الجمعة ٩ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٧
بقلم محمد بروحو

صاحب الكراسة والقلم

عبأ متاعه وحزم حقائبه. غدا صباحا يوم سفره، على أ ول حافلة تمر عبر قريته. فهذه آخر ليلة سيبيتها بها، ولن يعود إليها، إلا وقد عظم شأنه، وتحسنت أحواله. هذا ما كان يقوله لأقرانه وأهل قريته.

التهم عشاءه ثم صعد الأدراج نحو غرفة نومه، بالطابق العلوي من البيت، تمدد فوق فراشه، وضع رأسه على الوسادة، علق بصره بسقف الغرفة. وسرح في خياله. حدج ببصره متاعه، حقائبه وأوراقه.. إنه مسافر إلى مكان، سيجعل منه شخصا محترما. له هيبته وقيمته.

هكذا كان يفكر، وهذا ما كان يردده دائما مع نفسه ( مهاجر إلى تلك القارة.. إلى أي مكان في هذا العلم ).

عاش عاشور مزارعا،كرس حياته خادما لأرض أجداده، يحرث ويحصد. يطوي أكوام البرسيم. كما يطوي الزمان أيامه. كطائر يريد أن يحلق بلا قيود في فضاء يمتد فوق سهول، نقشت بها أمطار الشتاء أخاديد شكلت ساقيات.. كان يمد بصره نحوها. من فوق ربوة تحوي قريته، وكان تنقله بين تلك الربوع الممتدة من قريته إلى الطريق الرئيسية، كما أيامه عبر شهور السنة، صباح فمساء، ثم ذهاب فإياب، يجعله يحس برتابة وقنوط، إنه يجتر خيبة أمل أضاعه، كما الكثير من غيره. فهو محاصر بعادات وتقاليد، يحاول أن ينفلت منها ومن عقالها مهما كلفه ذلك من ثمن. يريد أن يفك قيدها عنه. وعن حياته، أن يدفنها في ماضيه. إن تم زواجه من بنت تربت غير تربيته، يريدها شابة متفتحة. تعشق الحياة. ذات تربية حضرية، متحررة، حواره بين أهل بيته أو قريته غالبا ما كان يدور حول هذا الأمر.

( زواجه من بنت متحررة وسفره معها إلى بلد من بلدان الغرب ). غدا الجميع يتحدثون عنه، فهم الذين يعرفون طموحاته وأفكاره وما يجول بخاطره. بعضهم كان يشجعه، وغيرهم كانوا يحذرونه. وهو لم يدرك لحد الآن مخاطر هذه المغامرة. يعتقد أن أهل قريته عاجزون عما يستطيع هو أن يحققه. إنهم جاهلون. منهم من يرى فيه ذاك الفتى المتمرد على تقاليد قريته وتقاليد مجتمعه. الذي عاش وترعرع في كنفه. كلمات تتمدد في خاطره كلما حاور أقرانه ثم نفسه. كما أيامه في قريته القنوط. يريد أن يكون من الأوائل الذين حققوا لأهل قريتهم شيئا يذكرونه به. هو متيقن من أنه قادر أن يفعل ذلك. هذا ما كان يقوله. تمر أيام وتتوالى شهور وتحل أيام الصيف الدافئة. تكثر حفلات الأعراس وتحل مواسم الأضرحة، ويكثر الوافدون على قريته لزيارة الأحباب، أو لحضور موسم الولي الصالح سيدي بوزيد. في صيف هذا العام وككل السنوات التي مرت، سيقام حفل هذا الولي، يعتبر الاحتفاء به عند أهل القرية، رمزا من رموز العشق. وطقسا من طقوس تقاليد توارثوها أبا عن جد. تحل أيام الاحتفال فتتقاطر جموع بشرية على مكان الضريح. إنهم وافدون من قرى مجاورة وآخرون من مدن بعيدة. وقد يوجد بعض من الوافدين من خارج الوطن يصاحبهم أجانب، ممن تغريهم سياحة من هذا النوع. مناسبة تتكرر كل عام، تفكير عاشور هذه المرة ليس كما من قبل. بدأ يعتمد خطة التخلص من عيشته التي مل رتابتها. وله فرصة مناسبة، فبذكائه وخبرته يستطيع حل مشكلته. فلا بد أن يهاجر حتى يفيد أهله وقريته..

تدوم أيام الاحتفاء بالمناسبة، ثلاثة أيام. ففي اليوم الأول من الاحتفال، حلق رأسه وسوى ذقنه ثم لبس أحسن ما عنده، هيأ نفسه، سيدخل مغامرة يريد أن يخرج منها ظافرا، بدأ تجواله قرب ساحة الضريح، خص هذا المكان بإقامة عروض الاحتفال. تنصب فيه خيام، تهيأ عليه أماكن للتبضع، وبعض المقاهي تقدم للزبائن الزوار مرطبات ومشروبات. جلس إلى طاولة داخل خيمة من الخيام التي نصبت هناك.. طلب مشروبا غازيا وملأ كأسا، شربها ثم ثانية، ظل ينظر إلى الفقيعات الصادرة عن المشروب، أحس بانتعاش. أيستطيع أن يطير كما هذه الفقيعات..؟ سأل نفسه. خمن أن يسافر بنظره، عبر أرجاء المكان ( مكان الاحتفال ). أناس يتحركون هنا وهناك، في أعمار مختلفة. قوافل بشرية، تتقاطر على عين المكان . نظر نحو جهة ازدحمت بالوافدين. كاد يغير اتجاه نظره، لكنه وبسرعة عاد بنظره نحو تلك الجهة. تبسم ابتسامة تنمشها فرحة، كأنه أبصر إنسانا عزيزا عليه، لم يره منذ مدة طويلة. رشف من كأس المشروب. تمتم في هدوء. وقف ثم جلس. أخرج مشطا من جيب قميصه، بدأ يمرره على شعر رأسه، ثم انحنى على حذائه، مسحه بيده، قد ملابسه. يريد أن يحقق حلمه.

كانت فتاة في هذه اللحظة، تتجه نحوه مسرعة ومبتسمة. ابتسم لها هو الآخر، وأسرع بدوره نحوها. وقف بقربها، صافحها، نظر إليها بنظرة.. دغدغت إحساسها، فضحكت حتى قهقهت. جلس فجلست إلى جانبه. لامس شعرها. تطلع إلى عينيها. كانت فتاة بقد ممشوق وبلباس يكشف كتفيها وفخذيها. سافر عبر خياله. شريكة لحياته كما تمناها. هي الآن أمامه سألها، من أين هي ؟. أخبرته، مقيمة خارج الوطن. أسرعت دقات قلبه متتابعة، وتحرك شعوره بالأمل، فلربما تحققت رغبته. فرك بين يديه وهو يخاطب نفسه، إن التي يبحث عنها هي الآن أمامه و بجانبه، إن تزوجها سيحقق حلمه ويسافر معها.

تحاورا وتساءلا.. خبر منها أنها غير متزوجة. أخذ بيدها واندفع بها داخل خيمة لكتابة عقود النكاح.

نصبت هذه الخيمة لهذا الغرض. جلس وسطها رجل، وضع كراسة على ركبتيه ودواة قرب قدميه، وقلما من قصب بين يديه. أخذا دورهما، ينتظران. إنه ينظر إليها، وهو غارق في تفكيره. يدون صاحب الكراسة والقلم أسماء الأزواج والشهود،ويثبت عناوينهم في كراسته. حل دورهما، ازدادت سرعة دقات قلبه. أحس ببرودة تلف جسده. جف حلقه وثقلت جثته. نزل به إحساس غريب، لم يعد قادرا على الحركة. حين وصل دورهما، لم يقو على الوقوف،بصعوبة تحرك، وهو يتقدم نحو صاحب الكراسة والقلم، متثاقلا ومتلعثما. سأله : تريد الزواج منها ؟ أومأ برأسه، وهو يجيب بصوت خافت. نعم. سألها : تريدين الزواج منه ؟. أجابت : نعم. سأله : أعزب ؟. أجاب : نعم. سألها : عزباء ؟. أجابت : نعم.. بدون بكارة.. انحنى صاحب الكراسة والقلم، يدون أقوالها. انتفض عاشور من مكانه صارخا وهو متجه نحو باب الخيمة مهرولا، ويصيح بصوت مرتفع ويردد : لا أريد هذه المغامرة. أسرع دون اتجاه. حين تعثر سقط على الأرض. فتح عينيه وجد عائلته قد تحدق فيه. هو لا زال يصرخ ويردد. لا أريد هذا الزواج. لا أريد هذه المغامرة. الجميع يحدقون فيه باستغراب. سأله أحدهم. أي زواج..؟ وأية مغامرة..؟ أجابهم : أن أتزوجها لا.. أن أهجر قريتي لا.. تحسس جسده.

كان ساقطا على الأرض، بجانب سريره، استدار فألقى نظرة على متاعه.. تبسم ابتسامة عريضة ثم أغمض عينيه. وفي الصباح، لما استفاق من نومه ركب أول حافلة، كانت متوجهة نحو المدينة.د برو


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى