السبت ١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٧
بقلم ميسون أسدي

مَريم

ضربني أبي ضربا مبرحا، وتناوب أعمامي على ضربي فيما بينهم، كان إذا تعب أحدهم يتناولني الآخر، أما أمي وأخواتي ونساء العائلة فوقفن موقف الحياد متفرجات، حزينات بعض الشيء، يرددن بنوع من الشفقة: هذا أمر لا بد منه، الرجال أدرى بمصلحة مريم، غدا عندما تكبر مريم ستقدر ما فعلوه من اجلها.. رأيت الأطفال الصغار يتفرجون وهم مرتعبون لمنظر الدماء وهي تسيل من فمي وانفي وعينيي المتورمات، بالكاد أرى إلى أي زاوية سأركل، وخصلات شعري الشقراء منبوشة مبعثرة هنا وهناك وبدوت بدمائي كالغولة في قصة جدتي لَطيفة، التي أكلت صغارها والدماء تسيل من فمها.

كنت في الرابعة عشرة من عمري عندما أحببت هاشم ابن الجيران، أحببته الحب الأول الطاهر، الحب الأجمل. حبا لمس مشاعري العذراوية.. خصني هاشم بنظراته خلال الأعراس وبعث إليّ هدايا بسيطة في أكثر من مناسبة وكان يصفـّر من ورائي إذا مررت أمامه. ازداد تعلقي به يوما بعد يوم. حبنا السري دام عاما،لم ينتبه إليه أحد..
في أحد الأيام، عندما كنا نتبادل الإشارات عبر الشرفة، مرت بالصدفة ابنة عمي سميرة وشاهدت إشاراتنا المتبادلة، ولا ادري ماذا أخبرت العائلة عنا، وعندها بدأ كرههم وعداوتهم لهاشم..ورددوا أمامي: يريد أن يحصل على أي صبية بدون مقابل ولا ثمن، بدون مهر وبدون مؤجل.. بلا عرس ولا تكاليف..

أجمعوا على أن هاشم مستهتر ويلعب ببنات الجيران ولا يكن احتراما لذويهم، فهو ليس شهما ولا يصون العرض والجيرة.. هاشم نذل أبا عن جد. حاول أهلي إفهامي وتوضيح رأيهم به، لم افهم رسالتهم... ولا أريد فهمها.. لم أستوعب أقوالهم، لم أرد أصلا استيعابها، لم تكن هناك قوة في العالم ممكن أن تقنعني بعدم حب هاشم، فهو الشاب الأول الذي حرك مشاعري وألهب نار حبي وأجج أحاسيسي.

فتاة في مطلع عمرها في أوج تكورها وتفتحها، جميلة وشقراء ومكتنزة، هكذا كنت هدفا للهمسات واللمسات والغمزات ومحط أنظار القرية الصغيرة، رجالا ونساء، تغنوا بلوني الأبيض وشعري الذهبي، أراد الذكور الحفاظ على هذا الكنز داخل العائلة وذلك بتزويجي من صالح ابن خالتي.. وصالح هذا، كان معروفا بسكوته وخجله وأدبه وجموده.. الكل يعرف صالح بصمته، لا يتكلم لا يشارك احدا الحديث، لا يجامل وتقريبا لا يبتسم، فهو الوحيد الذي لم يلعب مع الأطفال حين كنا نلعب ولم يقترب إليه أحد منا، كان يعيش في عالمه الخاص، العالم الذي لم نحبه، نبذته مجموعة الأطفال التي انتميت إليها، وهي نفس المجموعة التي بدأت انسحب من بينها تدريجيا بسبب حبي لهاشم.

أعلنوا عن خطوبتي لابن خالتي صالح، دون موافقتي، تناوبن النسوة لأقناعي على قبول صالح، لم آبه بهن.. وزعت الحلويات للأقارب والجيران.. الجميع فََرِح ما عدا صاحب الفرح وكان كل همهم توصيل الرسالة إلى هاشم بأنه لن يحظى أبدا بمريم وان عائلتها الكبيرة تقف من ورائها وتحمي مريم منه ولن ينل منها أبدا.

أعلنت الحداد على الحياة مع إعلان خطوبتي، الحياة التي لا أريدها بعد هاشم.. تناوب أفراد العائلة على ملاحقتي ومراقبتي خوفا وتحسبا أن أرب معه وجلب الخزي والعار لهم، مع أن حبي لم يتعد النظرات والغمزات و"رمي بعض الكلمات خلفي"، عندما أمر من باب بيتهم فهو جاري، بابهم أمام بابنا. وحب الجيرة أمر بديهي تغنوا به بأعراسنا ومناسباتنا. وفي كل أغنية للجار والجارة من خلال أعراسنا المشتركة، كنا ننظر إلى بعض خلسة لنؤكد إعجابنا واستمرارية ودنا.

عرف هاشم بما آلت إليه حالي، وهدئني بحبه الأبدي لي.. أنت حياتي.. ملهمتي.. وألّح بأن أرب معه، "لننتصر على من يحاول ان يفرقنا عنوة"، لكنني كنت أرفض الارتباط به "بالحرام"، كما افهمني أبي وأمي وأعمامي. رفضت الهروب مع هاشم لأنني أريده "بالحلال". استغربت قليلا عدم طلبه يدي من أهلي مباشرة أو محاولة أقناعهم بأنه يريدني كما أفهمني.. وقف موقف المتفرج، مثلي!! وكنت أبرر ذلك بأنه يخاف من الرفض، لعلمه عن كرههم له. ورأيت به ضعفي واستكانتي.

ساءت حالتي ووهن جسمي.. مرضت وشفيت مرات عديدة في فترة زمنية قصيرة، فخافوا من تدهور صحتي وتذمروا من الاستمرار في مراقبتي وملاحقتي.. اجتمع ذكور العائلة وقرروا- الحل السليم والسريع- إعلان زواجي في الأسبوع المقبل، وتكثيف المراقبة خوفا من الفضيحة والعار.

بان الغضب المكبوت على محياي خلال زفافي، شعرت بالتعاسة لما آل إليه مصيري، كيف يمكن صد صالح ومنعه من لمسي والاقتراب مني، لن اسمح لهم بإيذاء مشاعري وأحاسيسي، ولن يلمسني إلا هاشم.

كانت غرفة نومي في الطابق الثاني في بيت خالتي.. ماذا يحدث لو قفزت من الطابق الثاني فإمكانية الموت شبه أكيدة، لكن من المؤكد أن صالح لن يلمسني عندها.. أفكار سوداء عديدة مرت في مخيلتي كلمح البصر، كنت أفكر وأتمتم بغضب لم انتبه لنفسي إلا وأمي تشدني بصوتها: ماذا دهاك؟ ماذا تتمتمين لوحدك أمام الناس؟

تشكك أحد أعمامي بما يدور في فكري، فنبه الجميع، وقرروا أن تتربص مجموعة منهم تحت نافذتي، لتتلقفني في حالة قفزي، وعلى باب غرفتي وقف بعض مساندي صالح ابن خالتي لدفعه بالدخول إلى غرفتي وفض غشاء بكارتي والانتهاء من هذه الزوبعة.

انتهت حفلة زفافي في ساعات العصر، وكانت السماء صافية ونسمة هواء باردة عليلة أفرجت عن كربي.. ساقوني إلى الغرفة المخصصة للعروسين في بيت خالتي وشعرت أنهم يسوقون نعجة للذبح.. بقيت أترقب وقع أقدام صالح، خارت قواي فرفعت راية الاستسلام والخسارة، طليت من شباك غرفة نومي فرأيت أعمامي الكفرة الملتهبين الجهلة يقفون تحت شباكي لردعي عن القفز، وأمام بابي كان كفار آخرون ينتظرون قدوم صالح ليدخل علي ويفض بكارتي. جاء صالح وسمعتهم يحضونه بفرح: ادخل عليها.. أدخل عليها…

دخل صالح مسرعا ورأيت نظرات الغباء تقفز من بين عينيه الجائعتين للجنس.. لم يحدثني ولم يتفوه بحرف.. خلع ملابسي عني بسرعة ورائحة الكحول اختلطت برائحة جسده.. رمى بي على السرير وكان كالثور الهائج يناطح ويرفس بقدميه وصوته كالجعير دوى في الغرفة ليسمعه الكفرة تحت شباكي وأمام غرفة نومي، ليشعروا بالرضا والتفوق والسلطة.

لم يتأنى صالح ولم يخفف من رهبتي بكلام لطيف، فعل كل شيء بسرعة حتى بدون ان يبتسم.. مزق ملابسي الداخلية وأعد ما بين رجليّ بقوة وقفز فوقي قفزات مؤلمة وجعر جعرتين.. سالت دمائي صارخة من شدة الألم، دارت الغرفة بنا سريعا ولم أعي أين اختفى صالح بعدها، فقط رائحة الكحول بقيت تزكم انفي، ورأيت نفسي أزف إلى هاشم وهو يمسك بيدي والسعادة ترفرف من فوقنا.. لم استيقظ من إغمائي إلا في اليوم التالي ظهرا وبإشراف طبيب ورعاية ممرضة.

فهمت فيما بعد، أن الشراشف البيضاء تلطخت وأصبحت حمراء وعاد الكفار إلى بيوتهم منتصرين في موقعتهم وأنا بقيت أسيرة مع صالح، الصامت الذي لا يتكلم، ينتظر بلهفة وحشية، التحام جروحي ليجعر فوقي من جديد.

مضت أشهر معدودة، وكنت ما أزال اجر من خلفي ذيل الذل والقهر والألم، عندما قبض أهل القرية على هاشم، خلال محاولته الحصول على فتاة "بالحرام" كما اعتقد أهلي بدون مهر أو مؤجل، فبعد أن أقنعها بهمساته وغمزاته ولمزاته.. دخل خلسة إلى بيت والدها وضاجعها في سريرها، وقبض عليه متلبسا، فتم ضربه ضربا مبرحا من رجال العائلة، وقيدوه ورموه في كرم التين شمال القرية، وأجبر على الزواج من الفتاة البكر دون مهر أو عرس.

لن تصدقوا.. أصبح عندي الآن ستة أبناء ولي منهم أحفاد ومرت سنوات عديدة على تلك الحكاية ولكني ما زلت كلما أصادف هاشم، اشعر في ارتعاشه في قلبي.. ارتعاشه الفتاة العذراء العاشقة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى