كتب عن المدينة المحتلة، وكتب عن المدينة المقاومة (غزة)، وكتب عن المدينة المقدسة وأخواتها، تماما كما كتب عن دمشق والمدينة بشكل عام، المدينة التي وحد بينها وبين المرأة (فكوني امرأة وكوني مدينة).

أما الدارس شاكر النابلسي فقد أنجز دراسته عام 1987، وكان درويش حتى هذا العام كتب قصائد أخرى في مدن أخرى ولعل أهم قصيدة أنجزها هي قصيدة بيروت التي كان لها نصيب كبير في كتاب النابلسي، فقد درسها وهو يدرس موضوع الرثاء في أشعار الشاعر، وتحديدا رثاء المدن (ص437-447). غير أن النابلسي لم يدرس موضوع المدينة في أشعار الشاعر بتفصيل بين، ولا أعرف إن كان دارسو هذا الموضوع قد أتوا بتفصيل بينّ على القصائد السابقة لقصيدة بيروت، لقد خصص الدكتور مختار أبو غالي كتابا خاصا لموضوع المدينة، "المدينة في الشعر العربي المعاصر" (1995)، وللأسف لم أحصل عليه لتكون أحكامي أكثر دقة، غير أنني، فيما قرأته من دراسات عن درويش، لم أقرأ دراسة مفصلة عن المدينة في أشعاره، ويظل هذا الحكم قابلا للتعديل والتغيير. هنا آتي إلى ما أدرجته في العنوان: "تساؤلات وتوضيحات حول صورة (نيويورك)".

(نيويورك) في شعر درويش

كان الدافع لهذا المدخل ولهذه التساؤلات والتوضيحات الدراسة التي ألقاها الدكتور محمد الخزعلي، المدرس في جامعة اليرموك، في مؤتمر النقد الأدبي الثامن، في 25-27 تموز من العام 2000، وقد تناول قصائد لتعسة شعراء لم يكن درويش من بينهم، وقد لفت نظره، إثر انتهائه من إلقاء ورقته إلى أمرين اثنين هما: إهمال قصيدة درويش "كان ما سوف يكون" والمنهج الذي سار عليه.

وأرى أن الاكتفاء بانتزاع صورة المدينة من النص الشعري لتبيان تصوير الشاعر للمدينة لا يجدي نفعا، إذ لا بد، في حالة دراسة صورة مدينة غربية في الشعر العربي الذي يكتبه عرب، لا بد من تتبع نظرة الشاعر إلى المدينة العربية أيضا، وربما يذهب المرء إلى ما هو أبعد من ذلك، بل لا بد للدارس من فعل ذلك، فيبحث عن المكان الأول الذي نشأ فيه الشاعر، وهو ما فعله د. عز الدين إسماعيل في كتابه "الشعر العربي المعاصر: قضاياه وظواهره الفنية" (1966) حين درس موضوع المدينة في الشعر العربي الحديث، وقد رأى أن معظم الذين رسموا صورة قاتمة سلبية للمدينة كانوا من أصول ريفية وقدموا إلى المدينة بعد أن أقاموا فترة طويلة في القرية، فكانت المدينة تشكل لهم عالما صادقا لأنهم لم يألفوه كما ألفوا عالمهم الأول البسيط الوديع.

هل جاء الذين كتبوا عن (نيويورك) من مدينة تشبهها؟ هل ذهبوا إليها من مدن أقرب إلى القرية، مدن شرقية لا تعد، إذا ما قورنت بالمدينة الغربية، مدينة؟ وهل كانوا ميالين إلى عالم الغرب، أم معادين له، في زمن كانت أمريكا فيه تقود معسكرا منحازا إلى إسرائيل، زمن كان العالم كله منقسما إلى معسكرين؟ وماذا كتبوا عن مدن غربية وأوروبية أخرى، بل ومدن عربية عاشوا فيها؟ إن الاكتفاء برسم صورة لمدينة واحدة قد يبدو أمرا مضللا، ومن هنا لا بد من رسم صور عديدة لكل المدن التي كان لها في شعر الشاعر المدروس حضور، ولا بد أيضا من معرفة اللحظة التاريخية التي كتبت فيها هذه القصيدة أو تلك، فقد يزور الشاعر المدينة الواحدة غير مرة، وقد يعدل من نظرته إليها أيضا، فهل صورة (موسكو) التي كانت لليسار في العالم قبلة يحج إليها هي الصورة نفسها التي تبدو عليها الآن، لليسار الذي ظل يسارا بل ولليسار الذي كان؟

كتب درويش قصيدته بعد موت راشد حسين في شباط 1977، واسترجع فيها زمنا آخر، زمنا التقى فيه درويش براشد حسين، ولكن الفارق الزمني بين الزمنين الكتابي والشعري لم يكن طويلا، وأرجح أنه لا يزيد عن السنوات الخمس، وكانت أميركا في تلك الحقبة نصيرا بلا حدود لدولة إسرائيل، وكانت أيضا لا تعترف بالممثل الشرعي للفلسطينيين م.ت.ف هذا من ناحية ومن ناحية ثانية كان كلا الشاعرين، وكانا من أصول ريفية، قد عاشا في مدن عربية مثل بيروت ودمشق والقاهرة، مدن لم تحقق لهما ولشعبهما ما طمح هؤلاء كلهم إليه، وهو ما يبدو واضحا في القصيدة نفسها، وهذا ما سيتضح بعد قليل. كان درويش وراشد قد غادرا فلسطين لأنهما لم يستطيعا تحمل ما كانا عليه، وكانا يأملان أن يقيما في مدن غير محتلة حتى تتحرر مدنهما المحتلة ليعودا، من ثم إليها وقد تحررت، وقد عبرا عن ذلك بوضوح، في نصوصهما الشعرية، ولكن المدن لم تحرر فاضطر الأول، أي- راشد- إلى السفر إلى (نيويورك) ليقيم فيها، تماما كما اضطر الثاني في عام 1979 إلى الرحيل إلى (باريس) ليقيم فيها، وعبر عن خيبته في قصيدته المشهورة "رحلة المتنبي إلى مصر". ويجسد المقطع التالي من "كان ما سوف يكون" هذا الذي ذهبنا إليه:

والتقينا بعد عام في مطار القاهرة
قال لي بعد ثلاثين دقيقة:
"ليتني كنت طليقا
في سجون الناصرة"

ومن المؤكد أن هذا التمني الذي يصدر عن راشد حسين لا يعود فقط لكونه ريفيا غير قادر على العيش في المدن- يصفه درويش في القصيدة بأنه ابن فلاحين من ضلع فلسطين- وإنما يعود إلى النيل الذي ينسى، وإلى أنه لم ير المصري في مصر، تماما كما يعود إلى أسباب أخرى مثل نسيان الأصدقاء له وعدم تذكره، وإلى حنينه إلى الماضي. وعلينا ألا ننسى أن مصر في زمن عبد الناصر غير مصر في زمن السادات.

وتبدو (نيويورك) في القصيدة على النحو التالي: تبدو مدينة ذات سور زجاجي، ولا صفصاف فيها، ويبدو الإنسان فيها شاحبا كالشمس الشاحبة هناك، إنها غابة إسمنت لا ريش لحمام فيها، تماما كما أن فجرها لا يلسع كما يلسع فجر فلسطين، وفوق هذا تبدو مدينة زحام لا تلمع النجمة فيها، إنها مدينة تابوت تدعو الغرباء إلى تابوتها الرسمي.

غير أن الأهم من هذا يكمن في عدم انسجام الشاعر مع هذه المدينة، تماما كما أنه لم ينسجم مع غيرها:

"لم يسرقه هذا القمر الواقف تحت الطابق العاشر في منهاتن....
قال إن الوقت لا يخرج
مني، فتبادلت وقلبي مدنا تنهار من أول هذا العمر
حتى آخر الحلم.....
أنبقى هكذا نمضي إلى الخارج في هذا النهار البرتقالي
فلا نلمس إلا الداخل الغامض

"

هكذا تنهار المدن من أول هذا العمر حتى آخر الحلم، والسبب أنه لا يلمس إلا فلسطين، إلا الداخل الغامض، كأن لا حل لمشكلته بعيدا عن حقله وريفه، بعيدا عن فلسطين التي نشأ فيها وتربى عليها. والمدن الأربع التي يرد ذكرها في النص هي (نيويورك) والقاهرة والناصرة ويافا، يبكي راشد في نيويورك مدينة الزجاج التي لا صفصاف فيها (حول دلالة الصفصاف أنظر النابلسي، ص306 وما بعدها) ويتمنى، وهو في مطار القاهرة، لو أنه طليق في سجون الناصرة، وهذه مفارقة، ويهرب الشعر من القلب إذا ما ابتعدت يافا التي تختفي إذا عانقها، كأن يافا هي الشعر، ولا شعر إلا في حضرتها، وإذا ما نظرنا إلى المدن في مجمل أشعار الشاعر فسنجد أنها ليست كلها على شاكلة نيويورك، فثمة مدن قديمة وجميلة، وثمة مدن فلسطينية وأخرى عربية، ثمة مدن لها ماضِ جميل وحاضر مختلف، مدن كانت في الماضي ذات شأن ولم تعد في الحاضر ذات أهمية، وقد لا يكون التشكيل العمراني لجمالها وعدمه السبب الوحيد في موقف الشاعر فيها، فقد يكون هناك سبب آخر هو موقف الشاعر من حكامها القدامى وموقفه من حكامها الجدد، وقد يكون السبب في ذلك الموقع الذي يكون فيه أيضا.
أهدى درويش قصيدته "تحت الشبابيك العتيقة" إلى مدينة القدس وأخواتها، وكان يومها ماركسيا، وكان يقيم في حيفا، ثم عاد وقصر الإهداء على مدينة القدس، ولم يكن، يوم فعل ذلك، ماركسيا بالدرجة نفسها، كما أن القدس غدت، في نظر الفلسطينيين ذات مكانة متميزة، لأنها أصبحت أكثر من غيرها، عرضة للتهويد المطلق. (حول ذلك انظر مجلة كنعان، تموز 1999، عدد 97، ص74).

يرد في "جدارية" درويش (2000) ما يلي:

"قد أضيف إلى الحكاية وصف
عكا/ أقدم المدن الجميلة
أجمل المدن القديمة"

والسؤال الذي يثار هو: إذا كانت عكا لدرويش هكذا فهل ستكون في نظر مواطن أميركي يزورها كما هي في نظرة درويش، وبخاصة إذا كان هذا المواطن من سكان (نيويورك) وله هناك قصر منيف؟ أم أنه سيرى في عكا مدينة قديمة لا تختلف عن المدن القديمة مثل (روما) و(أثينا)، وان هذه المدن كلها، وبخاصة إذا كان الأميركي هذا غير مغرم بالماضي، لا تعني له الكثير؟ وهل سيرى في الصفصاف الذي تفتقده نيويورك ما ينغص عليه حياته؟

ولن أقارن، هنا، صورة (باريس) و(أثينا) و(روما) بصورة (نيويورك)، وإن كان ذلك مهما لأن موقف درويش من أميركا غير موقفه من فرنسا واليونان وإيطاليا سياسيا وحضاريا أيضا.

ملاحظة:

حول المكان في أشعار محمود درويش أنظر دراستي المنشورة في مجلة الأسوار عكا، العام 2005، عدد 27.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى