الأحد ١٩ آب (أغسطس) ٢٠٠٧
بقلم جميل حمداوي

مدارس التجديد المسرحي في العالم الغربي

تمهيـــــد:

لم يعرف المسرح الغربي تحرره من قيود المسرح الأرسطي والانسلاخ عن مفهوم المحاكاة الكلاسيكية إلا في القرن التاسع عشر والقرن العشرين مع مجموعة من المدارس المسرحية والفنية التي استهدفت الثورة على المسرح اليوناني كما نظر له أرسطو في كتابه "فن الشعرية"، كما عملت هذه المذاهب الأدبية على التخلص من الفلسفة العقلانية المغلقة ومبادئ المذهب الكلاسيكي الذي كان يربط المسرح بالعقل والمحاكاة والعقل واحترام قضايا وتصورات المنطق وتمثل الأخلاق والفضيلة.

وقد بدأ التجديد المسرحي مع المسرحي الإنگليزي شكسپير والفرنسي ڤكتور هيگو والألماني برترولد بريخت، وبعض المدارس الفلسفية والفنية كالمدرسة السريالية ومدرسة الأتشرك الروسية والمدرسة الوجودية والمدرسة التجريدية التي تسمى بمدرسة اللامعقول.

وفي هذا العرض المتواضع سنبرز أهم هذه التيارات الفنية والمذاهب المسرحية التجديدية مع تبيان أهم مرتكزاتها الفنية والفلسفية والجمالية والإيديولوجية.

1- المدرسة الرومانسية:

ظهرت المدرسة الرومانسية في القرن التاسع عشر الميلادي مع مجموعة من الرواد الكبار أمثال ڤيكتور هيجو كما في مسرحيته (هرناني)، وألسكندر دوما في مسرحيته (هنري الثالث ومجلسه)، وألفرد دوموسيه في مسرحياته الرومانسية الكثيرة (لورينزاصيو، لا نتلاعب بالحب، ليلة البندقية، تقلبات ماريانا، فانتازيو..)، وألفرد دوفينيه، وجوته صاحب مسرحية (فاوست) وشيلر...

ومن مرتكزات الرومانسية في المجال الدرامي: حرية الإبداع، و تكسير الوحدات الثلاث ( وحدة الحدث، ووحدة المكان، ووحدة الزمان)؛ والخلط بين الأجناس الأدبية وصهرها في بوتقة واحدة كالمزج بين التراجيدي والكوميدي، والجمع بين الشخصيات النبيلة والدنيئة، والمؤالفة بين الضحك والبكاء؛ و الجمع بين الرفيع والوضيع، و محاكاة الطبيعة.

وتعد مقدمة كرومويل (1829) لڤيكتور هيجو البداية الفعلية لتأسيس المسرح الرومانسي الثائر على المسرح الكلاسكي المرتبط بقواعد أرسطو وتعاليم المسرح الروماني.

وينطلق هذا المذهب الرومانسي من فلسفة جان جاك روسو الداعية إلى العودة إلى الطبيعة والثورة على مجتمع المدنية والفساد. كما يدافع هذا المذهب كثيرا عن فن الفرد والشخصية وتشخيص الذات والإيمان بالعاطفة بدل العقل، لذا تحضر لدى المسرحيين الرومانسيين صور روحانية مجردة تسمو بالإنسان.

ودراميا، فقد استوحى هؤلاء الكتاب آراء شكسبير الدرامية في الثورة على الوحدات الثلاث المعروفة، وتنويع النغمات والخلط بين الأجناس.
وقد انطلقت الرومانسية في ألمانيا مع جوته صاحب مسرحية ( فاوست)، ففاوست هو ذلك الشخص الذي اشترى منه الشيطان روحه مقابل سيطرته على العالم وتملك القوة.

وتعد هرناني (1830) لفكتور هيجو نموذجا رومانسيا يوضح لنا رؤية هوگو تجاه المذهب الكلاسيكي. ففي هذه المسرحية نجد عقدتين: سياسية وعاطفية، وتقع في عدة مواقع وأمكنة: تارة في ساراگوسا، وتارة في جبال أراگون، وتارة أخرى في إيكس لا شاپيل. أي تقع أحداث المسرحية بين إسبانيا وفرنسا، وتمتد الرواية كذلك عبر شهور عدة. أما المحاكاة فهي مهملة فعلا في هذه المسرحية التي تعلن فعلا بداية المسرح الرومانسي الغربي. وهذا ينطبق أيضا على مسرحيته روي بلاس( 1838)، بيد أن مسرحيته "بورﭽراف" (1843) تشكل نهاية المرحلة الرومانسية.

2- المدرسة الرمـــزية:

لم تظهر الرمزية إلا بعد هزيمة حرب 1870م، و مع الثورة ضد القيم البورجوازية المادية، والتأثر برؤية الموسيقي الألماني ريشارد فاجنر.

و يرى فاجنر أن الكاتب الموسيقي الدرامي عليه أن يرسم عالما مثاليا بخلق أساطير على غرار المسرح القديم، وأن يثير العالم الروحي الداخلي للشخصيات المرصودة دون التركيز فقط على المظهر الخارجي استقصاء وتعبيرا.

وكانت لهذه الآراء التصورية والفلسفية أثر كبير في الأوساط المثقفة في فرنسا سنة 1880 م؛ مما ساهمت في إفراز تيار أدبي رمزي يدعو إلى اللامسرح الذي يعتمد على الروحانيات وتداعي اللاشعور واستعمال الصور الرمزية والإيحاءات الحدسية الانزياحية مع توظيف إيقاع بطيء واستقراء ما هو مضمر في النفس الإنسانية والتمرد عن الواقع والجنوح نحو اللاعقلانية.

ونستحضر في هذا الصدد نصوصا ما بين1890/1900 م لموريس ماتيرلنك و پول كلوديل ونصوص تشيكوف وإبسن و شتريندبرغ.

هذا، وقد ساهمت أفكار الرمزيين في بلورة نظريات السويسري أدولف آبيا والمخرج البريطاني إدوارد گوردون گرايگ الذين ثارا ضد واقعية الديكورات الملونة مقترحين عناصر موحية ومجردة مع استعمال لعبة الإضاءة لخلق الانطباعات، بدل الإيهام بالواقع الحرفي.

وفي 1896 م، قام المخرج الرمزي لونيي پو بتركيب مسرحية ألفريد جاري (أبو ملكا) دراميا ورمزيا، وهذه المسرحية في جوهرها الفني والمذهبي ليست إلا مسرحية مهيجة وشاذة.

3- المدرسة السريالية:

ظهرت السريالية في أعقاب الحرب العالمية الأولى متوازية مع التحليل النفسي الفرويدي، وتذمر الإنسان من الواقع الأورپي المتردي الذي كان يعيش فيه، والذي كانت تنهشه الحروب المأساوية، وتغرق الإنسان في كثير من الويلات والأزمات. هذا ما دفع السرياليين للتخلص من هذا الواقع الموبوء والتخلص منه نحو واقع آخر يتحرر فيه الإنسان من القيود والتقاليد والأعراف والقيم الأخلاقية لاقتناص الملذات وإشباع الغرائز والشهوات قبل أن يأخذهم الموت والعدم.

وارتأى السرياليون أيضا أن يحرروا مكبوتاتهم الشعورية واللاشعورية، وأن يشبعوها بشكل مطلق دون الاهتمام بقيود وضوابط الأخلاق وسلطة المجتمع. وانساقوا وراء الأحلام والهذيان، وأصبح اللاوعي هو المحرك الحقيقي لتصرفات الإنسان؛ لذلك جاء أدبهم أدبا أفيونيا ينساب منه الجنون والاضطراب الفكري والغموض والتأرجح بين الواقع واللاواقع.

هذا، وقد أصبح الأدب أو الفن عندهم تحليلا للأحلام الفردية والهلوسات التي من الصعب فهمها وتأويلها بسبب انعدام الاتساق وكثرة الاضطراب في التعبير والتصوير. وكل هذا يعبر عن التأزم الذاتي خاصة أثناء استرجاع الذاكرة المحمومة وكشف الصراع النفسي الداخلي والتمزق الذهني.

ومن مظاهر الاضطراب والغموض في هذا المذهب أن الكتاب السرياليين كانوا يتركون مسرحياتهم وأعمالهم الأدبية والفنية بدون خاتمة، تاركين للقارئ فرصة التخييل والتأمل لتخيل النهاية قصد التحرر من المكبوتات عن طريق الإشباع الغريزي والارتواء الإيروسي.

ويعد الكاتب الفرنسي گيوم أپولينير هو أول من استخدم كلمة سريالية في وصف عمل مسرحي يتعلق بذلك الاستعراض الذي عرض سنة 1917م، وكان هذا العرض عبارة عن فرجة درامية موسيقية راقصة. كتبها جان كوكتو، وأخرجها دياجليف،وصمم الملابس والمناظر الرسام العالمي الكبير الإسباني بابلو پيكاسو، بينما وضع ساتي الموسيقا، في حين صمم ماسين الرقصات.

وقد عرضت في شهر يونيو من نفس العام مسرحية أپولينير بمسرح موبيل التي كتبها سنة 1903م، وهي مسرحية" أثداء تيريسياس" تحت تأثير مسرحيات ألفريد جاري التي أثارت ضجة كبرى في الأوساط المسرحية بباريس. وقد أرفق أپولينير مسرحيته بتعيين جنسي تحت عبارة" دراما سريالية"، وبذلك تعد "أثداء تيريسياس" أول مسرحية سريالية في تاريخ الدراما الغربية.

وعلى الرغم من ريادة أپولينير في هذا المجال، فإن السريالية لم يقدر لها أن تنتشر وتزدهر بمثابة حركة فنية على يدي أپولينير. ولكن الفضل في ذلك لكاتب مسرحي آخر هو أندريه بريتون الذي بدأ بمناصرة الدادائية وانتهى بالثورة عليها." [1]

ومن جهة أخرى، فقد وضع أندريه بريتون سنة 1924م مبادئ مذهبه الفني والأدبي في " إعلان إنشاء مبادئ الحركة السريالية" التي اعتبرها حركة نفسية ذاتية متحررة من قيود العقل والمنطق والوعي والقيم الجمالية والأخلاقية المتوارثة. ومن ثم، التجأت هذه السريالية إلى استخدام الأحلام والتداعي الذهني الحر، وفلاش باك، واللاوعي، والانتقال من الواقع إلى اللاواقع، وتشغيل الهلوسات والاضطراب الهذياني والحركة الذاتية والتلقائية في التعبير والفوضى والجنون وتشتت الصور والتخلي عن الخاتمة في الفرجة الدرامية، والكتابة بطريقة غريزية سريعة غير واعية، وتجاوز العقل والعالم الخارجي، والتركيز على النفس البشرية مصدر المتناقضات والأضداد، بل استخدمت السريالية العقاقير المخدرة والتنويم المغناطيسي..

وقد انضم إلى بريتون مجموعة من الفاعلين الثقافيين والمبدعين منهم: بول إلوار ولوي أراجون وأنطونين أرتو وأندريه ماسون وپيريه وبيكابيا.

ومن أهم المسرحيات السريالية نذكر "الدولاب ذو المرآة" ومسرحية" أسفل الحائط " التي نشرهما لوي أراجون معا سنة 1924م. كما تعاون كل من أراجون وبريتون على كتابة مسرحية سريالية هي "كنوز اليسوعيين"، بينما ساهم كل من أنطونين أرتو وڤيتراك في إخراج مسرحيات سريالية بعد انسحابهما من المدرسة السريالية.

ويلاحظ أن الإنتاج المسرحي السريالي قليل جدا بالمقارنة مع الفنون الأخرى كالتصوير والشعر، وربما" يرجع ذلك – كما يقول الناقد الشهير مارتن أسلن- إلى أن فن الكتابة المسرحية يتطلب قدرا من الوعي أكثر من الفنون الأخرى، بحيث يصعب على الكاتب المسرحي أن يكتب عملا يعتمد تماما على تكنيك الحركة التلقائية الذاتية الذي ابتدعه بريتون". [2]

وعلى أي حال، فالتجديد في المسرح السريالي يتمثل في تحطيم العقل والوعي واستبدالهما باللاوعي، واستدعاء الذاكرة والأحلام، والارتكان إلى الجنون والفوضى وتخريب النسق المسرحي.

4- المدرسة الوجودية:

ظهرت المدرسة الوجودية إبان الحرب العالمية الثانية للتشكيك في القيم الموروثة، والطعن في الأخلاق الموجودة، والاستهانة بالتقاليد والأعراف التي نشأ عليها الإنسان الأورپي، بعد أن كشفت الحرب زيف هذه المبادئ وتدني المثل العليا والقيم الأصيلة.

وإذا كانت الفلسفة الكلاسيكية تقر منذ أفلاطون بأن للإنسان ماهية تخالف الوجود، وهذه الماهية هي صفات بشرية عامة مطلقة سبقت وجوده. وبالتالي، فهذه الماهية تحضر باعتبارها صورا مثالية مجردة سبقت وجود الإنسان. فالفلسفة الوجودية مع جان پول سارتر ترى في المقابل أن الوجود هو الأصل وليس الماهية. وبذلك أنكر سارتر وجود الماهية، واعتبر الوجود هو مرتكز الفلسفة الوجودية. ويعني هذا أن الإنسان عندما يوجد، آنذاك يختار حسب سارتر الماهية التي سيكون عليها: هل سيكون شريرا أم سيكون طيبا خيرا؟ وهل سيكون شريفا أم نذلا؟ ويمكن له - مادام أنه حر، وولد حرا- أن يختار الماهية التي يريدها وله الحرية التامة في تغييرها كيفما يشاء. وأساس التفكير عند سارتر هو الوجود مصداقا لقول ديكارت: أنا أفكر، إذاً أنا موجود. ومن ثم، أنكر سارتر كل القيم والأخلاق المتوارثة وأنكر وجود الله.

وإذا كان فلاسفة القرن الثامن عشر قد أنكروا وجود الله كڤولتير الذي اعتبر فكرة الله خرافة نافعة، إذ قال ڤولتير:" لو لم يكن الله لاخترعه البشر"، باعتبار أن وجود الإنسان مقترن ميتافيزيقيا بوجود الله الذي يعد مصدرا للراحة والسعادة لبني البشر. . [3]

أما سارتر فقد أثبت أن الله فكرة ضارة ينبغي التخلص منها؛ لأنها تعيق تطور الإنسان وتعرقل مسيرة نموه وتحول دون تحرره. وارتأى أن بعد الحياة لايوجد سوى الموت والعدم، وبأن الإنسان في هذه الحياة كممثل مسرحي يؤدي دوره الأنطولوجي (الوجودي)، وبعد الانتهاء من ذلك الدور يصيبه العدم اللانهائي.

وتنبني الفلسفة الوجودية على ثلاثة مرتكزات أساسية وهي: الحرية والمسؤولية والالتزام. ويعني هذا أن الوجودية فلسفة إنسانية تدعو إلى الحرية وممارسة حرية القول والفعل من خلال حرية الحدث وحرية الزمن وحرية المكان. ويتمثل شعار الوجودية في هذه المسكوكات الفلسفية التالية: "افعل ما تشاء، ومتى تشاء، وحيث تشاء".

وقد ساهمت هذه الفلسفة في انتشار الإباحية والتخلص من كل المكبوتات والتقاليد الموروثة كما يتجلى ذلك في مقاهي وكهوف سان جيرمان بباريس. وساعدت هذه الفلسفة كذلك على انتشار الإلحاد بين الشباب، فدخلت الوجودية في صراع مرير مع الكنيسة واليسوعيين.

بيد أن هذه الحرية التي يتغنى بها سارتر ليست فوضى مجانية مطلقة، بل هي مسؤولية اجتماعية وسياسية قصد التحرر الحقيقي من كل القيود البالية وكل أنواع الاستعمار والأنظمة التي تحارب الإنسان وتقف دون تحركه. كما أن هذه الحرية عبارة عن التزام ذاتي قبل كل شيء، واختيار وجود مصيري معين، والتزام بموقف أخلاقي واجتماعي محدد. لذلك يتم الحديث عن ثلاثة أنواع من الالتزام: الالتزام الوجودي، والالتزام الماركسي، والالتزام الإسلامي.

كما تساهم هذه المرتكزات الثلاثة في توليد ثلاثة مشاعر إنسانية تؤرق الإنسان وتحيره وهي: القلق والهجران واليأس.

ومن أهم النصوص المسرحية التي شخص فيها سارتر مذهبه الوجودي ونظريته الفلسفية مسرحية "الذباب" التي يثور فيها سارتر على الآلهة ويعتبرها متناقضة في قراراتها وأحكامها، ويعني هذا أن المسرحية تعتبر ثورة ضد قضاء الآلهة وما فيه من تناقض، إذ نلمح من خلالها أن الجريمة كانت قضاء محتوما متوارثا في الأسرة، ومع ذلك تأبى الآلهة إلا أن تنزل بالمجرم الذي قتل أمه أشد العقاب، فتسلط عليه أسراب الذباب أو الإيرينيات (الغولات).

ولكن الوجودية لا تريد أن تسلم للآلهة بهذا التحكم الظالم، ولذلك نرى أورست الذي يكاد يمثل سارتر نفسه يثور ضد هذا التحكم، ويأبى إلا أن يخلص الإنسانية منه حتى ولو ضحى بنفسه في سبيل هذا الخلاص، فهجر وطنه مصطحبا معه الإيرينيات، وكان سارتر يؤسس دينا جديدا وينهض بعبء الفداء". [4]

ويتمثل التجديد المسرحي في المذهب الوجودي في الثورة على مواضعات العقل ونواميس المنطق، والتغني بالحرية الوجودية التي تتمثل في حرية الفعل وحرية المكان وحرية الزمان. ويعتبر سارتر أول من أدخل القبلة في المسرح الغربي، وثار على الأخلاق والتقاليد، وزاوج بين أسلوب التهكم القدحي والسجل الإباحي بكثرة في مسرحياته.

5- مدرسة الأوتشرك:

ظهر في الاتحاد السوڤياتي مسرح جديد ينزاح عن المسرح الأرسطي وهو مسرح الأوتشرك، ويعني هذا المصطلح مسرح التحقيق والاستطلاع أو مسرح الريبورتاج. أي إن مسرح الأوتشرك هو مسرحة الظواهر الاجتماعية والسياسية الكبرى، وذلك بالبحث عن أسبابها وتمظهراتها ونتائجها. وتتخلص صور الأوتشرك الدرامية من الوحدات الأرسطية الثلاث، وتقدم الموضوع بطريقة صحفية واقعية في شكل استطلاع وتقرير تسجيلي. ويتحول المسرح، بالتالي، إلى جريدة حية ناطقة تعتمد على التحليل والاستقراء.

ومن أهم رواد هذا المسرح نذكر الكاتبين الروسيين المشهورين: تشيكوف وماكسيم گورگي اللذين تأثرا كثيرا بالفلسفة الاشتراكية والتوجه الماركسي الشيوعي.

ومن النماذج المسرحية العربية التي تجسد هذا النوع من المسرح ما كتبه نعمان عاشور تحت عنوان "الناس اللي فوق". حيث يصور أثر الثورة المصرية الاشتراكية على المجتمع المصري ومدى تغييرها للعقلية الأرستقراطية.

تبين لنا هذه المسرحية منذ البداية أسرة مصرية أرستقراطية تتكون من زوج سرعان ما يغير عقليته الإيديولوجية الفوقية، بينما زوجته مازالت تتعلق بالنبالة وتتغنى بالغنى والثراء وتريد أن تستمر في متابعة حياتها الارستقراطية، وذلك بالركوب في السيارة الكبيرة الفخمة والذهاب إلى النادي. ببيد أن الزوج يرفض ذلك، ويمنع زوجته من هذا الإسراف المادي الذي لايواكب التغييرات الاجتماعية الجديدة.

ومن جهة أخرى، استطاعت الخادمة الفقيرة التي كانت تشتغل عند هذه الأسرة أن تعلم ابنها إلى أن استكمل دراساته العليا. وفي الأخير، قرر الابن أن يتزوج من هذه العائلة. وعلى الرغم من ذلك، فمازال الابن يحس بالانكماش والخجل بسبب مركب النقص والإحساس بالذل بسبب التفاوت الاجتماعي والطبقي بين الأسرتين. ويعني هذا أن الثورة لم تغير أوضاع المجتمع بشكل جذري.

"وبذلك يتم المؤلف تحقيقه أو استطلاعه أو ريبورتاجه الدرامي الذي ظهر في شكل مسرحية، ولكنه لم يخضع للأصول التقليدية لهذا الفن، بل يعتبر ثورة على تلك الأصول نابعة عن الهدف الجديد الذي أصبح المسرح...مسرح الأوتشرك يستهدفه، حيث يرمي الأوتشرك إلى دراسة ظاهرة من الظواهر وتجسيدها في صورة درامية وإن لم نستطع أن نقول إنها صورة درامية بالمعنى الفني التقليدي للدراما.". [5]

ومن ثم، فمسرح الأوتشرك هو مسرح طليعي يهدف إلى توثيق الظواهر الاجتماعية والسياسية وتحويلها إلى مواد واقعية طبيعية لمسرح تقريري ريبورتاجي صحفي يعتمد على الصدق واكتشاف الحقيقة واستقراء الأسباب والتجليات والنتائج بطريقة درامية فعالة.

6- المدرسة البريختية أو المسرح الملحمي:

يستند المسرح البريختي إلى الثورة على المسرح الأرسطي وتحويل ركح المسرح إلى خشبة نزال وصراع جدلي وسجال من أجل إشراك الجمهور لاستصدار مواقفه في مجموعة من القضايا الاجتماعية والإنسانية والسياسية. وقد تحول الممثل في هذا المسرح الجماهيري الشعبي إلى محام يستعمل الحوار المنطقي الجدلي مع التسلح بالحجج والأدلة قصد دفع الجمهور الحاضر للإدلاء برأيه بكل صراحة وموضوعية.

هذا، وقد رفض بريخت مفهوم التطهير والتقمص الشخصي واستبدلهما بمفهوم التغيير الجدلي. أي إن للمسرح وظيفة التثوير وتنوير المجتمع وتحريضه لتغيير أوضاع المجتمع. كما على الممثل أن يبتعد عن الاندماج في دوره، وأن يكشف للجمهور أنه فقط يمثل. ويسمى تباعد الممثل عن دوره في النسق الدرامي البريختي بالتغريب أوباللاندماج.

ويتسم مسرح بريخت بكونه مسرح سياسية وتسييس، وينطلق فيه من أبعاد إيديولوجية ذات توجهات يسارية وشيوعية. وقد هرب بريخت من الغطرسة النازية سنة 1933م، فالتجأ إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليتخذها ملاذا له وفضاء للتجريب المسرحي وكتابة مجموعة من النصوص الدرامية التي سيخرجها بعد عودته إلى بلده الأصلي.

وقد كتب بريخت فعلا في المنفى مجموعة من المسرحيات ضد النازية. وعندما انتهت الحرب، عاد ليستقر بألمانيا الشرقية، ليؤسس بعد ذلك مسرحه الملحمي في برلين.

ومن التقنيات التي كان يستخدمها على مستوى الإخراج: تكسير الجدار الرابع، وتعليق اللافتات والشعارات السياسية والثورية، واستعمال الشاشة السينمائية على غرار أستاذه پبسكاتور لنقل مشاهد واقعية وطبيعية حية من المجتمع، ومن هنا يعد بريخت من أهم رواد المسرح التسجيلي أو المسرج الوثائقي إلى جانب پيتر ڤايس وپيسكاتور، ويتجلى هذا واضحا في مسرحيته "عظمة الرايخ الثالث وبؤسه".

ومن المسرحيات التي تؤخذ دليلا على تمرد بريخت عن الدراما التقليدية الأرسطية مسرحية" دائرة الطباشير القوقازية" التي تضم موضوعين: الصراع حول الأرض، ومن هو أحق بملكيتها؟ هل هو مالكها الحقيقي بالوراثة الذي ترك الأرض بوارا جدباء أم الفلاح الذي زرعها وشقي في فلحها وزرعها وتخصيبها وحصدها؟! وبقي الموضوع الأول بدون حل ليجيب عنه الجزء الثاني. أما الموضوع الثاني فيتمثل في صراع الأم الحقيقية والمرضعة حول من له الصلاحية في التكفل بالابن وتربيته؛ لأن الأم الحقيقية أهملت ابنها بسبب اهتمامها بنفسها وزينتها ناهيك عن تهربها من تحمل المسؤوليات الجسيمة التي تستوجبها تربية الأبناء. أما الحاضنة فقد أرضعت الطفل وغذته وتحملت مسؤوليته حتى كبر وأصبح وسيما جذابا. وفي الأخير، أرادت الأم استرداده، بيد أن الحاضنة رفضت ذلك وادعت أنها هي الأم الحقيقية للابن. ورفعت القضية إلى القاضي الذي طالب برسم دائرة بالطباشير، ووضع الطفل في وسط هذه الدائرة، وأمر الأم والحاضنة بجذب الولد بشدة، فمن جذبته بسرعة كان الولد لها. فجذبته الأم بسرعة خاطفة أوشكت أن تقطع يديه، بينما الحاضنة أبت ذلك عطفا على الولد وإشفاقا عليه لكي لا تسيء إليه، فحكم القاضي للحاضنة وحرم الأم الحقيقية منه؛ لأنها ليست أهلا بتربية الولد ورعايته والتكفل به.

ويتمثل التجديد المسرحي لدى بريخت أنه الدراماتورجي الوحيد الذي ثار جذريا على المسرح الغربي الأرسطي، فأسس مسرحا يسمى بالمسرح اللاأرسطي القائم على التغريب وتكسير الجدار الرابع واستعمال السينما في المسرح والاستعانة بالمسرح الوثائقي التسجيلي.

7- مدرسة اللامعقول:

ظهرت مدرسة اللامعقول بعد الحرب العالمية الثانية مع مجموعة من الكتاب الروائيين والمسرحيين الدراميين منهم: صمويل بيكيت وآدموف ويونسكو وآرابال، وقد تأثروا بكتابات جيمس جويس وألبير كامو وتقنيات الرواية الجديدة وروايات تيار الوعي.

ولم تنبثق هذه المدرسة في القرن العشرين إلا كرد فعل على العقلانية التي أوقعت الإنسان في كثير من الحروب، وحولته إلى أرقام وبنيات إنتاجية، وعلبته في إطار ماهو مادي، واستلبت حريته واستعبدته عندما نظرت إلى الإنسان من خلال منظور المنطق واليقين والإنتاج الرأسمالي، ولم تعامله باعتباره ذاتا وروحا وعاطفة. أي إن العقلانية المنطقية صيرت الإنسان إلى كائن مادي يعاني من الفراغ الروحاني ويفتقد الاستقرار النفسي. وقد ساهم كل هذا في ظهور مسرح اللامعقول الذي ثار على المسرح الأرسطي، كما ثار على الواقع الأورپي بصفة خاصة، و الحياة بصفة عامة.

ويصور هذا المسرح التجريدي الحياة على أنها عبث ولامبالاة وبدون معنى ولا هدف. كما أصبحت الحياة عند كتاب هذا النوع من المسرح المتشائم الأسود غير مفهومة وغريبة غير خاضعة لمقاييس المنطق، بل أصبح الجنون والامتساخ والاغتراب الذاتي والمكاني من سمات هذا المسرح.

وينقطع التواصل في هذا المسرح، ويكثر الصمت واللوحات السوداء، ويعم الفراغ والخواء، ويكثر الانتظار والترقب (في انتظار گودو)، ويتشظى الزمان والمكان (الكراسي ليونيسكو)، ويتهاوى الموضوع، وتنكسر بنية الدراما. ويكثر المنولوج والهذيان والأصوات الصاخبة الغامضة غير المفهومة. وتصبح اللغة متقطعة ميمية كوليغرافية يسودها الصمت والسكون.

ويستهدف هذا المسرح الثورة على الأوضاع الفاسدة المتردية التي تجعل من الإنسان كائنا يائسا متشائما يجتر أحزانه وهمومه وينعى مصيره ووجوده العابث. ومن هنا، تصبح هذه المدرسة ذات طابع تجريدي مطلق تعزف على البؤس واليأس والضياع والغربة والوحدة والعزلة. وتنتقل المسرحيات من التجريد الميتافيزيقي إلى التشاؤم النفسي والاجتماعي. وبالتالي،يصعب تعليل المواضيع المطروحة في هذه المسرحيات التي تعج بالحزن والسواد والعجز والمرض والموت، وتتحول فيها الشخصيات إلى أشباح وكائنات ممتسخة وحيوانات عجماوات صاخبة.

ومن أهم مسرحيات مدرسة اللامعقول مسرحية" الكراسي" ليونيسكو ومسرحية في" انتظار گودو" لصمويل بكيت.

وإذا كان مسرح الأوتشرك والمسرح الملحمي مقبولين، فإن مسرح اللامعقول لايمكن استساغته:" لأنه مسرح مريض، ولا أظن – يقول محمد مندور- أنه من الممكن أن تتعايش الحياة مع المرض زمنا طويلا، ولابد من أن يتخلص أحدهما من الآخر. وأكبر الظن أن الحياة هي التي ستكون لها الغلبة في النهاية، كما أن الفن لا يمكن أن يتحول إلى هذيان يائس غير مفهوم ولاقابل للفهم". [6]

ويكمن التجديد في هذا المسرح في استعمال الصمت ونقط الفراغ والتقليل من الشخصيات واستخدام الهذيان والتأرجح بين التواصل اللفظي والتواصل غير اللفظي والإكثار من الحوار الداخلي والمناجاة والمنولوگ.

خاتمـــــة:

تلكم –إذاً- نظرة موجزة عن أهم المذاهب والنظريات التجديدية في المسرح الغربي التي ساهمت في تطوير الفعل الدرامي والسينوغرافيا الركحية والتشخيص التمثيلي. ولم تظهر هذه المذاهب الدرامية في المجتمع الغربي إلا كرد فعل على المسرح اليوناني الأرسطي والمذهب الكلاسيكي الذي بقي أسيرا لمبدإ المحاكاة ومستلزماتها الفنية.

وبالتالي، لم تتحرر الدراما المعاصرة من هذا المسرح التقليدي ومرتكزاته الموروثة إلا استجابة لمنطلقات فلسفية وإيديولوجية كانت تهدف إلى مواكبة الواقع ومعايشة التطورات الاجتماعية والواقعية والسياسية التي عرفتها أورپا الغربية منذ منتصف القرن التاسع عشر على جميع المستويات والأصعدة.

ولم يتم الانزياح المسرحي وتكسير بنيات المسرح الأرسطي بشكل جذري إلا مع الدراماتورجيا البريختية وفلسفات الفن في القرن العشرين التي ثارت على مقاييس العقل والمنطق واقتصاد الإنتاج الرأسمالي الرقمي مستبدلة ذلك بمسرح الهذيان واللاعقل والحرية ومسرح التجريد والعبث ومسرح التغيير الجدلي والتوثيق الريبورتاجي.


[1د. نهاد صليحة: المدارس المسرحية المعاصرة، المكتبة الثقافية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، 1986، ص:58؛

[2نفس المرجع السابق، ص: 64؛

[3د. محمد مندور: الأدب ومذاهبه، دار نهضة مصر للطبع والنشر، الفجالة القاهرة،1979، ص:152؛

[4د. محمد مندور: الأدب ومذاهبه، ص: 154،146؛

[5د. محمد مندور: الأدب ومذاهبه، دار نهضة مصر للطبع والنشر، الفجالة القاهرة،1979، صك167؛

[6نفسه، صك 180-181.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى