السبت ٢٩ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٧
بقلم فرج الغضاب

في المنهج.. اللّغة طريق لبيت المتنبّي وأسّ للتّقيّد والانعتاق

البدء:

نروم في هذه الورقة الموجزة أن نقارب المنهج في تحليل الشّعر بالاعتماد على اللّغة بما هي الحدّ الأدنى الّذي من المفترض أن يحصل حوله اتّفاق بين القرّاء. واختيارنا لهذا التّمشّي له غايات:

أوّلها النّظر في الموروث النّقديّ العربيّ والوقوف على خصائص المنهج فيه والإشكالات الّتي نتج عنها الاختلاف في المتنبّي.

وثانيها تقديم مداخل ممكنة مستيسرة عمادها اللّغة قد تفيد طلاّب الأقسام النّهائيّة في تحليل النّصوص وتقليب آياتها. على ألاّ يفهم من ذلك أنّه قول فصل يجب توخّيه أو درس تطبيقيّ يحفظ ليستنسخ، فما ذلك هو القصد. وإنّما الغاية أن يقع تدبّر ما قد يرد فيه وتطعيمه بالمكتسب.

ثمّ سنعمد لختم القول في البيتين الّذين وقع الاختيار عليهما إلى قراءة تلفّظيّة نحاول من خلالها وإن بإيجاز أن نرصد مناورات الخطاب في هذه المقطّعة باعتبارها مدخلا أيضا من المداخل المعتمدة على اللّغة المكمّلة لما أوصل إليه عمل القدامى.

أمّا القصيد الّذي اتّخذناه سندا ومنطلق عمل فهو: منظوم على بحر البسيط متكوّن من بيتين اثنين قالهما المتنبّي ارتجالا في البدر بن عمّار إثر حادثة حصلت بمجلسه. يقول الشّاعر:

زَعَمْتَ أَنَّكَ تَنْفِي الظَّنَّ عَنْ أَدَبِي ......... وَأَنْتَ أَعْظَمُ أَهْلِ الأَرْضِ مِقْدَارًا

إِنِّي أَنَا الذَّهَبُ المَعْرُوفُ مَخْبَرُهُ ........... يَزِيـــــدُ فِي السَّبْكِ لِلدِّينَارِ دِينَارًا

منهج الشّرح لدى القدامى:

سنعرض في هذا المستوى إلى تقليب النّظر في خصائص المنهج المعتمد لدى أربعة من شرّاح المتنبّي هم: المعرّيّ والعكبريّ والبرقوقيّ واليازجيّ. واخترنا هؤلاء الشّرّاح الّذين هم من فترات زمنيّة متباعدة قصدا لننظر في تطوّر التّعامل مع المنهج واختلاف وجهات نظرهم على الرّغم من استنادهم إلى المداخل اللّغويّة في رصد الدّلالة، دلالة القول الشّعريّ.

-1 شرح المعرّي:

يشرح المعرّي البيتين كليهما دفعة واحدة. فيقدّم هذا القول المجمل:

"السّبك: الصّوغ. يقول: إن كنت أردت إزالة القهر عنّي فقد زدت أنا على التّجربة، مثل الذّهب الّذي إذا سبك زاد للدّينار دينارا، وليس كلّ ذهب كذلك."

البيّن من كلام المعرّي أنّه ينتهج في شرح المقطّعة نهجا مخصوصا يخالف فيه ما يعرف بقاعدة الشّرح بيتا بيتا الّتي جرت سنّةً في النّقد القديم. ثمّ نراه يستهلّ شرحه بالنّظر فيما أبهم من المعجم ثمّ ينصبّ مباشرة على تأويل المعنى دون ذكر السّند اللّغويّ بوضوح. ثمّ يثلّث بإيراد تعليق تقييميّ فيه من الإلغاز الكثير.

-2 شرح العكبريّ:

يعمد العكبريّ إلى شرح البيتين كلاّ على حدة فيقول في البيت الأوّل:

"المعنى: كان المتنبّي يُتَّهم أنّه لا يقدر على عمل الشّعر ارتجالا، فأراد بدر أن ينفي عنه هذه التّهمة."

ثمّ يقول في البيت الثّاني:

"المعنى: يقول: أنا كالذّهب الّذي يَخْبُرُ النّاس جوهره بالسّبك، فتزيد قيمته على ما كانت قبل، فقال البدر: واللّه للدّينار قنطارا. قال ابن القطّاع: أُخِذَ عليه في هذا، وقالوا ليس يوجد ذهب يزيد في السّبك. فقيل: معناه أنّ الإكسير الّذي يطرح على الدّينار من الفضّة، فيعود ذهبا. والصّحيح من المعنى: أنّه أراد بالذّهب الإبريز الخالص، الّذي يزيد في السّبك. يريد: إذا قُويِسْتُ وجُودِلْتُ زاد علمي، وتضاعف فضلي، فضرب السّبك مثلا للجدال والاختبار."

ممّا يلاحظ في تناول العكبريّ لقضايا الشّرح أنّه يعمد مباشرة إلى ذكر المعنى الّذي تأوّله دون الإشارة إلى الأسس اللّغويّة الّتي ينبني عليها تخريجه. كما يعمل على إسناد شرحه بذكر الرّوايات الّتي تحدّد الظّروف الحافّة بالكلام. ثمّ نراه في البيت الثّاني بعد ذكره المعنى والمقام الّذي أطّر الكلام، يمرّ إلى مناقشة الشّرّاح. ليصوّب ما رآه مجانبا للصّواب في شرحهم وتأويلهم لقول المتنبّي.

-3 شرح البرقوقيّ:

يتوخّى البرقوقيّ طريقة الشّرح بيتا بيتا. فيقول في البيت الأوّل:

"تنفي الظّنّ: أي ما اتّهم به من أنّه لا يقدر على ارتجال الشّعر، وفي تعبيره بـ"زعمتَ" ما يُشْعِرُ بأنّه يريد أنّي أبعد من أن يظنّ بي مثل ذلك، فليس يعوزك أن تتجشّم نفي هذا الظّنّ عنّي."

ويقول في البيت الثّاني:

"يقول: إذا امتحنت تضاعف فضلي وارتفعت منزلتي، ومثلي في ذلك مثل الذّهب الإبريز الخالص إذا اختبر بالسّبك، فإنّ ما كان منه يظنّ بادئ ذي بدء أنّه يساوي دينارا قد تزيد قيمته دينارا آخر. والمعروف: صفة للذّهب، ومخبره: مبتدأ؛ خبره: بعده؛ والمخبر: الخبرة."

ما يلاحظ في منهج الشّرح اللّغويّ عند البرقوقيّ هو اعتماده على النّظر في تراكيب يختارها من البيت ويتأوّل لها معناها حسب ما يقتضيه فهمه للظّاهرة. أو يعمد إلى نهج عكسيّ يتمثّل في التّصريح بالمعنى كما تأوّله ثمّ يعرّج على منتقى التّراكيب يذكرها. ليختم بالشّرح اللّفظيّ للعبارة الّتي رأى أنّها قد تحمل لبسا أو غموضا في معناها المعجميّ المقصود.

-4 شرح اليازجيّ:

يلتزم اليازجيّ السّنّة النّقديّة، فيتوخّى طريقة الشّرح بيتا بيتا. ويقول في البيت الأوّل:

"ويروى أهل العصر. والمراد بالظّنّ المقصود نفيه عن المتنبّي ما اتّهم به من عدم المقدرة على ارتجال الشّعر. وقوله "زعمتَ" يريد أنّه أبعد من أن يظنّ به مثل ذلك فلا حاجة إلى نفي هذا الظّنّ عنه.".

ويقول في البيت الثّاني:

"المعروف نعت الذّهب. ومخبره مبتدأ خبره ما بعده والمراد بالمخبر الخبرة. يقول: إنّه بالامتحان ترتفع منزلته ويتضاعف فضله كالذّهب الخالص إذا اختبر بالسّبك فإنّ ما يسوّى منه دينارا في بادئ الرّأي قد تزيد قيمته دينارا آخر.".

يلاحظ في شرح اليازجيّ أنّه قد اعتمد في البيت الأوّل على التّنبيه إلى اختلاف الرّواية في البيت، ثمّ ركّز على انتقاء ألفاظ بدت غامضة الدّلالة فأوضحها ببيان المعنى كما تأوّله. أمّا في البيت الثّاني فإنّه ينطلق من تراكيب مخصوصة يعيّن وظائفها النّحويّة ثمّ يردفها بما وقر في ذهنه من معنى مناسب لها.

التّعليق على الشّروح:

من الثّابت أنّ الشّرّاح الأربعة قد انتهجوا منهج اللّغة مدخلا من المداخل الموطّئة لاقتناص المعنى الّذي ينشئه قول المتنبّي. وعلى هذا النّهج دار تأويلهم ووصلوا إلى نتائج تلتقي حينا وتختلف أحيانا.

وهذا الأمر يدعو إلى تبيّن خصائص المنهج الّذي تبحثه هذه الورقة وقد جعلت منه مناسبة لتطارح الفكر وشجونه. والاهتمام يكون هنا باللّغة منهجا وسبيلا تمتطى في كشف القول الشّعريّ وآليات بناء المعنى فيه. فالمنهج واحد ثابت مستقرّ رَحِمُهُ اللّغة، يقيّد في الظّاهر الشّارح تقييدا ويلزمه بخصائص الإجراء المحدودة. أي إنّه العامل الّذي يوحّد الشّتات من خلال تحديد القواعد العامّة الّتي تؤطّر النّظر أيّ نظر في الكلام الشّعريّ.

إلاّ أنّ المنهج اللّغويّ المتوخّى في مقاربة الشّرّاح لمعنى خطاب المتنبّي لم يمنعهم بالرّغم من السّمة التّقييديّة البادية عليه من الاختلاف. اختلاف هو في منطلقات التّناول للمسألة اللّغويّة يوصل بدوره إلى اختلاف في التّأويل. ويكون ذلك في مستويين اثنين على الأقلّ:

المدخل اللّغويّ المعتمد:

كلّ من الشّرّاح الأربعة اختار المدخل الّذي ارتآه فتردّد قولهم بين مستويات من المفاهيم اللّغويّة وحدودها، تتراوح بين الوحدة الصّغرى المتمثّلة في اللّفظ أي المعنى المعجميّ، والوحدة الكبرى المتمثّلة في المقام أي المعنى المستقى من ظروف الخطاب.

ففي البيت الأوّل، استهلّ اليازجيّ شرحه بمدخل المقام، في حين استهلّ البرقوقيّ بالنّظر في التّركيب، أمّا العكبريّ فقد اختار الاستهلال بالانصباب على المعنى اللّغويّ المبنيّ على تأويل ضمنيّ لتراكيب اللّغة.

أمّا في البيت الثّاني، فقد كان التّناول عند اليازجيّ بالنّظر في التّركيب، واشترك كلّ من البرقوقيّ والعكبريّ في اختيار الاستهلال بالمعنى، في حين تفرّد المعرّيّ بتفضيله الاستهلال بالنّظر في الدّلالة المعجميّة للّفظ.

إذن، ما يلاحظ في هذا الأمر هو هذه الحرّيّة المطلقة الّتي يسمح بها المنهج من الدّاخل. فللشّرّاح حقّ الاختيار والاختلاف في الاختيار. بل أكثر من ذلك، فالشّارح الواحد ينوّع في اختيار مداخله إلى الخطاب من بيت إلى آخر.

حدود المدخل اللّغويّ المعتمد:

من البيّن عند إمعان النّظر في الشّروح المذكورة أنّ حدّ المدخل اللّغويّ الواحد يختلف من شارح إلى آخر، كما يختلف أحيانا عند الشّارح الواحد. ففيما يتعلّق مثلا بالمدخل التّركيبيّ الّذي كان حضوره غالبا على الشّروح المذكورة، نلاحظ عدم الاستقرار أو الاتّفاق على تناول الحدّ التّركيبيّ بكلّ وضوح والتزام بين الشّرّاح. إذ يعمد أغلبهم إلى التّركيز على عنصر تركيبيّ واحد من بين جملة عناصر البيتين فيما يرون أنّه نتوء ذو دلالة؛ كما يختلفون في الاهتمام بوحدة تركيبيّة دون الأخرى. فأحدهم يهتمّ من الجملة بالنّاسخ الفعليّ (زعمت ) دون بقيّة عناصرها الوظيفيّة، والآخر يقتطع من الجملة نواتها الإسناديّة مع بعض الفضلة (تنفي الظّنّ) والثّالث يختار التّعليق على متعلّق المسند الوارد مركّبا جزئيّا (المعروف).

ثمّ حتّى التّقسيم التّركيبيّ المتوخّى فيه نظر: فمن الممكن مثلا أن يعتبر الصّدر والعجز من البيت الأوّل جملة واحدة، كما يمكن عدّهما جملتين مستقلّة إحداهما عن الأخرى تركيبيّا. وبالمثل في البيت الثّاني يمكن عدّ كلّ من صدره وعجزه جملتين مستقلّتين، كما يمكن عدّهما جملة واحدة.

وعلاوة على ذلك فإنّ الانعتاق من تقييدات المنهج يبدو أيضا من خلال شرح المعرّيّ. إذ ما يجلب الانتباه فيه هو عدم التزامه بالشّرح بيتا بيتا كما اقتضت السّنّة في عيار الشّعر. فهل سبب ذلك نظرة منه مخصوصة للحدّ التّركيبيّ؟ وهو فعلا فيما يبدو كذلك. إذ تشير العبارات الّتي أوردها أنّه يفهم البيتين من خلال علاقة تركيبيّة شرطيّة مبطّنة بينهما. فلكأنّ البيت الأوّل شرط والبيت الثّاني جزاؤه. في إطار قول عنيف بؤرته صراع بين مالك الكلام إذ تنصاع اللّغة إليه فيصرّفها حيث شاء وبين ملك الرّقاب ينازع بالزّعم لإثبات وجوده تسلّطا فتهلكه اللّغة.

ولعلّ التّأويل الّذي ذهب إليه اليازجيّ يدعم ما ألمح إليه شيخ المعرّة في معجزه ويفصّله تفصيلا. فبيتا المتنبّي إذن حربٌ لَمْحٌ بين سلطتين: ذَهَبُ القول وذَهَابُ الملك إذ يتردّى في الحرف. ولتبيين بعض ذلك نحاول رصد بعض العلامات التّلفّظيّة وما تحمله من مناورات في القول.

الجانب التّلفّظيّ: نظرة في مناورات خطاب المتنبّي.

بما أنّنا قد أشرنا إلى اشتمال المنهج على حيّز من الحرّيّة في نطاق الجانب الإجرائيّ من التّعامل مع أحكام اللّغة ومعاييرها؛ فسنحاول أن نستثمر ذلك في التّعليق وإن بإيجاز على جانب من جوانب النّظر اللّغويّ في خطاب المتنبّي من هذين البيتين، بما قد يكون فيه بعض الفائدة المساعدة على تحليل القول الشّعريّ ورصد معانيه عند التّعامل مع النّصوص.

النّظر في البيت الأوّل:

زَعَمْتَ أَنَّكَ تَنْفِي الظَّنَّ عَنْ أَدَبِي وَأَنْتَ أَعْظَمُ أَهْلِ الأَرْضِ مِقْدَارًا

سنعتبر أنّ البيت كلّه جملة واحدة خبريّة، تتكوّن من (زَعَمَ) فعل من أفعال القلوب ناسخ يليه فاعله(تَ) ومفعوله (أَنَّكَ تَنْفِي الظَّنَّ عَنْ أَدَبِي) ومركّب بواو الحال وظيفته حال(وَأَنْتَ أَعْظَمُ أَهْلِ الأَرْضِ مِقْدَارًا):

وباعتبارها جملة تحقّق معنى لغويّا هو الإخبار فمقياسها كما يقتضي الحدّ اللّغويّ يكون بمعيار الصّدق والكذب. فهي خطاب صادر عن ذات تمرّر باللّغة حكما أو قيمة يمكن للمخاطب أن يصدّق مضمونها كما يمكنه أن يكذّب ما تخبر به. وهذا الإطار من الخطاب هوّ بالضّرورة إطار مجادلة. يقارع فيه الكلام الكلام.

وعند النّظر في خصائص التّركيب الّذي اختاره المتنبّي ليمرّر به قوله، يجلبنا نتوء النّاسخ الفعليّ كما ذهب إلى ذلك أغلب الشّرّاح الّذين ذكرناهم. ومصدر هذا الثّقل والنّتوء الدّلاليّ في الكلمة يعود إلى منزلتها في اللّغة. إذ إنّ هذا الفعل النّاسخ يستعمل للإفادة بأنّ المقول المتعلّق به على صفة مخصوصة. وأنّ القول بتعيين تلك الصّفة المخصوصة وإثباتها غير مستند على وثوق. أي يفيد الظّنّ فقط.

ولمّا نمعن في تدبّر قول المتنبّي نتبيّن أنّ الدّلالة الّتي يحملها تركيبه تميل إلى نسبة الادّعاء للمخاطب. أي إنّه دَعِيٌّ يثبت ما لا حقيقة له. والأمر المدّعى هو الصّفة الّتي ينسبها المخاطب لنفسه إذ ينصّب ذاته نصيرا للشّاعر يدرأ عنه مآخذ الغير. وهذه الصّفة محلّ النّزاع تحمل شحنة تلفّظيّة ضمنيّة على درجة قصوى من العنف. هيّ سلطة السّلطان إذ يجترئ على اللّغة. إذ فيها تضخّم للذّات وامتلاء ينفي به الآخر. وخاصّة صاحب الشّأن وهو الشّاعر نفسه. فلكأنّ المناصرة حبّا في الشّاعر تتحوّل إلى إقصاء له وتغييب. بل استئثار مريع.

وهذا الأمر فيما يبدو يبرّر اختيار الشّاعر للتّركيب حتّى يجيب عن العنف بعنف أمتن. فالسّلطان يحاول الاحتواء على الكّلّ والشّاعر يردّ الكيل متوسّلا سلطته على اللّغة. وما يدعّم هذا السّبيل في تأويل المعنى الّذي نزعمه هو إيراده للحال. والحال في عرف اللّغة تستعمل لإثبات صفة ظرفيّة غير ملازمة للموصوف: "وَأَنْتَ أَعْظَمُ أَهْلِ الأَرْضِ مِقْدَارًا". فهذه الحال مشحونة بقوى تلفّظيّة قصوى تعادل عنف المخاطب الدّعيّ. إذ تنسفه من الوجود نسفا. فتردّ الإهانة بما هو أعمق منها وأبلغ. وذلك في وجهين:

أحدهما وهو الأخفّ وقعا يتمثّل في تذكير تلك الذّات المتضخّمة بحدودها. إذ مهما علت وجلّت فإنّ مقدار عظمتها في الأرض هذا ما هو إلاّ حالة ظرفيّة لن تدوم. ولكأنّ ردّ الفعل هنا يتمثّل في نوع من الانتصاح. وإسداء النّصح مناورة باللّغة تقلب موازين القوى في الجدل. فهي سلطة الحكمة تتجلّى ويخضع لها الملوك. فلكأنّ الخطاب في هذا المقام يبيّن وقوع المخاطب في المكابرة والصّلف وهي سمة ليست من شيم السّلطان.

وثانيهما وهو الأوقع يتمثّل في العبث بتلك الذّات المتضخّمة والاستهزاء منها بالحطّ من شأنها. إذ في إثبات تلك الحال الظّرفيّة للمخاطب، وقرنها بالزّعم، تنتج دلالة مناقضة للمتوقّع. إذ إنّه من غير المقبول أن يكون السّلطان دعيّا زاعما غير مستند إلى الوثوق، يجري أحكامه على الظّنّ. فهذه من علامات الظّلم. ومقدار العظمة في الأرض أساسه العدل.

وحتّى لا نطيل أكثر نقول إنّ هذا البيت تتجاذبه سلطتان في حالة من الصّراع العنيف: سلطة الحكم وسلطة الكلمة. ولعلّ اليازجيّ من بين الشّراح الأربعة هو الّذي انتبه إلى ذلك حيث قال:

"وقوله: زعمت يريد أنّه أبعد من أن يظنّ به مثل ذلك فلا حاجة إلى نفي هذا الظّنّ عنه."

النّظر في البيت الثّاني:

إِنِّي أَنَا الذَّهَبُ المَعْرُوفُ مَخْبَرُهُ ....... يَزِيدُ فِي السَّبْكِ لِلدِّينَارِ دِينَارًا

لمّا كنّا قد وجّهنا التّأويل في تراكيب البيت الأوّل وجهة الصّراع في إطار مقام تواصليّ قائم على المجادلة بين سلطتين تحاول إحداهما نفي الأخرى وإقصاءها. فإنّا سنبحث في البيت الثّاني عن مدى مصداق ذلك.

وبيّن أنّ البيت يقرأ من حيث تركيبه أكثر من قراءة. إذ يمكن أن نقول: هو متكوّن من جملتين كما ذهب الشّرّاح إلى ذلك: الجملة الأولى هي: "إِنِّي أَنَا الذَّهَبُ المَعْرُوفُ". والجملة الثّانية هي: "مَخْبَرُهُ يَزِيدُ فِي السَّبْكِ لِلدِّينَارِ دِينَارًا". كما يمكن عدّ الصّدر جملة مستقلّة والعجز جملة ثانية استئنافيّة.

وتؤوّل الجملة الأولى أكثر من تأويل أيضا من حيث التّركيب: فيمكن أن يكون ضمير المتكلّم في "إنّي" اسم ناسخ وخبره هو "أنا الذّهب المعروف" في التّقسيم الأوّل، أو "أنا الذّهب المعروف مخبره" في التّقسيم الثّاني.

كما يمكن أن يكون اسم النّاسخ مركّبا اسميّا بالتّوكيد يتركّب من ضمير المتكلّم وضمير الرّفع المنفصل "أنا" وخبر النّاسخ هو البقيّة. وبشيء من الإيغال في التّعسّف يمكن القول إنّ البيت كلّه جملة واحدة. وعبارة "مَخْبَرُهُ يَزِيدُ فِي السَّبْكِ لِلدِّينَارِ دِينَارًا". كلّها مركّب إسناديّ فرعيّ متعلّق بالاسم المشتقّ العامل "المعروف". وكيفما كان التّقسيم يختلف التّأويل.

والمهمّ في هذا البيت عند رصد النّتوءات التّلفّظيّة هو هذا الثّقل الّذي يحمله مفتتح التّركيب. إذ الجملة جملة خبريّة مؤكّدة بالحرف "إنّ". وتأكيد الخبر في عرف البلاغيين إثبات وحمل للمخاطب على التّصديق. بل هو تمكين المعنى في نفس المخاطب وإزالة الغلط في التّأويل وإماطة الشّبهة أو توهّم النّسيان والسّهو. بل الأبعد من ذلك أنّ التّركيب يحمل توكيدا لفظيّا ثانيا هو الضّمير إذا اعتمدنا التّقسيم القائل إنّ اسم النّاسخ ورد مركّبا اسميّا بالتّوكيد. فالكلام بهذا مؤكّد ضعفا. وفي عرف النّحو، التّأكيد بإنّ تأكيد للخبر. بل تأكيد لنسبة إسناد الخبر للمسند إليه. وفي عرف النّحو الإفادة لا تكون إلاّ في الخبر وهو مدار الحكم والقصد. وبيّن ما في الخبر من غلوّ الذّات المتكلّمة. فهي الذّهب. وأيّ ذهب! ذهب من كلام خالص لا يفنيه الزّمن. بل من أندر الذّهب هو يزيد بالسّبك ولا يفنى. بل يفيض عظما في الأرض وقدرا. ولا يفنيه الكبر فهو الذّهب. وما السّبك إلاّ سلطة على اللّغة تصوغها صوغ الجواهيريّ فتصرّفها في كلّ ريح من المعنى. إذن ما يلاحظ في نتوء الكلام في هذا البيت هو تضخّم الذّات المتكلّمة وغلوّها في الفخر بذاتها. ولكأنّ البيت الثّاني هذا ردّ على غلوّ بغلوّ أقوم سبكا.

وهذا الأمر يدفعني الآن إلى تأمّل كلام شيخ المعرّة الّذي قلت في البدء إنّ شرحه فيه من الإلغاز الكثير. فَلِمَ انتهج المعرّي شرح البتين دفعة واحدة؟ وَلِمَ أنهى شرحه بكلام تقييميّ يقول: "وليس كلّ ذهب كذلك؟"..؟

يبدو أنّه رأى في المعنى وحدة شرطيّة تتجاوز التّركيب الوظيفيّ الصّناعيّ للّغة. لتكون إن صحّ التّعبير تركيبا شرطيّا للخطاب لا للجمل. فلكأنّ الخطاب في القصيد يفتتح بحرف شرط ضمنيّ هو: "إنْ" ويتضمّن حرف الجزاء "الفاء" مفتتحا البيت الثّاني من القصيد. وإن كان ذلك كذلك فيمكن أن نقرأ القصيد هكذا:

إن زَعَمْتَ أَنَّكَ تَنْفِي الظَّنَّ عَنْ أَدَبِي ُ...... وَأَنْتَ أَعْظَمُ أَهْلِ الأَرْضِ مِقْدَارًا

فـــ إِنِّي أَنَا الذَّهَبُ المَعْرُوفُ مَخْبَرُه ُ...... يَزِيـــدُ فِي السَّبْكِ لِلدِّينَارِ دِينَارًا

فلكأنّ المتنبّي إذ أهين في صميم قدرته الشّعريّة يقول للبدر بن عمّار: أنت كلامك زعم يدّعي إنجاز ما ليس فيه، وصفتك زائلة لا خير فيها. ومذهبك في الحكم غلط وشبهة وتوهّم نسيان وسهو. وأنا متمكّن في المعنى لا تعجزني اللّغة الّتي أصوغها سبك صائغ لإزالة أغلاطك وإماطة شبهاتك وتوهّم نسيانك وسهوك. وبهذا أكون ذهبا لا كالذّهب. ذهب سلطة اللّغة المذهبة لسلطانك. وهذا برهاني قائم في مجلسك أرتجل من الشّعر عقدا ذا آيات. وأركب الكلام أصرّفه في غير ما تفقه ويفقه الآخرون. فأفنّد ادّعاء الخصم وأفنّد ادّعاءاتك مناصرتي وأثبت قدرتي على الدّفاع عن شاعريّتي. بل وأسخر منك. وليس يخفى -إن اعتمدنا هذا التّخريج- نَفَسَ السّخرية من المخاطب والعبث به لإذهاب هيبته.

القطع:

إذن، كلّ هذا الّذي قيل وإن كان على صورة مختزلة ينقصها التّدقيق والتّأنّي؛ يشير إلى اتّفاق بين الشّرّاح القدامى على أنّ الطّريق إلى المعنى من القول الشّعريّ ومفتاح أبواب دلالاته هو اللّغة وأحكامها. وبالتّالي فهي منهج من المناهج الممكنة وطريق للبيت الشّعريّ. بل قد تكون أكثر السّبل يسرا ووضوحا في مقاربة الخطاب الشّعريّ. إذ يمكن أن نحتكم فيها إلى قواعد الكلام ومقاييسه. وهي في رأينا منهج من حيث اشتمالها على ثلاثة مظاهر أساسيّة أو شروط يتطلّبها كلّ منهج من المناهج:

أوّلها القانون الكلّيّ والنّظرة الشّاملة: وتمثّلها قواعد اللّغة.

ثانيها إمكان الإجراء والتّطبيق الاختباريّ: فهي أداة عمل ولا ننسى أنّ اللّغة في عرف العرب هي من علوم الوسائل.

ثالثها إمكان التّقييم: أي الاحتكام بعد الإجراء إلى الكلّيّ. أي لقواعد اللّغة المجرّدة المشتركة لسبر مدى كفاءة المنهج المتّبع.

وبين حدّي هذه الشّروط يكون التّقييد والعقل المنهجيّ الصّارم الّذي يبدو في ظاهره أنّه مكبّل لمفهوم التّحرّر الفكريّ، ونوع من أنواع التّسلّط على الحقيقة اللّغويّة أي على الوجود نفسه.

لكن من ناحية الإجراء تبرز في المنهج قوّة جذب مغايرة قدرها الانعتاق عن الحدّ، والاحتكام إلى العقل الحرّ المتغيّر، وانعدام الحقيقة الفرد المطلقة بما هي جمود وثبوت دائم. أي القوّة بما هي ضدّ لمفهوم العقل نفسه.

ويبدو أنّ هذه الخاصيّة هي التّي تجعل من المنهج مشغلا حقيقيّا يراود الفكر الإنسانيّ وليس هو من باب التّرف الذّهنيّ. وذلك على اعتبار أنّ وعي الوجود، وهو وعي شعريّ بالأساس، ينتفي خارج حدود سجن اللّغة. وعليه فإنّ لحظة الوعي تقف حتما على حدود ضروريّة هي القيد وعقال العقل. أي المنهج الصّارم من ناحية. كما أنّها، أي لحظة الوعي هي في جوهرها لحظة الانتقاض على البناء. أي لحظة الانعتاق والحرّيّة. ومدخلها يكون بالممارسة الحيّة لهذا الانعتاق المتمثّلة في مفهوم الاختيار، بما هو قرار والتزام بمسؤوليّة. وذاك ما يدعو إلى جديد البناء. [1]

المكنين في كانون الثانى/ يناير 2007


[1تنبيه: قدّمت هذه الورقة مداخلة في أعمال ندوة المعاهد الثّانويّة بمدينة دوز من الجمهوريّة التّونسيّة في دورتها الحادية عشرة أيّام: 4/3/2 شباط/فبراير 2007


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى