الأحد ٢٣ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٧
بقلم سهاد عوني عبد الهادي

أميرة

جلست أميرة تحدق في عيني قطتها، وأصابع يدها اليمنى تغوص في فروة رقبتها وظهرها، مستعذبة نعومتها.. و"لولو" المدللة داهمها الخدر والنعاس، فانكمشت مخالبها في حضن رفيقتها الوحيدة، في عالمها الذي لا يتخطى عتبة باب الشقة، وكأن لسان حالها يقول لرفيقتها، حينما تحدق في عينيها "لن أخرج أبدا إلا بصحبتك". تكتفي بالجلوس على حافة الشباك، لتطل على العالم الخارجي، ولا يثيرها في الداخل غير رؤية فراشة، ومواء أو عواء ينطلق من جهاز التلفزيون.
كانت أميرة تشعر بخيبة أمل في حياتها، بالرغم من مظاهر الرفاهية التي تحيط بها، وتمتعها بحلاوة اللسان، والوجه الذي لم يغب جماله، بالرغم من اثر جرح عميق أسفل عينها اليمنى، يمتد حتى الفك السفلي، واعوجاج في أنفها من الناحية الأخرى.

ولكن ما نفع المال الذي تمتلكه، وحياة الرغد التي تعيشها، وهي تشعر في قرارة نفسها بعجزها، فلا تستطيع أن تكون إنسانة فاعلة ومؤثرة في محيطها، كما أنها لا تتلقى في دنياها سوى بضع كلمات مجاملة، ونظرات شفقة، ممن يزورها بين الفينة والأخرى. حتى زوجها الذي أصبح يحيطها بهالة هلامية، غير ثابتة الملامح، تشعرها بالضجر منه ومن وجوده بقربها.

رعشة خفيفة تعتريها، وهي ترسل بصرها عبر النافذة، وضجيج الأطفال في الخارج يقطع عليها وحدتها. ضغطت بيدها على جسدها المستسلم، وتمتمت في سرها "ترى ماذا أفعل.. هل أبقى على حالي هذا، راضية بقدري، أم علي الانطلاق ومحاولة فك القيود التي تكبلني؟"

تثاءبت لولو، ومطت جسدها، وحدقت في عيني أميرة.. وكأنها تلومها على رغبتها في التمرد . ثم عادت إلى ما كانت عليه تنعم بالهدوء. وحاضنتها ما زالت مسترسلة بأفكارها "ولكني لا أستطيع التحرك.. أشعر بالخوف.. أحتاج إلى من يأخذ بيدي ويساعدني".. ساد السكون هنيهة، وعادت القطة للتثاؤب ثانية، وارتفع شخيرها. ولم يسمع أحد الصرخة المكتومة في صدر أميرة، ولا كلماتها التي تعكر صفاء وجهها وهي تفكر "لا.. لن يكون زوجي الذي سيمد لي العون.. فهو لاه عني تماما، باهتمامه بنفسه فقط، ولا يرغب في مشاركة جدية تساعدني ".

جاء صوت جارتها مفعماً بالحيوية، خارج الصالون، والتي بادرتها بالعتاب حينما أقبلت عليها:
 صباح الخير.. أو مساء الخير... لا يهم كله خير، ولكن المهم أني عاتبة عليك، لأنك لم تحاولي أن تقبلي دعوتي بالأمس.. مع أن كل الصديقات سعدن بخبر دعوتك للانضمام إليهن في منزلي.
ردت، الجالسة على المقعد، التحية بأحسن مما سمعت، بينما كان قلبها يحدثها:
 "لم كل هذا الإصرار منهن على دفعي لمشاركتهن مجلسهن .. هل يسرهن رؤية وجهي المشوه.. ويستعذبن التندر بالشلل الذي ابتليت به؟".
أبدت أسفها لضيفتها، وهي العالمة باستحالة قدرتها على الخروج من البيت. ولكن رد الجارة كان حاسما، وهي تعلن بأنها لن تتركها حبيسة أوهامها.. ولن تيأس من تكرار هذه الدعوة حتى تستجيب لها.
خرجت علياء من الغرفة في اللحظة التي دخل فيها زوج أميرة ضاحكاً، يتكئ على عكازين، معبراً عن إعجابه بالجارة ومرحها، فهي "تفهم النكتة ع الطاير".
قطبت أميرة وجهها وأجابت باقتضاب:
 أهلا.
دخل إلى غرفته مباشرة، بعد أن ألقى عليها تحية تفيض بالعواطف، وسرعان ما لمعت فكرة غريبة في مخيلتها، وقفز إلى ذهنها سؤال سرع في ضربات قلبها، وشد بصرها إلى حيث دخل زوجها "ترى لو أنني مت في ذلك الحادث المشؤوم، أو حتى في هذه اللحظة.. ترى.. هل يحزن ويتألم لفراقي؟ أم أنه لن يبالي.. هل سيحتضنني ويغمر وجهي بقبلاته ودموعه.. هل سيحيطني بالورود والشموع؟؟ ربما يصدم.. يصاب بالذهول من المفاجأة.. أو ربما يبقى متماسكا كعادته في كل المواقف الصعبة التي يجابهها ، ولكن.. لم لا يشعر بالذنب؟؟.. لم لا يتمثل طيفي بلوعة وأسى في كل ما حوله، يطلب الصفح من روحي، وجرح الندم ينز في قلبه.. بسبب قيادته المتهورة في ذلك اليوم المشؤوم."

عاد الزوج وهو يجلس على كرسيه المتحرك إلى جانبها، وأدار جهاز التلفاز. نظرت إليه مليا، وأدركت ثانية انه ليس فارس أحلامها.. ولا هو الرجل الرومانسي العاطفي الذي كانت تتمناه، والذي فضلته على ابن عمها. تمثلت في ذاكرتها كلمات أمها، وهي تعلن عن عدم رضاها بزواجها منه، لاسيما وأنه قد توفي والدها بذبحة صدرية، بعد ما تقدم لخطبتها بيومين فقط، فتطيرت الأم منه، واعتبرته شخصا يجلب النحس.
ألقت برأسها على المقعد، وهي تحدث نفسها "لن يخلع نظارته التي تخفي الجرح الكبير بجانب عينه اليسرى.. ولن يحتضنني.. ولن يتذكر أن هناك شموعا وورودا في هذا البلد."
لاحت منه التفاتة وهو يعدل جلسته ويتحسس رجليه المشلولتين أمامه، وسألها بعد ما لاحظ علامات ألم على وجهها:
 ما بك ..هل تشعرين بألم ؟
لم يسمع جوابها الذي لم تنطقه الشفاه، ولم يكرر السؤال، ويلح عليها، كما تمنت في قرارة نفسها، بل تحول إلى متابعة مسرحية هزلية تعرض على شاشة التلفزيون باستمتاع كبير.

أغمضت عيناها منزعجة من ضحكاته وتعليقاته المرحة على أحداث المسرحية، وعاودتها ذكرياتها عن ذلك اليوم الأسود في حياتها منذ خمس سنوات، وهما في طريق عودتهما من رحلة شهر العسل، حينما اصطدمت شاحنة كبيرة بسيارتهما، فتدحرجت في واد سحيق. وقد مكثا في المستشفى على إثر هذا الحادث ما يقارب الستة أشهر.
صوبت نظرها إليه، وتساءلت ذاتها "ولم يكون الموت من نصيبي أنا؟ لم لا يكون من نصيبه هو... أليس هو الذي كان يقود السيارة.. وتسبب في هذه المأساة.." هدأت خواطرها قليلا، ثم عادت وتوالت أفكارها، "ترى لو مات في ذلك اليوم ماذا كنت فعلت، ياه... كنت عشت سلطانة.. فكل أمواله تكون من نصيبي وحدي، فلا وريث له في هذه البلاد ". ثم تحسست رجليها وظهرها بيدها اليمنى وهي تتذكر رأي الأطباء في حالتها، حيث أعلنوا أن الكسور التي أصابت حوضها ليست خطيرة، فهي ما زالت شابة فتية، وباستطاعتها معاودة السير بصورة طبيعية، بعد سنة على أكثر تقدير. وأما تقطع أصابع يدها اليسرى.. فلن يعيقها مستقبلا.

كان يبدو لأميرة أن زوجها يستمتع بمشاهدة المسرحية، والحقيقة أنه كان يحدث نفسه، هو أيضا في هذه اللحظة، مثل كل اللحظات، التي يلمح فيها علامات الأسى في وجه أميرته، يذكرها وهو غائب عنها، في عمله أو بين الأصحاب.. "هل هذه فتاة أحلامي التي خطفتها من حضن والدتها عنوة، لإصرارنا على تتويج قصة حب جميلة جمعتنا أكثر من ثلاث سنوات بالزواج .. كانت وردة جورية جميلة، يتمنى قطفها معظم شبان الحي، كانت بلبلا صداحا، يسعد بعذوبة صوتها، كل من تبسمت في وجهه محيية، كانت غصن بان مثير لكل من يتبع خطاها في الطريق. واليوم.. وبعد هذه السنين القليلة العدد، والطويلة الأمد، لم يبق من الجورية إلا شوكها، ومن البلبل إلا الريش المتهدل، وغصن البان فقد طراوته وجف عوده. كيف تبدلت قوتها إلى هشاشة، وانطلاقها إلى تقوقع، لا تمل من اجترار ماض لا سبيل لتبديل أحداثه."
بسمل وحوقل، ثم عاد لمتابعة مشاهد المسرحية، حين دخلت الخادمة تعلن عن موعد الغداء، وأميرة ما زالت بعيدة بأفكارها عما يجري حولها، ولكنها استفاقت على يد زوجها تهزها وهو يقول : "هيه.. أين سرحت أفكارك ".
 دعيني أساعدك في الانتقال إلى كرسيك المتحرك يا سيدتي. للتوجه إلى مائدة الطعام.
قالت الخادمة وهي تمد يدها إلى أميرة، وتنظر إلى سيدها بأسى، وتتعجب في سرها من أمر سيدتها، التي تصر على عدم قدرتها على المشي، أو الوقوف على قدميها دون مساعدة، دائمة الشكوى من حظها العاثر، والتحسر على أيام صحتها الفتية. وهي على يقين بأن سيدتها تستطيع المشي وحدها. إذ شاهدتها صدفة، منذ أكثر من شهر، تسير باتجاه حمام غرفة نومها دون مساعدة. ولما أظهرت لها فرحتها بتحسن صحتها لما قابلتها على بابه.. وبختها سيدتها وعنفتها، واتهمتها بأنها فقدت ذاكرتها مرددة.. "هل نسيت أنك أوصلتني إليه قبل قليل؟".

منذ تلك الحادثة، بدأت أميرة تنظر إلى خادمتها بريبة وخوف، وطلبت من جارتها علياء أن تبحث لها عن بديل لهذه "الخادمة البليدة" كما وصفتها. في وقت اتقدت فيه شهية حب الاستطلاع والبحث عن الأسرار الخفية، عند هذه البليدة، وبدأت تتنبه، وتدقق، في كل ما يتعلق بمخدومتها، وشاهدت ذات يوم كتابا بيد أميرة، وهي على يقين انه لم يكن موجودا بجانبها على المقعد، أو على الطاولة أمامها، حينما قدمت لها كوب عصير. وبعد أسبوعين، بينما كان الزوج في سهرة خارج المنزل، أوصلت أميرة إلى سريرها في موعد نومها، ولم يمض أكثر من نصف ساعة، حتى سمعت صوت ارتطام كأس حسبته في غرفة الجلوس، فتصورت أن القطة أسقطته، ولما ذهبت لتستطلع الأمر، لاحظت نور ينبعث من غرفة سيدتها، وظلال.. خيالها يمشي في الغرفة.

ولم يزل السؤال الكبير يحير الخادمة:
 "لم كل هذا الإصرار من سيدتي على أن تبقى حبيسة مقعدها، هل هي حبيسة فكرة أفقدتها لذة الحياة، أم الانتقام؟"


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى