الخميس ٢٠ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٧
بقلم محمد علي شمس الدين

الشاعر الأردني عبدالله رضوان في «مقام الرضوان»

«مقام الرضوان» للشاعر الأردني عبدالله رضوان (صدر حديثاً 2007، عن دار البيروني للنشر والتوزيع) كتاب طويل في العشق، أو ثلاثة مقامات، يشدّ بينها خيط واحد في العشق، أو إقامة للشاعر ذاته في مقامه هو، وهو مقام العشق. والعشق والمقام، مفردتان تنتسبان الى مفردات الصوفية، كما تنتسبان الى الشعر والموسيقى. جاء في لسان العرب للإمام العلاّمة ابن منظور»العشق فرط الحب» و «سُمّي العاشق عاشقاً لأنه يذبل من شدة الهوى كما تذبل العَشْقةُ (وهي الشجرة الخضراء) إذا قُطعت». ولو تقصّينا المعجم، لوجدنا تدرّجاً في مقامات الحب، فالحب هو الإقامة والثبات، والتتيُّم امتلاء وعي العاشق بالمعشوق وحده، والولَه التعطيل عن أحوال التمييز، وقد عقدت اللغة أواصر بين الحب البشري وما فوقه، كما أشار الباحثون الى ما أسماه يوسف اليوسف في كتابه «الغزل العذري» الى «الاحتباس العشقي» وإلى حقه بتثبيت حقه في الوجود، فيفيض شعراً أو سلوكاً... أو إشارات وتنبيهات أو ما أشبه ذلك من بيانات العشق وتصاريفه، وقد تصل الى الموت حباً، أو تصل الى الرضوان... وفي كل الأحوال ففي موت العاشق في المعشوق، حياة، بل رضا، بل رضوان:

«ألا أيها الركب النيام ألا هُبّوا

أسائلكم هل يقتلُ الرجلَ الحبُّ؟».

قسم عبدالله رضوان مقام الرضوان الى ثلاثة أقسام: «مقام حبيبي» و «مقام المليحة» و «مقام عمّان».

والأطول «مقام عمّان» التي يدللها الشاعر لحد الوله، باعتبارها المكان المؤنث الذي لا يعوّل إلا عليه (ابن عربي). والقصيدة هذه غَزَل بالمدينة، وانجذاب إليه، فهي «درج صاعد نحو حدّ السماء» فتنة القلب وعكازة الحلم وجنون المشتاق، وشرفة النجاة... ويتفرّس فيها شاعرها ليرى نفسه مأخوذاً بها على «سبع تلاّتها»، فعمّان، كما هو معروف، منشورة على سبعة تلال.

يعدد الشاعر أجزاء مدينته، كما لو هي أجزاء امرأة أو أعضاء امرأة، ويلاعب حروف اسمها، لكل حرف صدى وصورة، ثم يتبناها فتصبح ابنه، وينتسب إليها فتصبح أباه «كأني أبوها أو كأني أنا ابنها»، في ما يشبه الشجن الطاعن في الغواية، ويعتبرها امرأة لا كالنساء، ليقف عليها مكاناً مكاناً، وحياً حياً، كما يلمس الشاعر مجسات امرأته... ويتنقل كما تنقّل صاحب «سِقط اللِوى بين الدخول فحومَلِ»، من «العبدلي» الى «التاج» الى «شارع الجامعة» الى «الصويفية»، ليغسل هذه الأماكن بنظرة العاشق فتغدو المدينة «شمس الحياة ودهشتها» «غيم على جبل الروح»، ثم يلتحم بها كما يلتحم جسدان:

«حين تشرق أشرق

أو ترتوي أرتوي».

ينادي الشاعر مدينته بكل أسمائها... القديمة الأسطورية والحديثة. فهي «عمون» التي ابتدعها في أوّل الخلق «إيل العظيم» وهي «تايكي» الجميلة التي خلقت أنوثتها من عبق الصخر ورقصت على ألحان أقمار المدينة، وتخلبه حروف اسمها، حرفاً حرفاً، عـ، م، ا، ن، فيستنطقها بألفة العاشقين، فكأنه يبدأ حسياً شبقاً بالمدينة وحروفها ومواضعه كما يكون المحب شبقاً بأماكن حبيبته وأعضائها، ثم ينتهي الى الوله وهو مقام من مقامات العشق، يتيه فيه المحب ويغيب عن محبوبه في الخارج، ليستيقظ في الداخل.

ولعل أجمل مقطع من مقاطع «مقام عمّان» كتبه الشاعر، هو «فضاء لعصافير العشق»:

«عمّان يا أمّنا/ لِدينا إذن طيبين

كما الماء/ رهيفين كالنصلِ

جبابرة ورقيقين كالماس

لدينا كما نحن/ أحلى من السكّر الغضّ

أعمق من دهشة/.....

إلهي ترفّق بعمّان

عاشقة أطلقت للفضاء عصافيرها

ترفّق بعمّان

ورقّق لها فسحة في البرية».

بالعودة الى أول مقام في ديوان رضوان، وهو «مقام حبيبي»، المُهدى الى «خُزامى»، ندخل الى تأليف مسرحي من ثلاثة أصوات، هي على التوالي للعرّافة، والعاشقة والعاشق. وهي تأخذ الشكل المسرحي ولكنها ثلاثة أصوات مجرّدة، من آلهة قديمة وثنية، وأساطير، ونلاحظ أنها، من خلال السياقات الشعرية، ما تلبث أن تتنازل من تجريدها، لتتلبس أجساداً وجلوداً بشرية، معروفة بأسمائها وأماكنها وأحداثها... فباندورا الأسطورية Pandora تتحوّل الى «خزامى» والعاشقة المطلقة تدخل في امرأة اسمها «خزامى»، والعاشق المطلق يتحول الى اسم تاريخي (امرئ القيس) أو الشاعر نفسه... فما رأته العرّافة في البداية، بنظرتها الغيبوبية، من «رجل نرجس عند حدّ الشتاء» و «سيدة فتنة من وصال»، ما تلبث أن تحققه «خزامى» حين تلتقي بالشاعر.

ليس ثمة من حوار، كما يقتضيه العمل المسرحي، بل أصوات تتكلم على مكان مبهم ترعاه عرّافة، وتظهر الأصوات وكأن كل صوت يتكلم بمفرده فيصف العاشق أحواله، وتصف العاشقة أحوالها، ثم يأتي صوت العرّافة كما لو هو يسقط على المسرح من ناحية الغيب «أما قلتُ: كل شيء بميعاده/ تعود الأزاهير والحقلُ/ والظلّ والشمس والغيم...»... كل ذلك يحصل في مناخ أسطوري، لا تغيب عن مكانه عمّان أو «عمون»، وتندمج فيه الكائنات الأسطورية بالبشر، بمعالم الطبيعة والأمكنة. لتنتهي بنشيد انتصار الحب: «يا صبايا عمون/ المليحة في جلدتها/ يا لفتنتها/ العصافير غيم على رأسها/ والورود تجمّع بتلاتها/ لتمرّ عليها المليحة في خطوها/...».

في مقام المليحة، ومعظمه على نواة الكامل (متفاعلن): «كمل الجمالَ من البحور الكاملُ»، وهو وزن غنائي طويل النَفس، رشيق، يبدأ الشاعر باستعارة من الشاعر الجاهلي «المنخّل اليشكري» الذي يصف في بيت من أبياته قبلته لحبيبته وهما على الغدير، فأفاضت له بما بجسمه من الحَرّ... ليستعير مقامه ويؤسس عليه قصيدة غنائية عذبة «عسلٌ على المعنى وملحٌ في مقامي»، لكنها تنتهي نهاية تراجيدية «بيديَّ رقّصتُ المليحة وانتهيت الى حطامي».

في مقام الهوى تعداد وتسمية، وحشد صفات للحبيبة، التي تتحول الى «نون هذا الكون». أما في «مقام النبع» وهي قصيدة مركبة من متواليات من أهازيج شعبية ومقاطع شعرية فُصحى موزونة، فالشاعر يزاوج بين ذكورة الماء وأنوثة جسد المليحة، «كأن الماء يرقص أو يشاكس مستحماً باكتمال فحولة المعنى».

تسربل القصائد كما قلنا، مفردات تنحو منحى عرفانياً، وأحياناً تحوم ولا ترد، وأحياناً ترد وتشرب ما طاب لها من نبع الحال، ورحيق المقام، ولا يخفى ما للقصيدة ما قبل الأخيرة المسمّاة «وقفة للكلمات، حديث للعاشقين»، من إحالات الى النفّري في كتابه «المواقف والمخاطبات» حيث يردد الشاعر العبارة التالية في نهاية أو في بداية المقطع: «أشار فأوقفني...» أوقفني في الشرفة، أوقفني في الحضرة... أوقفني في الظل، أوقفني في الصمت...أوقفني في الكلمات...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى