الجمعة ١٠ آب (أغسطس) ٢٠٠٧
بقلم مسلم محاميد

أبرهة وتوم، وأبو رغال خارج الصورة

"للبيت ربٌّ يمنعه"، وارتفعت الأكف إلى السماء تدعو وتدعو وتنهمر الدموع خوفاً وإشفاقاً من بطشٍ لا متناهٍ، قادمٍ من البعيد البعيد.
ما بين الأمس وبين اليوم شراعٌ يمخر ذات البحر، أراد أن يرسوَ في ذات الشاطئ ويطأ بنعليه المتسخين ذاتَ البرّ، والأسماك التي علقت في قعر فُلْكه، هي ذات الأسماك، والأسماك التي لحست الطين عن نعليه هي ذات الأسماك.

اربعةَ عشر قرناً من الزمان، ورغم الفروق الشاسعة والمتشابهات الكثيرة، ما زالت عقلية ذلك الحوت القادم من البعيد ذاتَ العقلية.
أبرهةُ الحبشي يريد أن يروّج لبضاعته، وأية بضاعة: بضاعة الاستبداد والحقد والبطش. وتوم تانكريدو يريد أن يروّج لبضاعته، وأية بضاعة: بضاعة القهر والقتل والتشريد. ذاتُ البضاعة وذاتُ التجارة. والمستهلك هو ذاتُ المستهلك الذي يبتاع هذه البضاعة مقهورا، ومأموراً وربما راضياً أحياناً. وكيف يشتريها: هل يشتريها "بثمنٍ بخسٍ دراهمَ معدودة"؟ أبكنوز الأرضِ وقصورها؟ كلا بل إن المستهلك الذي يشتري هو الذي يدفع ثمن البضاعة المزجاة ويبقى مديناً للجلاّد!

والمستهلكون إما أن يبكوا كابتينَ قهرهم في أحشائهم المهترئة من شدة الخوف والجوع والعطش، وإما أن يُعِدّوا الشايَ والفطائرَ للغازي، وإن شاء الغازي أهدوه ملابسهم الداخليةَ لا ليستروا عورتَه المفضوحةَ، بل ليفضحَ هو سَترَ عوراتهم وهم يصفقون له ويشكرونه لأنه تواضع وذكر أسماءهم وشكل ولون عوراتهم على لسانه أو في صحفه أو سجّلها في قائمته السوداء ضمن الذين يجب إبادتهم –في أحسن الأحوال- كالجراد.

"للبيت رب يحميه" وما زالت أكف الضراعة ترتفع وترتفع، وما زالت الأقدام الهاربة من اللامكان إلى اللامكان ومن اللازمان إلى اللازمان تميدُ بها الأرض، وتبحث لها عن موطئ ليس فيه للجحيم لهاث. وكلّ خرطومٍ في الطرف الآخر يحمل رأساً غيرَ تقليدي، يوجّهه نحو صدورهم العارية التي وُقّعت بثلاث لغات: لغةِ السّياط الحاقدة، ولغة الزمهرير، ولغة الشمس المتّقدة.

وما زال أبو رغال يعتنق الديانة المستوردة والثقافة المستوردة، ويفي بكل ما يملى عليه من أوامر مستوردة، ويسجد تحت أقدام مستوردة ويبكي بدموع مستوردة ويشقّ للضحك أشداقاً مستوردة. ما زالت قدماه الحافيتان تنزفان من لسع السياط المستوردة، وما زالت تشقّ الأرض بكل تصميم وإرادة رغم الألم، لترشد الأقدام المستوردة إلى الهدف المحليّ.

وفي هذه الحالة البائسة، تتّقد السماء وتحلّق فيها عصافيرُ لا تعرف الزقزقة ولا الغناء، وليست مواطنَها أفنانُ الأشجار، في كلّ منقارٍ قنبلةٌ تسحق من وما تصيب، ويعلنُ أبرهة الحبشيُّ استسلامه لهذه العصافير ويُلقى وجندُه عصفاً مأكولاً فتراهم صرعى "كأنهم أعجاز نخلٍ خاوية فهل ترى لهم من باقية"؟!
وما زال أبرهة العصر، الذي لا يفهم سوى لغة البطش والاستعمار والضرب، -فكأن العالم أمسى حانةً يرودها هذا السكّير ، يضرب ويكسر ويبطش دون أدنى مقاومة-، ما زال يلوّح بلغة السلاح النووي وبضرب أكثر الأماكن قدسية في قلوب العرب والمسلمين جميعاً. وهذا من المتشابهات بين الأمس واليوم. فبالأمس أراد أبرهة أن يضرب بسلاحه الفتاك الكعبة المشرفة، واليوم يريد أبرهة الأمريكي أن يضرب بسلاحه الفتاك الكعبة وما حولها من مقدسات. فكأن أربعة عشر قرنٍ من الزمن، لم تنجح في تغيير ذهنية المحتل المستعمر الغازي، الذي كان وما زال يشكل ذاتَ النموذج التاريخي المعتمد على البطش. واللافت أن أبرهة الأمريكي لم يكن على الخريطة السياسية أو التاريخية في عهد أبرهة الحبشي، ولكن، على ما يبدو أن المستعمر دائما يرث هذه العقلية من سابقيه بصورة تلقائية ودونما تلقين.

ولنا أن نتساءل اليوم: ما الذي سيفعله مليار ونصف من العرب والمسلمين إذا افترضنا جدلاً أن أبرهة العصر سيرتكب ذاتَ الحماقة التي ارتكبها أبرهة الحبشي؟ هل سيرفعون أكف الدعاء والضراعة ويقولون: للبيت رب يمنعه؟ هل سيعمل بعضهم كأبي رغالٍ يقودون جلادهم إلى بيوتهم ومعاقلهم وهم باسمون فرحون بما كسبت أيديهم؟ أم أنهم سيذودون عن حياضهم ويصدون المعتدين؟

أسئلةٌ واسعة صعبة: والذي يمكن أن يلمح لنا بالإجابة عنها هو الواقع الذي يعيشه العرب والمسلمون. فما دام العرب والمسلمون فرحين بلسع سياط جلاديهم، معتقدين بأن الثقافة المستوردة أفضل من ثقافتهم التي بُنيت على مدىً طويل من العصور والأجيال والأحداث والإبداعات، وما دام هؤلاء يبيعون كنوزهم بأبخس الأثمان ليشتروها بعد بعض التعديل بالدراهم والدنانير الكثيرة، وما دام هؤلاء يبسمون ليدٍ تغلغل كالحربة في أحشائهم، وما داموا عاكفين على التصفيق لقدم تدوس هاماتهم، فإن ساكنهم لن يتحرك، وإنهم سوف يقفون في أحسن الأحوال متفرجين باكين، ولئن أراد آباءُ رغال العصر أن يعينوا أبرهة العصر على ما يريد، فإنه سيقول لهم: شكراً لكم، فأنتم خارج الصورة وخارج التاريخ، فإن صواريخنا الذكية ورؤوسنا النووية ليست بحاجة إلى مرشد في الصحراء كفيلة أبرهة الحبشي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى