الخميس ٢٥ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧
قصــة قــصــيـرة:
بقلم ميلود بنباقي

رمـــضـــــــــــــــــــان.

مر عام على زواجنا يا أم الخير، ومضى العيد الصغير وتلاه العيد الكبير، والدار مازالت خاوية تصفر وغرفها الأربع فارغة. الدار التي لا يعمرها الأطفال يسكنها الشيطان والعياذ بالله...

أحنت الولية رأسها وتمتمت بما لم يسمعه رمضان. فرفع صوته من جديد وعاد للكلام. الآدمي إذا مات، انقطع ذكره وخبره إلا من عمل صالح، أو ولد يحمل اسمه ويدعو له بالخير والرضوان ويترحم عليه ويرش قبره بالماء ونزر من القرآن من الجمعة إلى الجمعة.

أحنت الولية رأسها من جديد وتمتمت بما لم يسمعه رمضان. وفهم رمضان ما قالته من خلال حركات شفتيها وانقباض وجهها. الأمر ليس بيدي يا ولي الله. لم أفعل شيئا أؤخر به الذرية وأحرمك و أحرم نفسي من الأولاد. كله من عند الله، يهب الذكور لمن يشاء والإناث لمن يشاء ويحرم من يشاء من الذكور والإناث معا. ونحن في الأول والآخر لم يمض على زواجنا سوى عام. عام واحد فقط يا رمضان، فلم الاستعجال؟ الناس هذه الأيام لا يكثرون من الإنجاب. الزمن تبدل والحياة باتت صعبة ومرة وتربية الأطفال تشيب الغربان والرضع، و حاجياتهم تثقل كواهل الجبال.

يتنهد رمضان ويضرب كفا بكف. يرفع رأسه حنقا فتتمتم الولية مرة أخرى... الرأي رأيك يا أخي وما تراه هو الصواب. إن شاء الله ما يدور العام الثاني حتى يكون لنا صبي، أو صبية، يملأ الدار صراخا وبكاء وتسميه باسم أبيك أو اسم جدتك لأبيك إن كان بنتا.

وكان أهل القرية يمرون أمام الدار، فيقول الرجال لرمضان: المال والبنون زينة الحياة الدنيا يا رمضان. وأنت رجل مسكين لا مال لك، فلا تحرم نفسك من البنين. ابحث عن نصف الحياة الدنيا على الأقل ولا تزهد فيها كاملة... وتقول النسوة لأم الخير: الأولاد أوتاد الخيمة وأعمدة الدار. والدار التي لا يصرخ فيها الصبيان تنهار بسرعة. حافظي على زوجك واربطي قلبه بالأبناء والبنات فلا يزيغ بصره ولا تتوق نفسه لامرأة أخرى.

ومر العام الثاني وتلاه الثالث وتوالت الأعياد والدار خاوية تصفر وأهل القرية يهمسون في أذن رمضان إن كانوا ذكورا وفي أذن أم الخير إن كن نسوة، ورمضان يتنهد ويرفع رأسه حنقا والولية تتمتم بما لا يسمعه رمضان. ثم جاء الفرج فأخذت الولية تتقيأ وتعاف الطعام الذي تطبخه بنفسها وتنفر من زوجها. انتفخت بطنها وصارت تميل بظهرها للوراء وهي تمشي متكئة بيديها على وركها. وفي تمام شهرها التاسع وضعت بطنها, فكانت بنتا.

قال رمضان: يهب الذكور لمن يشاء والإناث لمن يشاء ويحرم منهما من يشاء. وطار من الفرحة أمام النسوة المحتشدات أمام غرفة أم الخير. ثم خلا بنفسه فسوى طاقيته على رأسه واعتدل في جلسته. وحين تمت الخلوة وانتهت، عاد إلى أهله. فرأى فرحته تضعف وتخفت وهمته تفتر وحماسه يضعف. تراجع عن ذبح العجل الذي كان قد نذره لليوم السابع واكتفى بكبش نطاح لم يسلم خروف أو حمل من قرنيه المعقوفين.

مر عام على ولادة بنتنا الأولى يا أم الخير، ومضى العيد الصغير وتلاه العيد الكبير ولم أر في بطنك شيئا أمني به النفس. ونفسي كما تعلمين تميل من زمان لولد يرثني ويرث اسمي واسم آبائي. تحني الولية رأسها وتتمتم ويمر أهل القرية أمام الدار فيهمسون. ثم جاء الفرج مصحوبا بالدوخة والقيء والوحم وانتفاخ البطن. لم يعد رمضان يتنهد ويرفع رأسه حنقا, ولم تعد الولية تتمتم. ولم يعد أحد يهمس إذا مر أمام الدار. ولم تعد الدار خاوية تصفر. إذ في تمام الشهر التاسع وضعت أم الخير بنتها الثانية.

مر عام على ولادة بنتهما الثانية، ومضى العيد الصغير وتلاه العيد الكبير ونفس رمضان ما زالت تميل لولد يقطع دابر الحساد ويحمل اسم العائلة ويرث فدانا أو فدانين. وما زال أهل القرية يمرون أمام الدار فيهمس الرجال في أذن رمضان: البنتان في حاجة لأخ ذكر يحميهما ويذود عنهما ويحفظ حقوقهما إذا غيبك الموت يا رمضان. وتهمس النسوة في أذن أم الخير: الرجل تزيغ عينه بسرعة ولا أحد يحن عليك ويرعى شؤونك عندما تشيخين وتهرمين غير فلذة كبدك. البنات مصيرهن الزواج وبيوت الناس، ابحثي عن الذكر. وجاء الفرج ومعه الغثيان وبروز البطن وعجائب الوحم. وهيأ رمضان العجل وطلى الجدران بالجير الأبيض وردد الأدعية التي حفظها لهذا الغرض.

ولم يخب رجاؤه هذه المرة، فجاء الولد. لم يخل رمضان بنفسه ولم يسو طاقيته على رأسه ولم ينج العجل من الذبح والسلخ. لم يستثن أحدا وهو يطوف القرية منزلا منزلا، يدعو أهلها للغذاء في اليوم السابع، ولم ينتبه لنفسه وهو يهمل الحقول أسبوعا كاملا ويتفرغ للحفلة وللمولود يحرسه من الذباب والناموس وعيون الناس وثرثرة النساء.

مر عام، ومضى العيد الصغير وتلاه العيد الكبير وما عاد رمضان يجد فرصة للنوم أو الراحة في دار تعج بالصراخ والبكاء. وأهل القرية يمرون فيهمسون في أذنيه: الولد إذا كبر و شب بين البنات، تطبع بطباعهن وفقد شيئا من رجولته وخشونته. ابحث عن إخوانه الذكور. تنهد ورفع رأسه للسماء حنقا وأحنت الولية رأسها وتمتمت بما لم يسمعه رمضان. ثم جاء الفرج مصحوبا بالقيء والدوخة وغرائب الوحم وتكور البطن. وهيأ رمضان عجلا جديدا وطلى الجدران بالجير وراح يردد الأدعية التي حفظها لهذا الغرض. وعندما وضعت أم الخير ولدها الثاني انطلق يطوف القرية بيتا بيتا يدعو أهلها للغذاء في اليوم السابع.

ومر عام، ومضى العيد الصغير وتلاه العيد الكبير، ثم توالت الأعوام والأعياد. وفي كل عام يرفع رمضان رأسه حنقا وتتمتم الولية. ثم يأتي الفرج ويطرق رمضان رفقة أولاده وبناته أبواب البيوت في القرية،بابا بابا، يدعون أهلها للغذاء في اليوم السابع ولا يستثنون أحدا.

انتشر الأولاد والبنات في المدارس وتشعبت الحاجيات وطالت اللوائح والمطالب، ورمضان يحك رأسه وجيوبه ويفضل أن ينام في الحقول بدل أن يعود إلى البيت إذا مالت الشمس للغروب. الرأس يشيب والظهر ينحني وديونه ترتفع، والخناق يضيق حول عنقه فيضرب كفا بكف ويبيع الفدان ويبكي وينثر التراب على رأسه ويتحسر. والناس يمرون أمام الدار فيهمسون: أكثرت من الذرية يا رمضان، وبعت أرضك وبهائمك وصرت غريبا في بلدك. أين كان عقلك يا رمضان؟ وتهمس النسوة في أذني أم الخير: أثقلت كاهله وشيبت رأسه، وعما قليل يهجرك ويهرب من الدار وصداع العيال...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى